مقالات

ياسين شادي ..مبدأ الحكامة الأمنية: المفهوم والمرجعية

يعتبر توفير الأمن من الوظائف الأساسية للدولة، إذ تشكل المؤسسات الأمنية في جل البلدان، سواء العسكرية، الشرطية أو الاستخباراتية، أهم المؤسسات المعبرة عن صورة الدولة وتمثلاتها لدى العموم، وهذا ما يمنح للمؤسسات الأمنية، الفعالة والمهنية، تأثيرا قويا وإيجابيا على ثقة الناس بكيان الدولة. غير أن الواقع يثبت في أحايين كثيرة أن بعض المؤسسات الأمنية، تعجز عن حماية السكان من الأخطار، كما قد تعجز عن ضمان أمنهم، وقد لا يقتصر الأمر بالنسبة لهذه المؤسسات في عدم حماية الأفراد والمجتمعات والممتلكات، بل إنها قد تمس بأمن السكان الذين عهد لها بمهمة حمايتهم فتعتدي عليهم بدل ضمان أمنهم. ومن هذا المنطلق يتبين أن هدف سياسات وبرامج إصلاح مرفق الأمن وإرساء الحكامة في القطاع الأمني، يتمثل في المساعدة على ضمان السلامة للأشخاص، وذلك رهين بتعزيز فعالية ونجاعة المؤسسات الأمنية، مع التزامها بسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، فضلا عن إخضاعها لآليات الرقابة والمحاسبة.

لقد أدى ظهور ديناميات أمنية جديدة في المغرب كما في مختلف أرجاء العالم، وتكاثر التهديدات العابرة للحدود، بما في ذلك ظاهرة الإرهاب، الاتجار بالبشر، المخدرات، الأسلحة، التهريب، تطور الجريمة المنظمة وتزايد مظاهر العنف المسلح وانتشار الجرائم الإلكترونية، أدى كل ذلك إلى التشكيك في نجاعة الأساليب التقليدية المتبعة في مجال الأمن، وعزّز جدوى المطالبة بتبني الحكامة الأمنية، بل صارت هذه الحكامة من ضمانات الانتقال الديمقراطي، ذلك أن ضمان أمن الدولة والحالة الأمنية للأفراد والمجتمعات أمران مرتبطان متلازمان، وبعبارة أخرى لا أمن للدولة دون أمن السكان. وهذا ما يطرح تحديا كبيرا أمام السياسات الأمنية التي تعتمدها الدولة لإصلاح قطاع الأمن، ويدعو إلى اعتماد أساليب حديثة تجمع بين الدور المركزي للدولة في حفظ أمن وسلامة الأفراد والمجتمعات من جهة، وبين اعتماد آليات الحكامة الأمنية الجيدة في التدخل والتدبير من جهة أخرى.

لقد شكلت هذه التحديات هواجس بارزة، عجلت بإعلان المغرب عن إرادة إصلاح منظومة الأمن وتبني الحكامة الأمنية في سياق الانتقال الديمقراطي، وطي صفحة النزاع السياسي منذ أواسط التسعينات، فمسلسل ترسيخ الحكامة الأمنية بالمغرب انطلق بالموازاة مع انطلاق مسلسل الانتقال الديمقراطي وتبني مفهوم العدالة الانتقالية، في أفق تجاوز مرحلة الانتهاكات الحقوقية والنزاع حول السلطة الذي شهده البلد. واستندت التجربة المغربية في مجال الحكامة الأمنية على مرجعيات استلهمت قواعدها ومعاييرها الأساسية من المبادئ الدولية والممارسات الجيدة التي تم تطويرها من خلال العديد من التجارب الدولية وما أفادت به المنظمات المهتمة بالموضوع، كما أسس المغرب لمعاييره الوطنية من خلال تبني مجموعة من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. في هذا السياق سنعمل على مقاربة مفهوم الحكامة الأمنية والوقوف على المرجعيات الرئيسية التي يرتكز عليها هذا المفهوم.

مفهوم الأمن:

يعتبر مصطلح الأمن مفهوما نسبيا ذو أبعاد متعددة ومستويات متنوعة، فهو أحد المفاهيم المركزية في حقل العلاقات الدولية، الذي يتسم بالغموض الشديد منذ ظهور هذه الأخيرة كحقل علمي مستقل عقب الحرب العالمية الأولى، إذ احتلت القضية الأمنية وضعا مركزيا في السياسات الخارجية لبعض الدول، التي عادة ما تتخذ “الأمن” هدفا من أهدافها، يتم تحقيقه بإتباع إجراءات وقائية بالأساس، وهي تهدف عبر إرسائه إلى تغيير البيئة المحيطة[1]. ولم يعد “الأمن” يقتصر على الفهم التقليدي المعني بحماية الحدود الإقليمية أو بمعناه العسكري، وإنما يتخذ أبعادا أشمل من ذلك، تنطوي على تطور المجتمع باتجاه تحقيق أهدافه التي تضمن مصالحه.

إن مفهوم الأمن ليس من المفاهيم المتفق عليها بصورة عامة، أو بالشكل الذي يجعل من السهل إعطاء تعريف دقيق لما تعنيه كلمة الأمن، فالعلماء قد اختلفوا في تعريفه، بالنظر إلى اختلاف الزوايا والتخصصات التي ينطلقون منها في تحديد ماهيته، فالأمنيين ينظرون إليه من الزاوية الكلاسيكية المتعلقة في الغالب بمحاربة الجريمة أو الوقاية من وقوعها، وتتبع مرتكبيها وإلقاء القبض عليهم وتقديمهم للعدالة، في حين أن الباحثين في الميدان العلمي ينظرون للأمن كل من زاوية تخصصه المعرفي، حيث يذهب علماء الاجتماع لحصره في زاوية اجتماعية، ومن ثمة يدخلون على تعريفهم المتغيرات السوسيولوجية والمؤسسات الاجتماعية، باعتبار هذه الأخيرة قوى فاعلة في توفير الأمن والسلم الاجتماعي. أما علماء الاقتصاد فيربطونه بالأمن الاقتصادي والرخاء والتنمية[2]. ومفهوم الأمن يعبر كذلك عن الوضعية التي لا يكون فيها أي شخص أو أي شيء معرضا لخطر اعتداء، سرقة، إتلاف لممتلكاته أو غيرها مما يهدد أمنه. فالأمن هو عندما يشعر الفرد بأنه في مأمن من الخطر مطمئن البال، لا يقتصر فقط على الشعور بأن حياته مصانة وأن أمواله في مأمن، إنما هو حالة شاملة تخص الأمن المعنوي والمادي الذي يتعلق بالسلامة الجسدية والمالية الشخصية والعائلية[3].

تعرف موسوعة العلوم الاجتماعية الأمن الوطني على أنه: “قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من التهديدات الخارجية، ويعني ذلك تمكن الدولة من صيانة مكوناتها ومقدراتها الداخلية وسيادتها، صيانة ذاتية، انطلاقا من قدراتها الدفاعية التي كونتها لتكون في أتم الاستعداد لمواجهة الأخطار الخارجية، فالأمن لا يتم تحقيقه في هذه الحالة إلا من خلال الدفاع الوطني الذي شكلته الدولة، ليكون سدا منيعا ضد الأخطار الخارجية. في هذا الصدد يذهب آدم سميث إلى اعتبار الأمن الوطني من أهم السياسات التي تتخذها الدولة قبل اهتمامها بالجانب الاقتصادي، لأن توفير الأمن هو السند الحقيقي لبناء الاقتصاد الوطني، فهو يقول:”إن الاختيار بين الدفاع والثروة يستدعي الانحياز إلى الدفاع”[4].

مفهوم الحكامة:

تعتبر الحكامة “LA GOUVERNANCE” إحدى المصطلحات الحديثة في المجال الاقتصادي والإداري، التي شاع استخدامها في أواخر التسعينات من القرن الماضي، من قبل المؤسسات الدولية باعتبارها منهجية لتفعيل التنمية لاسيما في دول العالم الثالث. حيث أصبح مفهوم الحكامة في السنوات الأخيرة يحتل مكانة متميزة في اهتمامات الدول، ويتم اعتماده كمنهجية مساعدة على تحقيق طموحات السكان في مجال التنمية البشرية[5]. ومفهوم الحكامة يعني التدبير السليم والمعقلن لمؤسسات الدولة الذي يفترض أن تقوم به قيادات سياسية منتخبة وأطر إدارية متخصصة، باعتبارها أداة لتحسين نوعية حياة المواطنين وتحقيق رفاهيتهم عبر مشاركتهم ودعمهم. وللحكامة أسس تتمثل في منظومة القيم التي ترسم معالم الهوية الوطنية، الموزعة عبر مختلف النصوص القانونية، الضاربة جذورها في ثقافة المجتمع وتاريخه، ومن تجلياتها نكران الذات والموضوعية والاعتراف بالآخر والإيمان بالقيم وخدمة المصلحة العامة. تعمل الحكامة وفق مجموعة من الآليات كالضبط والتحكم وتوجيه نشاطات المؤسسات الوطنية والمحلية في شتى المجالات، وتشجيع التسيير التشاركي واحترام الضوابط القانونية وتكامل الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، ترسخ مبدأ التدبير بالنتائج والتقائية الاستراتيجيات الموضوعة وتحقيق الفعالية المتوخاة.

تعتبر الحكامة صنيعة نيوليبرالية خالصة، صمّمت شكلها المؤسسات المالية والاقتصادية لغايات تستطيع من خلالها تحديد قواعد اللعبة بين الدولة وما سواها من مستويات دنيا أو عليا، بغرض تحجيم دور الأولى وتفويضه لفائدة هذه الأخيرة[6]. وهي آلية تتعلق بعملية صنع القرار في المجتمع والمؤسسات المختلفة، وتتضمن مجموعة من التفاعلات ضمن هياكل وعمليات تحديد كيفية ممارسة السلطة، واتخاذ القرار وتعبير المواطنين عن رأيهم، وعلى هذا الأساس اعتبرت الحكامة عاملا جوهريا في إصلاح الدولة والمجتمع، وترشيد التدبير العمومي الوطني والترابي. فهي نسق من المؤسسات تربطها شبكة متينة من علاقات الضبط والمساءلة تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة بواسطة الاستعمال الرشيد للوسائل البشرية، التقنية، المؤسساتية وغير المؤسساتية للدولة، بغية إقامة دولة ديمقراطية توفر آليات مناسبة لتقويم السياسات وتصحيحها والتصدي لإهدار المال العام وإساءة استخدام السلطة والنفوذ.

مفهوم الحكامة الأمنية:

هي أسلوب حديث لتأهيل المجتمع والدولة، تنطلق من النص التأسيسي لها بعد موجة الإصلاحات والأوراش الكبرى التي عرفها المغرب عقب أحداث الربيع العربي لتأهيل الإدارة المغربية ومؤسساتها، والتي نص عليها دستور المملكة لسنة 2011 في الباب الأول بعنوان أحكام عامة، الفصل الأول، الفقرة الثانية: “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلطات، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة”.

وتقوم الحكامة الأمنية الجيدة على ضمان الأمن للدولة والأفراد من جهة، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية من جهة ثانية، وهو المبدأ الأساسي الذي يؤطر تدخل المرفق الأمني ليصبح هذا الأخير الضامن لمنظومة الحقوق والحريات، وهذا الأمر يجد سنده في الخطابات السامية التي أرست المفهوم الجديد للسلطة وفي توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة[7].

وهي حركية تروم إحداث نوع من التجديد والتكييف وتمكن من التفكير في الأسئلة التدبيرية وآفاق استراتيجيات تنمية مرفق الأمن، ليس فقط من منظور المهام والفعالية، ولكن من منظور القيم ذات الصلة بالحكامة التي تعد الحقوق الأساسية للمواطنين إحدى تمظهراتها[8].

إن استمرار الدولة والمجتمع يتوقف على توفر الأمن من ناحية، ومن ناحية ثانية على تنظيم العلاقة بين كافة مكونات الدولة الواحدة، ما يفرض ضرورة تحقيق الانتقال الديمقراطي وتكريس مبدأ الحكامة الأمنية، على أساس أن استعمال السلطة والعنف المشروع لإقامة الأمن من شأنه المس ببعض الحقوق والحريات الأساسية، ما يجعل المرفق الأمني في علاقة تنافر مع مكونات المجتمع، وعليه ينبغي على السياسات الأمنية أن تنبني على مقاربات تتماشى والمنظور الحقوقي دون السماح بانحلال المؤسسة الأمنية، ذلك أن ارتباط عمل المؤسسات بالشرعية يتطلب من الأجهزة الأمنية استعمال القوة بشكل دقيق يتلاءم والقوانين ودون أي مساس بالحقوق والحريات. هذه المعادلة الصعبة التي تروم إرساء التوازن بين المعطى الأمني والحقوقي تظل عصية على التحقق إلا باستحضار ما جاء في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي دعت إلى ترشيد المرفق الأمني عبر اعتماد الحكامة الأمنية من خلال عدد من الإجراءات على رأسها المراقبة والتحقيق في مجال الأمن، والمراقبة الوطنية للسياسات الأمنية، والتكوين المستمر لرجال ونساء السلطة والأمن في مجال حقوق الإنسان، وتفعيل قاعدة الحكومة مسؤولة بشكل تضامني عن العمليات الأمنية وحفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلزامها بإخبار العموم والبرلمان بكل الأحداث المستوجبة تدخل القوة العمومية ومجرياتها ونتائج العمليات والمسؤوليات وكل التدابير التي قد تتخذ في الموضوع. وأيضا نشر الإطار القانوني للأمن ونصوصه التنظيمية ومسلسل اتخاذ القرار الأمني وطرق التدخل وأنظمة المراقبة وتقييم عمل الأجهزة الاستخباراتية والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام العام أو التي لها سلطة استعمال القوة العمومية.

المرجعية الدستورية:

يتأسس مفهوم الحكامة الأمنية على مرجعيات عدة، إحداها ذات بعد وطني يخص المقتضيات الواردة بالوثائق الأساسية في هذا المجال على المستوى الوطني، من قبيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة والتي شكلت مرجعية أساسية للتجربة المغربية في مجال إصلاح القطاع الأمني، فضلا عن المرجعية الدستورية التي تضمنت مفهوم الحكامة الأمنية الذي تطور بعد إقراره في التوصيات السالفة الذكر ومدى تأثيرها في المرجعيات الموجهة للسياسات العمومية اللاحقة.

يشكل دستور 2011 وثيقة مرجعية للسياسات العمومية بالمغرب، فهذه الوثيقة الدستورية أسست لمبادئ جديدة في تنظيم السلطات وممارستها، من بينها إقرار مبدأ الحكامة الجيدة، إذ وردت لفظة الحكامة في الدستور ثلاثة عشر مرة كما خصص المشرع الدستوري بابا لمؤسسات الحكامة الجيدة، وفيما يتعلق بالحكامة فالمفهوم يجد سنده الدستوري في ثلاث مستويات أساسية[9]، يتمثل الأول في ورود لفظة الحكامة الأمنية بشكل صريح الفصل 54 من الدستور الذي نص على ما يلي: يحدث مجلس أعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر أيضا على مؤسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة.

يرأس الملك هذا المجلس، وله أن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع لهذا المجلس، على أساس جدول أعمال محدد.

يضم المجلس الأعلى للأمن في تركيبته، علاوة على رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الوزراء المكلفين بالداخلية، والشؤون الخارجية، والعدل، وإدارة الدفاع الوطني، وكذا المسؤولين عن الإدارات الأمنية، وضباط سامين بالقوات المسلحة الملكية، وكل شخصية أخرى يعتبر حضورها مفيدا لأشغال المجلس.

ويحدد نظام داخلي للمجلس قواعد تنظيمه وتسييره”[10].

ولقد أسس المشرع الدستوري من خلال هذا النص لأهمية الحكامة الأمنية الجيدة وضرورة مأسسة ضوابطها، لكن تأخر تنصيب المجلس وانعقاد اجتماعاته يطرح التساؤل حول إخراج هذه الضوابط إلى حيز الوجود. كما أن اعتبار هذا الجهاز هيأة للتشاور يطرح السؤال حول الجهاز المسؤول عن تبني السياسات العمومية في مجال الأمن هل يتعلق الأمر بالحكومة أم بجهات أخرى؟ كما أن لاكتفاء بتنظيم المجلس وتسييره بواسطة نظام داخلي لا يرقى إلى مستوى القانون الذي يمكن أن تصادق عليه المؤسسة التشريعية يطرح سؤال مدى ملاءمة هذا المقتضى مع ما نص عليه الدستور من أن الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين ونظام مصالح وقوات حفظ الأمن من المجالات التي يختص بها التشريع[11]، وفي نفس السياق يندرج تنصيص الدستور على خضوع التعيين في الوظائف المدنية للمسؤولين المدنيين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي لمسطرة تشمل مبادرة الوزير المعني واقتراح من رئيس الحكومة والتعيين في المجلس الوزاري.

إن تأكيد الدستور وخاصة في بابه الثاني على مجموعة من الحقوق الأساسية التي تفترض بشكل مباشر إعمال قواعد الحكامة الأمنية الجيدة، خاصة ما جاء في الفصل 21 حول حق كل فرد في سلامة شخصه وأقربائه، وحماية ممتلكاته. وضمان السلطات العمومية لسلامة السكان، وسلامة التراب الوطني، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع. وكذا الفصل 22 المتعلق بعدم جواز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة. كما لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطّة بالكرامة الإنسانية. واعتبار ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون. كما أقر الفصل 23، عدم جواز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون. واعتبر الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، التي تعرض مقترفيها لأقسى العقوبات. هذه المقتضيات التي تتناسب ومجموعة من الضمانات المرتبطة بالحكامة الأمنية كوجوب إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت. وحقه في الاستفادة، في أقرب وقت ممكن، من مساعدة قانونية، ومن إمكانية الاتصال بأقربائه، طبقا للقانون، تعد نسقا كاملا من شأن تفعيله أن يرتقي بالمرفق الأمني إلى تحقيق الأهداف التي نص المشرع الدستوري عليها. كما أن نص الدستور في ذات الفصل، على اعتبار جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان، جرائم يعاقب عليها القانون. وفي نفس السياق أقر الفصل 24 أن لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة، وعدم انتهاك حرمة المنازل. وربط أي تفتيش باحترام الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون. وعدم انتهاك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها. يؤكد على أن المرفق الأمني يجب أن يراعي، في تطبيقه لهذه المقتضيات  وفي حفاظه على الأمن، روح الدستور القائمة على منظمة حقوق الإنسان.

وفي ذات المنحى ذهب الفصل 27 الخاص بالحق في الحصول على المعلومات في اتجاه عدم تقييد هذا الحق إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة. وهو ما يجسد للشفافية المفترضة من قبل الإدارات الأمنية في تواصلها مع المرتفقين الذين يترددون على هذه المرفق للاستفادة من مجموع الخدمات الأمنية التي يوفرها للمواطنين. وتكريسا لدولة حقوق الإنسان ولمبدأ الحكامة الأمنية، نص الدستور صراحة في الفصل 29 على ضمان مجموعة من الحريات كالاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحريات والحقوق الأساسية تظل مضمونة حتى في فترات الاستثناء المنصوص عليها في الفصل 59 من الدستور.

لا تنحصر مرجعية الحكامة الأمنية في الوثيقة الدستورية فقط فيما تم ذكره آنفا، وإنما تتجاوز ذلك  إلى ترسيخ استقلال السلطة القضائية، حيث نص الفصل 107 من الدستور، وكذلك الفصل 119 على أنه يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به، وما جاء في الفصل 128 ” تعمل الشرطة القضائية تحت سلطة النيابة العامة وقضاة التحقيق، في كل ما يتعلق بالأبحاث والتحريات الضرورية في شأن الجرائم وضبط مرتكبيها ولإثبات الحقيقة”. كما أرسى المغرب مجموعة من الآليات المؤسساتية للمساهمة في ترشيد الحكامة الأمنية وتجويدها، من بينها المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجانه الجهوية والذي نص الظهير[12]، المحدث له على تمكينه من إجراء التحقيقات والتحريات اللازمة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، وتلقي الشكايات المتعلقة بهذه الانتهاكات والاستماع إلى الأشخاص المعنيين بهذه الانتهاكات قصد استكمال المعطيات بشأنها والحصول من الإدارات على التقارير والبيانات المتعلقة بها، كما يحق للمجلس القيام بزيارات لأماكن الاعتقال والاحتجاز وإعداد تقارير حولها.

 

ملاحظات:

إن المتأمل في مفهوم الحكامة الأمنية والمقتضيات الدستورية التي يتأسس عليها، يمكن استخلاص عدد من القواعد الأساسية الجامعة في مجال الحكامة الأمنية، والتي يمكن إجمالها في الآتي:

  1. ربط المسؤولية بالمحاسبة:

فالحكامة الأمنية تهدف إلى تغيير تمثلات العموم للأجهزة الأمنية والانتقال من صورة جهاز القمع إلى صورة جهاز تنفيذ السياسة العمومية، التي تخضع للمراقبة الخارجية من طرف المؤسسات الدستورية الموكولة لها مراقبة السياسات العمومية، سواء تعلق الأمر بالحكومة أو البرلمان أو الوسيط أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان… وخاضعة لمراقبة داخلية تتجاوب مع مختلف التظلمات والشكايات، مع ما يستلزمه هذا الأمر من وجود على جهاز تأديبي داخلي يناط له تطبيق القانون والإجراءات التأديبية الفعالة والعادلة.

  1. الشفافية:

وترتكز شفافية القطاع الأمني على مرتكزات رئيسية تتلخص في التواصل الفعال، بما يسمح للمواطنين ببناء الثقة والإحساس بالأمان، مع ضرورة الحذر من نشر المعلومات التي يمس نشرها بضمانات المحاكمة العادلة وقرينة البراءة وسرية التحقيقات، كما يكتسي النشر الدوري للتقارير والإحصاءات حول أنشطة المؤسسات الأمنية وتدخلاتها ومستويات الجريمة أهمية كبرى في بناء الثقة مع العموم.

  1. الولوج إلى المعلومة:

ذلك أن الحصول على المعلومات كحق دستوري بموجب دستور 2011، يضمن كذلك فعالية الرقابة الممارسة على أجهزة الأمن، فالبرلمان لا يمكنه مراقبة السياسات الأمنية دون معلومات يمكن بموجبها تقييم نجاعتها، دفعا لإهدار حقوق المواطنين، وحرصا على تكريس الثقة في المؤسسات والأجهزة الأمنية الوطنية.

  1. الشرعية:

فالحكامة الأمنية تفرض وضع إطار قانوني واضح وشفاف سواء للعاملين في المجال أو في إطار العلاقة مع باقي المؤسسات والمرافق وعموم المواطنين، يتضمن تعريفات دقيقة وتحديدا واضحا للأدوار والمهام والصلاحيات الموكولة للمؤسسات الأمنية بمختلف أنواعها، وتحديد وتعريف الأجهزة المسؤولة عن مراقبة عمل الأجهزة الأمنية، مع تحديد وتدقيق المسؤوليات.

[1] -سليمان عبد الله الحربي: مفهوم الأمن: مستوياته و صيغته وتهديداته – دراسة نظرية في المفاهيم والأطر-، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد19، صيف2008، ص 9.

[2] – فيصل السمير: استراتيجيات الإصلاح والتطوير الإداري ودورها في تعزيز الأمن الوطني. أطروحة دكتوراه في العلوم الأمنية -قسم العلوم الإدارية- جامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض، 2007، ص: 110.

[3] – غربي محمد: الدفاع والأمن: إشكالية تحديد المفهومين من وجهة نظر جيوستراتيجية، مجلة شؤون استراتيجية العدد الثاني- دجنبر\يناير، 2009، ص:39.

[4] -محمد غربي: المرجع نفسه.

[5] -المهدي بنمير: الحكامة المحلية بالمغرب وسؤال التنمية البشرية، المجلة المغربية للإدارة والقانون والتنمية، سلسلة اللامركزية والجماعات المحلية، الطبعة الأولى، 2010، ص:7.

[6] -يحيى اليحياوي: الحكامة والديمقراطية، مجلة أفق، الأثنين 06 يونيو 2005، ص:3.

[7] – احمد آيت الطالب: إصلاح القطاع الأمني في العالم العربي، موضوع ندوة أهلية بالرباط، جريدة ماروك بوست بتاريخ 15 مارس 2009.

[8] -ali sedjari :les enjeux juridiques et politiques de la sécurité à l’heure des droit de l’homme et gouvernance de la sécurité 2007.

[9] Abderahim el maslouhi. gouvernance sécuritaire et état de droit au Maroc, de la constitution a la mise en œuvre. Ed.konard adenauer stifung.2013 ;page 9

[10] -دستور المملكة المغربية2011 الفصل 54.

[11] – المرجع نفسه، الفصل 71.

[12] -الظهير الشريف رقم 1.11.19 صادر في 25 ربيع الأول 1432(فاتح مارس 2011) بإحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الجريدة الرسمية عدد 5922 ص:574.

بقلم ياسين شادي

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى