الدكتور “عبد الله الجابري” يكتب: العلماء والاجتهاد
للاجتهاد مكانة سامية في العلوم الإسلامية، ووقع خاص في نفوس العلماء.
ومقام المجتهد لم يصله أي كان، كما أن العالم لا يرتقي إلى مرتبة الاجتهاد بالبروباغندا والدعاية الإعلامية والإيديولوجية والتنظيمية.
وغير خاف على متتبعي كتب التراجم والطبقات، من المبالغة في الإطراءات، فمن ليس بمحدث صار محدثا كما زعم عبد الحي الكتاني عن الشاطبي، ومن لم يكن مجتهدا أُطلقت عليه نعوت الاجتهاد، أما لقب شيخ الإسلام فأُطلق على نصف العلماء أو يكاد.
وكعادتي، فإنني لا أتأثر بالإطراءات ولله الحمد والمنة وإن تطابق على إيرادها الجلة، حتى أراها ملموسة محسوسة.
وسنقف هنا عند نماذج يستضاء بها في الليالي المدلهمة التي نمر بها.
النموذج الأول: أبو إسحاق الاسفراييني.
…………………
هذا العالم من أشهر مشاهير العلماء، وله المصنفات البارعة، وتخرج علي يديه العلماء الكبار، ولما ترجمه المترجمون، لم ينساقوا وراء البروباغندا، وقالوا فيه عبارة دقيقة: “يقال إنه بلغ رتبة الاجتهاد”.
[يقال] فقط، وهي صيغة تمريض، ولا جزم فيها ولا يقين.
وبما أن عصر العلماء لم يكن عصر نظام التفاهة، فإنه لم يستنكر أحد على هؤلاء، ولم يقولوا لهم: إن من ألف هذه المؤلفات لا يمكن أن يكون إلا مجتهدا.
رحم الله العلم، ورحم الله أهل العلم. ورحم الله الصرامة العلمية.
النموذج الثاني: إمام الحرمين والغزالي.
” ” ” ” ” ” ” ” ” ”
يكفي ذكر هذين الإسمين حتى نخضع بجباهنا إلى الأرض احتراما وتوقيرا وتقديرا. لكن للعلماء في تقويم الرجال منحى آخر.
قال الشهاب الكوراني: “لو ادعى الإنسان الخلو عن المجتهد يجب ألا يخالفه أحد، لأن مثل إمام الحرمين والغزالي لم يعدّ من أصحاب الوجوه، فضلا عن رتبة الاجتهاد، ومن بعدهما لا يلحق غبارهما”.
لنتأمل أننا نتحدث عن الجبلين الأشمين، والعملاقين البارعين، والمصنفين التي انتشرت مصنفاتهما في الآفاق، وطار بذكرها الركبان، وعرفها الصغير قبل الكبير. هما الجويني والغزالي، وكفى بهما إمامة.
ومع ذلك، هل سلموا لهما بمرتبة الاجتهاد؟
لا. والتاريخ شاهد.
ليسا من أصحاب الوجوه،
وليسا من أصحاب الاجتهاد.
وبما أن الكوراني لم يعش في عصر سيادة نظام التفاهة، فإنه لم ينتفض ضده أحد، ولم يحتج عليه أحد، ولم يقل له أحد يكفي أن فلانا ألف الوسيط والبسيط والمنخول والإحياء والمستصفى ووو ليكون مجتهدا.
الناس كانت لديهم معايير وضوابط، وعصر التفاهة لا تنبني الأفكار فيه إلا على البروباغندا.
ومقولة الكوراني نفيسة من الناحية المنهجية، لأنه فرّق بين نفي الاجتهاد وإثباته.
فمن نفى صفة الاجتهاد يُسلّم له، لذا قال: “لو ادعى الإنسان الخلو عن المجتهد يجب ألا يخالفه أحد”.
ويُفهم منه أن من أثبت صفة الاجتهاد يناقَش.
ونحن نفينا صفة الاجتهاد عن الشاطبي، فكانت الزوابع الرملية. والسب والشتم، كل هذا لإثبات نظرية الكندي ألان دونو مؤلف كتاب نظام التفاهة.
وتحدينا القوم أن يأتوا بعشر قضايا اجتهد فيها الرجل فلم يجاوزوا: كيف لمؤلف الموافقات ألا يكون مجتهدا. أما المتقدمون الذين يحترمون العلم لم يقولوا: كيف لمؤلف المستصفى ألا يكون مجتهدا؟ مع العلم أن المستصفى أفضل وأدق وأمتع وأفيد من الموافقات.
