مقالات

ياسين شادي..العقلنة البرلمانية

يكتسي مبدأ الفصل بين السلطات أهمية بالغة، ذلك أنه احتل -منذ ظهوره- مكانة جوهرية عند الفقهاء الدستوريين وصار معيارا أساسيا في تصنيف الأنظمة السياسية، على اعتبار أنه ليتم تكريس حسن سير مصالح إدارات الدولة، لكي تصان الحريات، ويمنع الاستبداد، فإنه من اللازم ألاّ ترّكز السلطات في يد هيئة واحدة.

ذلك أنه يجب أن تمارس كل سلطة وظيفة خاصة بها، فتمارس السلطة التشريعية وظيفة سن القوانين، وتمارس السلطة التنفيذية مهمة تنفيذ القوانين، على أن تكون وظيفة السلطة القضائية هي الفصل في النزاعات التي قد تحصل بسبب تطبيق القوانين.

وبالرجوع للنظام البرلماني الذي يقوم على أساس التعاون والتوازن والتأثير المتبادل بين السلط الثلاث فالبرلمان يستطيع سحب الثقة من الحكومة وإسقاطها، كما للحكومة صلاحية حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة. وفي إطار التقسيم الكلاسيكي الجامد للنظم السياسية هناك نظم سياسية مختلطة تجمع بين أكثر من سمة من سمات النظم السياسية، من بينها النظام شبه الرئاسي الذي يمزج بين آليات النظام الرئاسي وآليات النظام البرلماني، ولعل أهم نموذج لهذا النظام هو الذي يسود في فرنسا منذ 1958، أي منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة في عهد الجنرال شارل ديغول Charles de Gaulle و Michel Debré لميشيل دوبري [1]، بعد تجربتي الجمهوريتين الثالثة والرابعة اللتان شهدتا انعدام استقرار الحكومات، لكثرة أزماتها السياسية.

وقد خضعت العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في عهد الجنرال ديغول للتوازن والتعاون وتأثرهما بوسائل الضغط المتبادل، حيث غدآ بإمكان رئيس الدولة حلّ البرلمان، كما يحق للحكومة حل البرلمان[2]، وذلك راجع بالأساس لما يسمى “بالعقلنة البرلمانية” التي طبعت النظام الدستوري الفرنسي في الجمهورية الخامسة بوصفها فلسفة في الحكم تمنع من هيمنة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية.

 

لهذا تم تأسيس السلطة التشريعية من خلال مجموعة من المستويات والآليات من أهمها تحديد المجال التشريعي، في إطار ما تسميه الكتابات الفقهية بالعقلنة البرلمانية، هذه الأخيرة التي تقوم على إقصاء أطروحة “البرلمان المشرّع الأوحد”، واعتماد نظرية “البرلمان المشرّع بتعاون وتشارك مع السلطة التنفيذية”، وذلك من أجل ضمان الانسجام والاستقرار في أوضاع الحكم وأساليب تدبيره، أو هي بالأحرى نظرية اقتسام للسلطة التشريعية بين البرلمان والحكومة.

وعليه فإن فلسفة العقلنة البرلمانية هي مجموعة مبادئ وآليات يتبناها المشرع الدستوري أو العضوي كطريقة مرجعية محددة لمضامين الوظيفة التشريعية، فأضحت علاقة الحكومة بالبرلمان محددة على أساس التعاون والتوازن بين السلط، انطلقت وتأسست في الجمهورية الفرنسية الخامسة، واقتبسها المشرع المغربي نتيجة الارتباط والصلة التاريخية مع فرنسا، فجعل بدوره من مبادئ العقلنة البرلمانية فلسفة ومرجعية محددة للعمل البرلماني المغربي خاصة على مستوى التشريع.

وقد عـرف Boris MIRKINE-GUTZEVITCH العقلنة البرلمانية على أنها “مجموعة من الآليات التي تهدف إلى ضمان استقرار السلطة التنفيذية”.

أما الدكتور رشيد المدور، فيعرفها على أنها الآليات الدستورية التي تهدف إلى ضمان استقرار السلطة التنفيذية[3]، وبتعبير آخر تضمنه كتاب “البرلمان في ضوء مستجدات الدستور بكونها: “مجموعة من الآليات الدستورية الرامية إلى التقليص من مجال القانون، والحد من سيادة البرلمان في ممارسة التشريع والرقابة، وإخضاع أعماله للرقابة الدستورية لمنع هيمنته عــــلى السلطة التنفيذية وضمان استقرارها”.

وذهب بعض الباحثين إلى تعريف العقلنة البرلمانية le parlementarisme rationalisé بأنها فلسفة تقتضي التقليص من عمل البرلمان على مستوى مراقبة الحكومة وعلى مستوى الوظيفة التشريعية، في مقابل تقوية مركز السلطة التنفيذية.[4]

واللاّفت للنظر، أن بعض الكتابات تصف العقلنة البرلمانية بأنها تفضي إلى المغالاة في الانتصار للأغلبية على حساب حقوق المعارضة، في حين ذهب البعض إلى اعتبار مسألة عقلنة العمل البرلماني لم يكن يقصد منها في عقول مكوناته السياسية سنة 1958، الحد من سلطات البرلمان وإنما جعله يستخدم اختصاصاته بشكل واضح. حيث ركزت العقلنة آنذاك على الكثير من المجالات، من بينها القضايا التي تؤدي إلى عدم استقرار الحكومات، ومن أهم تلك المجالات: المجال المالي، باعتباره أهم مجال لإنجاح عمل الحكومة أو لاضعافها.[5]

وقد تطرقت بعض الدراسات لتجربة العمل البرلماني الفرنسي باعتباره مهد فلسفة العقلنة البرلمانية، حيث وصفت الممارسة البرلمانية الفرنسية منذ 1958 بالسلبية، سواء على المستوى المعياري أو على المستوى التطبيقي، على أساس أن المجالس التداولية لم تقدم أي فائدة أو تأثير إيجابي للسياسات الوطنية، واقتصرت فقط على رد الفعل تجاه قرارات السلطة التنفيذية، بل إن هذه الدراسات ذهبت إلى القول بأن أي إصلاح لن يساهم في تقدم الممارسة البرلمانية وذلك بالنظر إلى كونها خاضعة لتأثير رئاسة الجمهورية الحاسم.[6]

على هذا الأساس تم إنشاء المجلس الدستوري بفرنسا باعتباره أحد أهم التجليات التي تفترضها فلسفة العقلنة البرلمانية، بما هي أداة للحدّ من حرية البرلمان، وكبح الأكثرية الحاكمة وردعها عن إحداث تغييرات جذرية قد تُشكل خللا في التوازن السياسي، وقد تُمثل انحرافا عن المبادئ والقواعد الدستورية، ومن تم أوكل المشرِّع الفرنسي إلى المجلس الدستوري مهمة الرقابة السابقة على دستورية القوانين والأنظمة الداخلية *[7] للجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، لتأكيد مبدأ المشروعية وضمان سمو الدستور الشكلي والموضوعي[8].

فالمشرع الدستوري وإن متّع البرلمان باختصاص وضع نظامه الداخلي، إلا أنه لم يقر له بالسيادة التامة في ذلك، حيث نص الفصل 69 من الدستور المغربي على أنه يضع كل من المجلسين نظامه الداخلي، ويقره بالتصويت، إلا أنه لا يجوز العمل به إلا بعد أن تصرح المحكمة الدستورية بمطابقته لأحكام الدستور. وكان الهدف من إخضاع النظام الداخلي للبرلمان لرقابة المجلس الدستوري هو منع أن يُتخذ النظام الداخلي من لدن البرلمان ذريعة لتوسيع اختصاصاته أو التعدي على اختصاصات الحكومة أو عرقلة نشاطها.[9]

وعليه فإن فلسفة العقلنة البرلمانية تتحدد في مجملها في ضبط سير المؤسسة البرلمانية وتأطير ممارستها لاختصاصاتها بالتنصيص في الدستور والقوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية للبرلمان، على القواعد المنظمة لدوراتها والمحددة لملامح ومراحل الإجراءات التي تتبعها لإنجاز مهامها في ميدان التشريع والمراقبة، كما أنها تجعلها تتقيد بالأحكام الدستورية المتعلقة بتوزيع الاختصاصات بين السلطتين التشريعية والتنظيمية.

بقلم ياسين شادي

هوامش:

[1] – ميشال دوبري -1912/1996- من كبار السياسيين الفرنسيين رجل دولة مرموق به مجموعة من المؤلفات، تقلد العديد من المناصب حيث كان وزيرا أولا ووزيرا للمالية…، أشرف على صياغة دستور الجمهورية الخامسة بفرنسا الصادر سنة 1958 بعد أن كلفه بذلك شارل ديغول.

 

[2] – محمد سرار، العقلنة البرلمانية بالمغرب ومجالات التدخل الحكومي في مجال التشريع في ظل دستور 2011، مجلة العلوم السياسية والقانون، العدد 18، المجلد 03، نونبر 2019، ص 88.

 

[3] – رشيد المدور، إشكالية النظام الداخلي للبرلمان في ضوء الدستور الجديد 2011، دراسة تحليلية دستورية، الجزء الأول، أطروحة دكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، تخصص القانون العام والعلوم السياسية، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، أكدال، 2014-2015، ص 66.

 

[4] – وليد شريط، مشاركة الحكومة البرلمان في ممارسة وظيفة التشريع في ظل الدساتير المغاربية، دراسة مقارنة، جامعة دحلب البليدة، ص1.

 

[5] – Mathietouziel، Droit constitutionnel، 2017، p: 7.

 

[6] – رشيد المدور، إشكالية النظام الداخلي للبرلمان في ضوء الدستور الجديد 2011، المرجع السابق، ص 67.

 

[7] – *عرفها الأستاذ د. رشيد المدور بأنها مجموعة من المقتضيات التشريعية المكتوبة، ذات الطبيعة الخاصة، يضعها كل مجلس برلماني ويصادق عليها وفقا للمسطرة العادية دون أن تخضع لعملية الإصدار وتهدف إلى تدبير المجال الخاص بكيفية تنظيم المجالس وتسييرها وانضباط اعضائها، غير أنه لا يشرع في العمل بها إلا بعد التصريح بمطابقتها لأحكام الدستور” انتهى.

 

-رشيد المدور، إشكالية النظام الداخلي للبرلمان في ضوء الدستور الجديد، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية، عدد 111، سنة 2016، ص 61.

 

[8] – رشيد المدور، مراقبة دستورية الأنظمة الداخلية للبرلمان في المغرب – مقاربة في الخصائص والمنهج-، مطبعة طوب-بريس، الطبعة الأولى، الرباط، سنة 2008،  ص21

 

[9] – رشيد المدور، المرجع نفسه، ص27. (بتصرف).

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى