ياسين شادي..الصفة البرلمانية بين المهمة والمهنة
مقدمة:
يعتبر وجود برلمان منتخب من قبل الشعب الركن الأساسي للنظام النيابي، إلا أن وجوده في أي دولة في الوقت الحالي لم يعد محلا للنقاش، بل إن النقاش اليوم يتجه نحو البحث عن كيفية تطوير عمل المجالس النيابية لتلعب دورا جوهريا في التطبيق السليم لمبادئ الديمقراطية، لذلك يعد البرلمان من أهم سلطات الدولة القادرة على تحقيق مطالب الشعب نظرا لاعتباره يجسد حلقة الوصل بين نسق الحكم وأفراد المجتمع.
يمر الحديث عن أهمية المؤسسة البرلمانية عبر أهمية أعضائها، إذ يشكل أعضاء المجالس البرلمانية في مختلف الدول الديمقراطية محور العمل السياسي، ذلك أن عضو المجلس البرلماني هو الجزء المعبر عن الكل المندمج في كيان واحد، مع استقلالية الأعضاء في أداء مهامهم المنوطة بهم، لذلك ينبغي على هؤلاء أن يعملوا في إطار دستوري ملائم يرسم الخطوط العريضة ويقرر المبادئ العامة التي تنظم شؤونهم. ومن هنا يأتي الحديث عن مكانة أعضاء البرلمان وكيفية اكتساب الصفة البرلمانية، وهل تعد هذه الاخيرة مجرد مهمة يتم أداؤها أم أن مفهوم الاحتراف يرتقي بها لدرجة المهنة، لاسيما وأن أعضاء البرلمان أكثر تنوعا من بقية السياسيين، باعتبار القبة البرلمانية فسيفساء ديمقراطية تضم جميع النخب والتيارات السياسية والحزبية والتمثيلية للمجتمع.
في هذا السياق تبرز إشكالية مركزية تطرح سؤال طبيعة الصفة البرلمانية من حيث ماهيتها وأسسها، ومن حيث إجراءات اكتسابها والشروط المنظمة لها، ومن حيث وصفها ونوعيتها بين جدلية المهمة والمهنة.
1- نشأة مفهوم الصفة البرلمانية:
تعد الصفة البرلمانية مفهوما مركبا يحيل على ذاك المواطن أو الشخص الذي تم انتدابه ليشغل العضوية في المؤسسة التشريعية لمدة معينة، ويمارس بذلك مجموع الاختصاصات الموكولة لأعضاء السلطة التشريعية. بالتالي فهو العضو الذي تم انتخابه ليمثل الأمة أو الشعب ويعبر عن مطالبهم ويساهم في تنظيم الشأن العام من خلال الصلاحيات المتعددة التي يناط له القيام بها، لاسيما منها التصويت على القوانين ومراقبة عمل الحكومة.
نشأ مفهوم الصفة البرلمانية بنشأة النظام البرلماني البريطاني، هذا الأخير الذي تأسس نتيجة صراع طويل بين الملوك البريطانيين الذين كانوا يطمحون لترسيخ حكم مطلق والطبقة الأرستقراطية التي كانت تحرص على صيانة امتيازاتها وتطمع في الحد من سلطات الملك المطلقة.
والجدير بالذكر أن هذا الصراع انطلق منذ استيلاء الملوك النورمانديين على عرش بريطانيا سنة 1066م ليستمر إلى حدود النصف الثاني من القرن السابع عشر، مخلفا بذلك انتصارات عديدة كان من بينها إصدار وثيقة العهد الأعظم MAGNA-CARTA، وعريضة الحقوق، وقانون سلامة الجسد، وأهم هذه الانتصارات تكريس سلطة البرلمان بمجلسيه (مجلس العموم، ومجلس اللوردات).
أما فيما يخص التجربة الفرنسية فقد ظهرت الصفة البرلمانية على مستواه بعد ثورة سنة 1789م، والانتقال من الملكية الدستورية إلى الجمهورية البرلمانية، غير أن هذا الوضع لن يستقر إلا بعد تكريس النظام البرلماني في فرنسا ابتداء من سنة 1875م.
كما أن مفهوم الصفة البرلمانية ظهر في التجربة السويسرية بمجرد أن تأسست الدولة سنة 1848م، مجسدة بذلك الديمقراطية النيابية على الصعيد الفدرالي ضمن البرلمان السويسري الذي يتألف من مجلس الولايات والمجلس الوطني، ومجسدة كذلك للديمقراطية المباشرة على صعيد مجالس الكانتونات.
أما التجربة المغربية فقد ظهرت الصفة البرلمانية على مستواها من خلال عدة إرهاصات تاريخية، تضمنتها الوثائق والنصوص ذات الطابع الدستوري، على رأسها مشروع دستور 1908م الصادر عن لسان المغرب، الذي تحدث عن ما سماه “منتدى الشورى” المكون من مجلس الأمة ومجلس الشرفاء، وقد نظمت مواد هذا المشروع كيفية اكتساب الصفة البرلمانية وشروط تنظيمها والحالات التي تتنافى ممارستها من قبل مكتسب الصفة البرلمانية. وبمجرد أن حصل المغرب على استقلاله سعى إلى تكريس الأسس الواقعية للصفة البرلمانية عبر إحداث المجلس الوطني الاستشاري، وهي تجربة بمثابة تمرين ديمقراطي، سعى المغرب من خلالها لترسيخ العمل النيابي كواقع. وفي سنة 1962م سيتم إحداث أول برلمان مغربي بمقتضى الوثيقة الدستورية التي أناطت لأعضاء مجلسيه (مجلس النواب ومجلس المستشارين) ممارسة اختصاصات دستورية تقريرية.
2- الصفة البرلمانية وسؤال الاحتراف:
في سنة 1919م ألقى المفكر والسوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920) بجامعة ميونخ محاضرتين، بعنوان: العلم باعتباره حرفة، والسياسة باعتبارها حرفة. وكان همه في المحاضرة الأولى تحديث العلم والتعليم بالجامعات الألمانية، أما في المحاضرة الثانية فقد انصب اهتمامه على مقاربة أسباب هشاشة الأحزاب السياسية في ألمانيا، وآليات علائقها بإدارة الدولة. وفي كلا المحاضرتين كان ماكس فيبر يرى وجوب تقليد التجربة الأمريكية في التعليم والبحث العلمي، كما في العمل السياسي.
وتتأسس وجهة نظره على كون الأحزاب السياسية في ألمانيا تنشأها -على خلاف الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية- ثلاث فئات:
- رجال الأعمال؛
- الآيديولوجيون؛
- أصحاب المهن الحرة.
وفي سائر هذه الحالات لا يساعد ذلك على ظهور السياسي المحترف، خاصة أن رجالات الأحزاب ومن دون أن يشعروا يصبحون تابعين لبيروقراطية الدولة القوية، أما الايديولوجيين منهم فإنهم يتحولون بالتدريج إلى انشقاق. وإذا ما اختار حزب العمل من خارج السلطة فإنه سرعان ما يهمش أو يصطدم بالسلطة، وفي كل الأحوال تهدد وحدة البلاد وتعم الفوضى، فتلجأ السلطة إلى استخدام الجيش، بتأييد من الشعب، ذلك أن الوضع ينتقل من الخوف من الدولة إلى الخوف عليها. ولذلك يقترح ماكس فيبر المخرج الذي يتمثل في التنشئة السياسية طويلة الأمد، التي تتيحها الأحزاب السياسية الكبرى أو الحزبين الكبيرين كما في التجربة الأمريكية. ويظل الفارق قائما بين بيروقراطية الدولة وبيروقراطية الأحزاب، لأنها بيروقراطيات تتجدد ولا تجمد، عبر إقامة الاستحقاقات الانتخابية بشكل متوال وعلى عدة مستويات، كما هو الحال في النظام الفدرالي بالولايات المتحدة الأمريكية.
من هذا المنطلق يمكن الحديث عن أن الصفة البرلمانية، باعتبارها أحد أهم تجليات الممارسة السياسية كما قررها ماكس فيبر، تتوزع بين مفهومين رئيسيين، الأول يحيل على كونها مجرد مهمة انتدابية محدودة الزمن والأفق، بل وتؤدي إلى نتائج عكسية في كثير من الأحيان، والثاني مفهوم المهنة باعتباره يحيل على الاحترافية Professionnalisme أو المهنية في الفعل السياسي عموما والعمل البرلماني على وجه الخصوص.
في هذا الصدد يؤكد ماكس فيبر لأهمية القيادة الكاريزمية للسياسي، والقائد الذي تحيطه مجموعة كبيرة ومتجددة من المحترفين، لكن هذا النمط مع دقته إلا أنه قد يؤدي إلى وصول عدد من الشعبويين إلى اكتساب الصفة البرلمانية أو ممارسة العمل السياسي بشكل بعيد عن الاحتراف، ففي الوقت الذي عرفت الدول الاوروبية شخصيات كاريزمية كشارل ديغول وتشرشل الذين التزموا بالانتخابات والقانون وصاروا محترفين سياسيين من خلال الصراع على السلطة وفق الآليات القانونية ومن داخل أحزابهم، عرفت أيضا تجارب أخرى شخصيات مغرقة في الشعبوية مع أنها محاطة بعدد هائل من الخبراء المحترفين، وتظل تجربة الرئيس دونالد ترامب أبرز مثال على هذا الأمر.
واللافت للنظر أن ماكس فيبر على الرغم من إحاطته بالنموذج الأمريكي وإبداء إعجابه بهذا الأخير إلا أنه أغفل نموذجا مؤسساتيا أكثر تعبيرا ووضوحا على الثنائية الجدلية بين متغيري المهمة والمهنة في علاقتهما بالممارسة السياسية وخاصة في العمل البرلماني، هو النموذج السويسري الذي يضم على مستوى البرلمان الفدرالي عددا من البرلمانيين المحترفين للسياسة الذين يتصفون بالمهنية ويخصصون أكثر من 80% من وقتهم للعمل البرلماني، كما أنهم تدرجوا في العمل السياسي بشكل يؤهلهم للنهوض بالشأن العام الفدرالي. هذا النموذج يضم كذلك ما يصطلح عليه بنظام الميليشيات المعمول به على مستوى الكانتونات في البلديات والإدارات المحلية، حيث يتم دعوة المواطنين إلى تحمل مسؤوليات لفائدة المجتمع في كافة القطاعات ذات الطابع العام. إذ يتم إسناد واجبات ومناصب عمومية لهؤلاء المواطنين بما في ذلك تلك التي تتسم بقدر لا بأس به من الأهمية، لفترات زمنية معينة، ويقومون بأداء هذه المهام على أساس فخري أو مقابل رسوم زهيدة.
يعود تاريخ اعتماد نظام الميليشيات في النموذج السويسري إلى ثلاثينيات القرن 19م وهي فترة ما سمي بحقبة “نظام الحكم القديم”، حيث تم إدماج نظام الميليشيات في إطار عملية دمقرطة تسميات السلطات الكانتونية، ليتوسع العمل به بعد ذلك في المستويات الثلاث المحلية، الكانتونية والفدرالية. ولازال نظام الميليشيات هذا هو المعمول به في المجالس التشريعية المحلية والكانتونية السويسرية، بل إن البعض يشير إلى أن تزايد حجم العمل المطلوب ونموه باستمرار سيجعل من معطى الاحتراف والمهنية أكثر حضورا، لاسيما وأن أعضاء البرلمان الفديرالي يعرفون أنفسهم كميليشيات، مع أنهم أضحوا ساسة محترفين في الواقع، إذ يخصصون جلّ وقتهم للأنشطة البرلمانية التي يتقاضون مقابلها أجرا لائقا.
ويستند نظام الميليشات على فكرة مفادها أن الفعل السياسي ما هو إلا عمل إضافي، ذلك أن العديد من أصحاب المهام السياسية في سويسرا يمتهنون عملا اعتياديا ويمارسون السياسة في أوقات فراغهم باعتبارها مهمة إضافية، حيث يترك نظام الميليشيات الحدود بين السياسة والناخبين مفتوحة، في حين يترك الشأن الفدرالي أو الوطني للساسة والبرلمانيين المحترفين الذين يمارسون الصفة البرلمانية باعتبارها مهنة لا مهمة.
أما بالنسبة للتجربة المغربية، فإن الملاحظ يرى خلطا بين العمل البرلماني كفعل سياسي مهني احترافي، يقتضي تكريس عدد من المعايير والضوابط والآليات، وبين المهام المنوطة لمكتسب الصفة البرلمانية القيام بها كواجبات تقع على عاتقه ويستلزم تطبيقها قدرا من الوعي والمعرفة السياسية.
3- اكتساب الصفة البرلمانية:
سبق أن أشرنا إلى أن الصفة البرلمانية تعد انتدابا لشخص يتم انتخابه ليمثل الأمة في القبة البرلمانية، وعلى هذا الأساس فإن مسألة اكتساب الصفة البرلمانية رهينة بنتائج العملية الانتخابية التي تنظمها مقتضيات القوانين التنظيمية وباقي النصوص المعيارية الأخرى.
في هذا الصدد عمل المشرع المغربي على تنظيم شروط اكتساب الصفة البرلمانية على مستوى مجلس النواب من خلال القانون التنظيمي لهذا المجلس، وكذلك فعل فيما يخص مجلس المستشارين. وبالعودة إلى مقتضيات القانون التنظيمي لمجلس النواب نجده ينص على العضوية بهذا المجلس تتم عبر الانتخاب بالاقتراع العام المباشر عن طريق اللائحة، حيث يتوزع الأعضاء المنتخبون على الشكل التالي:
- 305 عضو ينتخبون على صعيد الدوائر الانتخابية المحلية؛
- 90 عضوا ينتخبون برسم دائرة انتخابية وطنية تحدث على صعيد المملكة؛
وتجرى عملية الانتخاب هذه بالتمثيل النسبي حسب قاعدة أكبر البقايا، ودون استعمال طريقة مزج الأصوات والتصويت التفاضلي. غير أنه في حالة انتخاب جزئي أو إذا تعلق الأمر بانتخاب عضو واحد، يجرى الانتخاب بالتصويت العام بالأغلبية النسبية في دورة واحدة. كما أن المشرع اشترط لاكتساب الصفة البرلمانية ضرورة توفر شرط الأهلية في الناخب، وأن يكون هذا الأخير مقيدا في اللوائح الانتخابية العامة ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية، ومنع إمكانية الترشح للعضوية في البرلمان الأشخاص الذين فقدوا الأهلية بموجب المواد من 5 إلى 10 من القانون التنظيمي لمجلس النواب.
وقد أناط المشرع بالمحكمة الدستورية اختصاص التجريد من الصفة البرلمانية بمقتضى طلب يقدمه مكتب مجلس النواب أو وزير العدل، أو بطلب من النيابة العامة إذا تعلق الأمر بصدور إدانة قضائية بعد الانتخاب، أو بطلب من كل من له مصلحة في ذلك. إضافة إلى أنه يجرد من الصفة البرلمانية كل عضو تخلف عن إيداع جرد بمصاريفه الانتخابية داخل الأجل المحدد قانونا، أو لم يرفق هذا الجرد بالوثائق المثبتة للمصاريف ولم يستجب للإعذار الموجه له من طرف الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات. كما يجرد من الصفة البرلمانية من تجاوز السقف المحدد للمصاريف الانتخابية أو لم يبين مصادر تمويل حملته الانتخابية. في كل هذه الحالات يحيل الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات الأمر إلى المحكمة الدستورية لإعلان تجريد العضو المنتخب من صفته البرلمانية في المجلس المعني.
وينتج عن اكتساب الصفة البرلمانية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات المخولة للعضو البرلماني، ويتولى مباشرة اختصاصاته الدستورية وتلك المقررة له في النصوص القانونية الأخرى، سيما منها القانون التنظيمي للمجلس المنتمي له والنظام الداخلي لهذا المجلس. كما أن اكتساب الصفة البرلمانية تمكن العضو من الانضمام لإحدى اللجان البرلمانية والترشح لشغل المهام المتاحة على مستوى الأجهزة والهيئات المشكلة للهيكلة التنظيمية للمجلس البرلماني. إضافة إلى إمكانية الترشح لشغل العضوية في المحكمة الدستورية، والتمتع بالحصانة البرلمانية إذ لا يمكن متابعة صاحب الصفة البرلمانية بمناسة إدلائه برأي أو إبداء سؤال، إلا إذا كان يجادل في النظام الملكي أو إسلامية الدولة أو الوحدة الترابية أو الاختيار الديمقراطي.
وتجدر الإشارة إلى أن اكتساب الصفة البرلمانية يتنافى مع عدد من الصفات المغايرة، إذ نص القانون التنظيمي لمجلس النواب على أن العضوية في المجلس تتنافى مع:
- صفة عضو في مجلس المستشارين؛
- صفة عضو في المحكمة الدستورية؛
- صفة عضو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛
- صفة عضو في الحكومة؛
- رئاسة مجلس الجهة، أو رئاسة مجلس جماعة، أو رئاسة مجلس العمالة أو الإقليم، أو رئاسة مجلس المقاطعة أو رئاسة مجموعة تؤسسها جماعات ترابية؛
- مزاولة مهمة عمومية ضمن الشركات التي تملك الدولة أكثر من نسبة 30% من رأسمالها؛
غير أنه يستثنى من حالات التنافي هذه المأمورية المؤقتة التي تناط للعضو بتكليف من الحكومة ، وأنه بمجرد انتهاء مدة الانتداب يعاد المعني بالأمر تلقائيا إلى سلكه بإدارته الأصلية.
وما دام سير العمل البرلماني مرتبط بالعهدة البرلمانية، فإن الصفة البرلمانية ليست ممارسة أبدية، بل مقيدة بأجل أو بمدة محددة، تنقضي بنشوء الأسباب القانونية لها. ذلك أن الامتيازات المرتبطة بمكتسب الصفة البرلمانية لا تمنح لذاته، وإنما تمنح على أساس مراكزهم القانونية، مما يعني أن هذه الامتيازات تنتهي بانتهاء العهدة البرلمانية التي انتخب لها العضو البرلماني. وهذا يفيد أن الامتياز أو الحقوق والالتزامات البرلمانية تقترن وجودا وعدما بتولي المنصب البرلماني، وتنقضي بشكل عاديا بانتهاء مدة المجلس المحددة دستوريا، أو بحل المجلس، أو في حالة الترحال السياسي، أو بالوفاة، أوالاستقالة، أو بتولي منصب عام آخر يتنافى وإمكانية الاستمرار بالصفة البرلمانية. وفي كل هذه الحالات يترتب عن ذلك شغور المقعد البرلماني، وحتى لا يفقد البرلمان صلاحياته التمثيلية للأمة، يتم استخلاف المقعد الشاغر عن طريق إجراءات محددة قانونا.
4- الإطار القانوني للصفة البرلمانية
أعضاء البرلمان لا يستطيعون القيام صلاحياتهم إلا إذا كانوا مؤطرين ضمن هياكل محددة سلفا، وهذه هي الوظيفة التي يؤديها النظام الداخلي للمجلس البرلماني الموضوع من قبل أعضائه، هذه الهياكل التي يمكن تسميتها بالإدارة البرلمانية، إذ تعتبر إدارة عامة للمجلس يتولاها هيئات وأجهزة برلمانية سياسية وإدارية عامة، وتهدف لتحقيق أهداف المصلحة العامة في مجال السلطة التشريعية للدولة، بواسطة عمليات تضمن حسن سير وانتظام اختصاصات التشريع والرقابة والتقييم بالبرلمان، وإنجاز أعمالها وأهدافها بصورة ناجعة وفعالة في حدود أحكام دولة القانون والمؤسسات.
ولأجل تنظيم وضبط هذه العمليات بمختلف تفرعاتها وما تقتضيه من ممارسة وجب إقرار عدد من المقتضيات القانونية التي تؤطر عمل مكتسب الصفة البرلمانية، وهذه المقتضيات نجدها موزعة بين الوثيقة الدستورية والقوانين التنظيمية للبرلمان والأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان.
تحتاج الممارسة البرلمانية إلى التقيد بالإجراءات والالتزام بالضوابط على اعتبار أن الصفة البرلمانية المكتسبة بمناسبة العضوية بأحد المجالس البرلمانية هي تكليف يرتب المسؤولية، وأي خرق للنصوص القانونية أو الأنظمة الجاري بها العمل يمكن أن يؤدي إلى فقدان العضوية البرلمانية قبل نهايتها المحددة دستوريا وقانونيا.
تشمل إجراءات تنظيم العضوية البرلمانية تنصيب الهياكل من أجهزة رئيسية وهيئات وتنظيم سير العمل البرلماني، وبالرجوع إلى الأنظمة الداخلية للبرلمان نجدها نصت على الأجهزة الرئيسية (الدائمة) باعتبارها أساس العمل البرلماني، والتي من خلالها يتحكم الأعضاء في مردود العمل البرلماني. وعادة ما تكون هذه الأجهزة مشتركة لكلا الغرفتين بالنسبة للدول التي تأخذ بنظام الغرفتين (بيكاميرالية)، ولكل جهاز من هذه الأجهزة صلاحيات واختصاصات محددة ضمن الأنظمة الداخلية للمجالس البرلمانية في هذه الدول، ومن بين هذه الأجهزة:
- رئيس المجلس؛
- مكتب المجلس؛
- اللجان الدائمة؛
- الفرق؛
- المجموعات؛
- هيئة الرؤساء؛
كما تحدد هذه المقتضيات الدورات العادية والاستثنائية للمجلس، وكيفية عقد الجلسات العمومية وعلنيتها ومتى يمكن عقدها بشكل سري، بل وتحدد شكل اللباس القومي، والاستقبالات، والجلسات المشتركة بين المجلسين، والحضور والغياب، وغيرها من المواضيع التي تسهم في ضبط حسن سير عمل المؤسسة البرلمانية.
5- اختصاصات مكتسب الصفة البرلمانية:
يمارس صاحب الصفة البرلمانية اختصاصات وصلاحيات عديدة، يأتي على رأسها الاختصاص التشريعي، وهي صلاحية تمكن عضو المجلس البرلماني من المشاركة في صناعة النص القانوني، إما من خلال المبادرة عن طريق سلطة الاقتراح، وفق المسطرة المحددة قانونا، وإما عبر المناقشة والتعديل في المشاريع التي تحال على المجلس البرلماني من طرف السلطة التنفيذية، وإما بالتصويت على هذه المشاريع أو المقترحات.
كما أن مكتسب الصفة البرلمانية يساهم في تجويد المنظومة التشريعية لاسيما من خلال الإحالة على القضاء الدستوري، إذا ما بدا له شك أو ظهر له أن النص المراد إصداره يخالف الدستور صراحة أو ضمنيا.
وتجدر الإشارة إلى أن دستور 2011 ارتقى بالاختصاص التشريعي من خلال توسيع دائرة المجالات التي يمكن لصاحب الصفة البرلمانية أن يشرع فيها، حيث بلغت 30 مجالا، دون احتساب القوانين التنظيمية التي نصت عليها الوثيقة الدستورية صراحة والتي تصل 21 قانون تنظيمي.
ويمارس صاحب الصفة البرلمانية أيضا اختصاص الرقابة على عمل الحكومة، وقد قام المشرع المغربي بالنص صراحة على هذا الاختصاص للمتصف بالبرلماني سواء كان نائبا أو مستشارا، وذلك من خلال آليات متعددة كالأسئلة الكتابية والشفوية، والمهام الاستطلاعية، ولجان تقصي الحقائق، وملتمس الرقابة، وملتمس المساءلة، وغيرها من آليات الرقابة البرلمانية على عمل الحكومة التي يرتب على بعضها قيام المسؤولية السياسية.
إضافة إلى أن مكتسب الصفة البرلمانية يساهم في تقييم السياسات العمومية باعتبار هذه الاخيرة من الاختصاصات التي أقرها المشرع الدستوري المغربي، وأناط ممارستها لأعضاء البرلمان، ولعل أبرز تجسيد لممارسة صاحب الصفة البرلمانية لمهمة تقييم السياسات العمومية هو ما تضمنه الفصل 101 من دستور 2011 الذي ينص على عقد جلسة سنوية لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها، كما يتم كذلك عقد جلسة شهرية لتقديم الأجوبة من طرف رئيس الحكومة حول مختلف الأسئلة التي تتعلق بالسياسات المنتهجة بالمغرب.
وعلى الرغم من أن صاحب الصفة البرلمانية منوط به أساسا القيام بمهام تندرج ضمن التشريع والرقابة، إلا أن المشرع الدستوري أشار ضمن مقتضيات الفصل 10 إلى إمكانية ممارسة صاحب الصفة البرلمانية لمهام دبلوماسية، في إطار ما تم تخويله للمعارضة البرلمانية من إمكانات المساهمة في الدفاع عن القضايا الوطنية العادلة عبر مسمّى الدبلوماسية البرلمانية. وهذه الآلية وإن كانت في أصلها من اختصاص الفاعل الحكومي المكلف بالخارجية، إلا أنها تظل وسيلة موازية للعمل الأصيل الذي يختص به السفراء والقناصلة.
6- ضمانات العضوية البرلمانية:
يتمتع صاحب الصفة البرلمانية بعد اكتساب عضويته بضمانات نيابية، وهي مجموعة من الامتيازات التي تكفل للنائب/المستشار حقه وحريته في التعبير عن مصالح الأمة. وتنقسم هذه الضمانات الممنوحة لعضو البرلمان إلى قسمين أساسين، الأولى تتمثل في الضمانات القانونية كالحصانة البرلمانية، والثانية ضمانات مادية كالمكافأة البرلمانية نتيجة ما يخصصه صاحب الصفة البرلمانية من وقته للعمل البرلماني، والتمتع بنظام التقاعد بعد نهاية العهدة البرلمانية (بعض التجارب قامت بإلغاء نظام التقاعد البرلماني وبعض التجارب لازالت تعمل به)
ومن بين أهم الضمانات المادية التي يستفيد منها صاحب الصفة البرلمانية ما يصطلح عليه بالمكافأة البرلمانية أو الامتيازات البرلمانية، وهي مبلغ مالي يعطى شهريا لعضو المجلس البرلماني كتعويض له مقابل تحمله لنفقات العضوية، وذلك ليتفرغ العضو للعمل البرلماني.
في هذا الصدد يرى أندري هوريو أن الهدف من التعويض البرلماني هو رفع العوز ودفع الإغراء عن النائب وهذا التعويض ضروري، بعد أن أقر الاقتراع الشامل، بحيث أتيح للمواطنين من الطبقات المحتاجة في الأمة أن يصبحوا نوابا.
أما فيما يخص التجربة المغربية فأعضاء البرلمان يتقاضون أجرة شهرية تصل 36 ألف درهم، بما يعادل 432 ألف درهم سنويا يتقاضاها كل نائب، أي أن البرلماني يصل مجموع ما يتقاضاه خلال خمس سنوات 25.920.000,00 درهم. فيما يتقاضى رئيس الفريق في المجلس البرلماني مبلغ 43 ألف درهم في الشهر، ورئيس اللجنة البرلمانية مبلغ 41 ألف درهم في الشهر. وكان تقاعد النائب لا يقل عن 5 آلاف درهم، لكن تم إلغاء العمل بنظام التقاعد في مجلس النواب المغربي.
خاتمة:
تكتسي الصفة البرلمانية طابعا مهما من حيث مكانتها الاعتبارية وتنظيمها القانوني والصلاحيات المنوطة بمكتسبها، الذي تخصص له مجموعة من الضمانات والامتيازات التي تغنيه عن الانشغال عن العمل البرلماني بأي عمل آخر. على هذا الأساس صار من اللازم الانتقال بالعمل البرلمانية من الممارسة العادية للمهام الانتدابية إلى إضفاء الطابع المهني والاحترافي على مكتسب الصفة البرلمانية، وهذا لا يمكن أن يتم دون اقتران اكتسابها بشرطية الكفاءة العلمية والتنشئة السياسية عبر التدرج في تقلد المناصب والمسؤوليات الحزبية، للتمرس على العمل السياسي بالشكل الذي يجعل من صاحب الصفة البرلمانية محترفا ملما بالمسائل الدقيقة دستوريا وسياسيا ومؤسساتيا.
مراجع مختارة:
الدستور المغربي لسنة 2011؛
القانون التنظيمي لمجلس النواب المغربي؛
النظام الداخلي لمجلس النواب المغربي؛
ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2011؛
محمد الحاج قاسم، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الطبعة الأولى، سنة 2013.
نوال لصلج، مكانة عضو البرلمان في الدساتير العربية: دراسة مقارنة، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق، جامعة الحاج لخضر الجزائر، 2015-2016؛
Oscar Mazzoleni, Critique et légitimation de la professionnalisation parlementaire en suisse, Boeck superieur, 2006/3, N°75, p 163 à 184.