نموذج الغزالي في شرط الاجتهاد:
” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ”
نص الغزالي رحمه الله على أن العالم لا يكون مجتهدا إلا إن مارس الاجتهاد، وليس من شروط الاجتهاد المعرفة بتفاريع الفقه.
بمعنى أن الاجتهاد ليس دعوى يدعيها البعض، أو تُدّعى له، وإنما هو ممارسة وصنعة، يقتحم عقبتها العالم المتمكن، ومن لم يمارس الاجتهاد لا يسمى مجتهدا.
قلت: هنيئا للغزالي الذي قال هذا الكلام في وقت كانت للعلم قيمة، ولو قالها اليوم لواجهوه: قد يكون العالم مجتهدا بالقوة دون أن يكون مجتهدا بالفعل، كما قالوا اليوم عن الشاطبي، وهم مغفور لهم، لأنهم يعيشون في عصر نظام التفاهة، وفي نظام التفاهة يجوز ما لا يجوز في عصور العلم.
وأختم بنموذج استثنائي، نموذج الإمام السبكي.
………………..
تقي.. الدين السبكي، إمام مشهور، طبقت شهرته الآفاق في عصره، وتولى المناصب التي يسيل لها اللعاب، وله تآليف مهمة، وتخرج عليه أئمة كبار، منهم ابنه الإمام.
هل كانت شهرته تشفع له ليقال عنه مجتهد؟
هل كانت تآليفه تشفع له ليقال عنه مجتهد؟
هل كانت طبقة تلاميذه الأعلام تشفع له ليقال عنه مجتهد؟
كلا. هنا الصرامة العلمية. هنا الصرامة المنهجية، هنا الدقة، لا مجال للبروباغندا.
نستمع إلى نص يستحق أن يكتب بماء الذهب.
قال أبو زرعة العراقي: “قلت مرة لشيخنا الإمام البلقيني- رحمه الله تعالى-: ما يقصر بالشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلاته؟ وكيف يقلد؟ ولم أذكره هو استحياء منه لما أريد أن أرتب على ذلك، فسكت عنه.
فقلت: ما عندي أن الامتناع من ذلك إلا للوظائف التي قررت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء من ذلك، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من استفتائه ونسب للبدعة، فتبسم ووافقني على ذلك”.
تنبيه: هذا نص الكبار يتحدثون عن الكبار.
العراقي يتحدث مع البلقيني عن السبكي. فتنبه ولا تستعجل.
كان العراقي يعتقد أن السبكي والبلقيني غير مجتهدين.
مَن؟ أعِد الأسماء حتى لا ننسى
السبكي والبلقيني غير مجتهدين.
طرح العراقي سؤالا على البلقيني حول السبكي، لماذا لم يجتهد؟ لماذا لم يكن مجتهدا؟
لم يغضب البلقيني؟
لم يسخط البلقيني؟
لم يضجر البلقيني؟
لم يقل له: فلان الذي ألف كيت وكيت لا يمكن إلا أن يكون مجتهدا.
فلان الذي كان مقصودا في الفتوى لا يمكن إلا أن يكون مجتهدا.
هذا هراء، هذا دفع بالصدر، هذا تخربيق، والبلقيني جليل، يصون لسانه عن العبث.
أجاب العراقي نفسَه، وعلل عدم اجتهاد السبكي لكون المجتهد يفر منه الناس، ويحرم من الوظائف، إلى غير ذلك.
بعد هذا البيان، لم يضجر البلقيني، ولم يستنكر، ولم يقل له: أنت تنتقص من الإمام كما يردد حدثاء الأسنان في عصر نظام التفاهة. بل تبسم وأبدى موافقة العراقي على ما قاله في شيخ الشيوخ.
هذا هو الفرق بين عصر العلم، وعصر البروباغندا.
وللإشارة، فإن العراقي يعتبر البلقيني –من خلال هذا النص- غير مجتهد أيضا. فانظر إلى زوايا نظر أهل العلم. ولا تتعجب.
” ” ” ” ” ” ” ”
ختاما… وقفت عرَضا على نص للفقيه مصطفى الزرقا، يبين من خلاله أن الشاطبي لم تكن له شهرة تُذكر، وكان في زوايا النسيان، ذكر ذلك في مقدمة كتاب فتاوى الشاطبي، فالمرجو من الشاطيبيست أن يشنوا حملة تسفيه ضد الفقيه الزرقا، جزاهم الله خيرا.