مقالات

النموذج التنموي الجديد: ملاحظات أساسية في السياق والمنهج

يقدم لنا العنوان المؤطر للنموذج التنموي الجديد أربع مفردات أساسية، هي الطاقات، والثقة، والتقدم، والرفاه، ويربط كل مفردة بكلمات أخرى تمثل الغايات المسطرة، والأهداف المنشودة لهذا النموذج؛ فيربط الطاقات بالتحرير، والثقة بالاستعادة، والتقدم بتسريع الوتيرة، والرفاه بالتحقيق.

ملاحظات أولية:

إن مقاربة موضوع النموذج التنموي الجديد المطروح من دون الوعي بسياقاته وخلفياته ومنتجه ومنهجية الإنتاج سقوط في فخ تسويق الوهم الذي يضاف إلى سلسلة الأوهام الموعودة منذ الاستقلال، لذا نبدي جملة ملاحظات أولية أساسية بصدد هذا النموذج المعروض تتناول العنوان، والسياق، والمنهجية، واللغة، والمآلات.

العنوان:

يقدم لنا العنوان المؤطر للنموذج التنموي الجديد أربع مفردات أساسية، هي الطاقات، والثقة، والتقدم، والرفاه، ويربط كل مفردة بكلمات أخرى تمثل الغايات المسطرة، والأهداف المنشودة لهذا النموذج؛ فيربط الطاقات بالتحرير، والثقة بالاستعادة، والتقدم بتسريع الوتيرة، والرفاه بالتحقيق.

 يعترف العنوان من الوهلة الأولى بالفشل التاريخي لخطط الدولة في بلوغ تلكم الأهداف التي كانت بصيغة        أو بأخرى هي الدائرة الرائجة في وثائق التنمية الماضية، من العنوان نستقي الاعتراف بغياب الثقة وسط المجتمع، وتضييع الطاقات وتقييد انطلاقتها، والإقرار بضعف التقدم في تنفيذ الشعارات المرفوعة، وتنامي مظاهر التفاوتات في مجال الرفاه الاجتماعي الذي تحقق لفئة دون أخرى. وهو اعتراف بتجليات التعثرات المترددة الصارخة بفشل الدولة بعد عقود طويلة من الاستقلال في تحقيق الشعار السحري الذي لهثت وراءه كل البرامج التنموية التي سطرت بحثا عن التقدم والرفاه والتطور والتحديث.

السياق: ثلاث لحظات مهمة جدة في تأطير النموذج التنموي الجديد ضمن سياقات إمكاناته الواقعية وشروطه الوجودية تفرض نفسها ضرورة وملحاحية:

  1. الإعلان الرسمي عن فشل النموذج التنموي المغربي الذي حملت لواءه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهو إعلان ضمني وصريح عن فشل جملة من المفاهيم التي شكلت الواجهة التسويقية للعهد الجديد، من قبيل العهد الجديد نفسه، والمفهوم الجديد للسلطة، والعشرية الأولى للتعليم، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، ورؤية المغرب السياحية، والمخططات الملون للفلاحة، لنكون إزاء فشل للعهد الجديد كلية وللوعود التنموية التي رفعت منذ أكثر من عشرين سنة؛
  2.  عودة التغول الكبير، للدولة المتسلطة المتحكمة؛ فعبر استغلال ماكر وفج لسياق الجائحة وآثارها المتعددة على مختلف مناحي الحياة اليومية للمغاربة، قامت الدولة بالتسلط على الفضاء المجتمعي العام من خلال فرض إجراءات تحكمية لم تستثن مجالا من المجالات على نحو أثر على الحريات العامة، يبرز ذلك في تنامي الاعتقالات والمحاكمات واعتماد الأساليب التي ظن أنها أضحت بائدة في مواجهة المعارضة الجادة، بل واعتماد المداخل القانونية لتحقيق مزيد من الضبط التحكمي لقطاعات واسعة ومنها للأسف التعليم والحريات؛
  3. التطبيع العلني بعد السري مع الكيان الصهيوني، وفتح مجالات واسعة للاختراق الصهيوني للكيان العنصري للوعي الجمعي دينيا وتعليميا وثقافيا واجتماعيا، وما يمثله ذلك من خطر عظيم على هوية الإنسان المغربي وقيمه، وعلى النسيج المجتمعي، وعلى قضايا التنمية الاقتصادية، وما قد يعينه ذلك من رهن البلاد لكيان استعماري أثبتت التجربة أنه لا يحل بدار قوم إلا حمل معه البوار والدمار؛

الملاحظة المسجلة على السياقات، هي تضخم خطاب الأزمة واستمراء هذا الخطاب وما يؤديه ذلك من وظائف تنفيسية وترويجية لوهم “النقاش العمومي”، ثم القفز على وضع التغول وكأنه واقع لن يرتفع وجعل “الخوف” و” التهديد” و”الوعيد” آليات لتسقيف “النقاش” وتحديد” المطالب”، وكذا المضي في ربط المغرب بأجندات قوى دولية وإقليمية، وتقديم البلاد قربانا في سياق خدمة مشاريع خارجية ليست بأولويات وطنية لنا.

المرجعيات:

لا تخرج المرجعيات التي يصدر عنها النموذج التنموي عن المرجعيات المعهودة المكرورة المؤطرة للنسق السياسي العام الحاكم، وهي تتوزع بين مقومات الهوية المغربية المتعددة الروافد، والدعامة المؤسساتية التي تمثلها الملكية، والانتماء للعالم بالانخراط في قيم السلم والتعايش المشترك.

في الجانب الهوياتي يحضر الدين الإسلامي متساكنا على جناح التسامح والاستنارة إلى جانب مزيج متواتر من العروبية والأمازيغية والأفريقية والصحراوية والعبرية والأندلسية، وفي الانفتاح على العالم إحساس قوي بضغط الوضعية الدولية وحرص على الحضور في العالم والاندماج في سياقاته وإن باحترازات تريد أن تعي تحديات السيادة ومواجهة الأزمات، وتحفل الوثيقة بترداد لازمة الإعلاء من شأن المؤسسة الحاكمة في البلاد باعتبارها الرمز والضامن والعماد.

تعزز المرجعيات المستند إليها الوظائف التقليدية للمؤسسة الحاكمة، ولا تضع في حسبانها منطقا آخر غير منطق الاستمرارية، ولم تجرأ حتى في الحدود الدنيا من الشجاعة على الإلماح إلى فرضيات المساءلة والمحاسبة لمتسببي الفشل التاريخي للسياسة التنموية، أو إلى مراجعة الوثيقة الدستورية التي عرفت هي الأخرى الدخول في نسق الفشل في التنزيل الديموقراطي.

ويستمر العزف على مفردات المواطنة وحس التضامن، ولازمة الالتزام المعنوي والسياسي لضمان الاشتغال على نهج التوجيه المحتال للرأي المجتمعي العام لقبول التصريف السلس والتمرير السهل للمقترح الجديد؛ فعلى الرغم من الإقرار بأن التقرير لن يكون أداة سحرية لحل الأزمات، ولا بديلا عن البرامج الحكومية، ولا دليلا مرجعيا موجها للتفكير والاقتراح، فإن الظاهر من الدعوة إلى تحويل النموذج المبسوط إلى ميثاق إنما يكشف عن استمرارية الارتهان إلى النهج التحكمي في فرض التصورات الرسمية على المجتمع المغربي وقواه الحية، نتذكر هنا أن اللجنة التي كانت استشارية ومرحلية تروم أن يكون المقترح ميثاقا ملزما معنويا وسياسيا أمام الملك والأمة، وأن تعد له آلية للتتبع والتحفيز والقيادة، طبعا كل ذلك تحت إشراف المؤسسة الحاكمة، كما نتذكر هنا أن كلمة الميثاق قد تحولت إلى مفردة الحل المثالي في كل برامج التنمية البشرية، وهي لن تكون في العمق إلا ترجمة مخففة للرغبة في أن يوضع الكل تحت مجهر السيطرة حتى لا ينفلت صوت ما خارج “الإجماع المزعوم”.

المنهجية:

يلحظ المتتبع الحصيف أن  هناك اعتمادا للمنهجية ذاتها التي تحكمت في صياغة كل ما يعرف بالتصورات الاستراتيجية النابعة والخارجة من مهندسي القصر، وخدام الأعتاب، ولن تنتج المنهجية نفسها إلا النتائج ذاتها، وعلى رأس مميزات هذه المنهجية : غياب الجرأة على وضع صانعي السياسات موضع محاسبة ومسؤولية انطلاقا من ربط المسؤولية بالمحاسبة الدستورية، وتغييب القوى المجتمعية المعارضة، والدوران في الفلك نفسه لفاعلين الدائرين في النسق الرسمي، والارتكاز في الإشراف على الخدام الذين قدموا خدمات سجل سيء في حقوق الإنسان فالوزير  المشرف على تنمية المغرب والمغاربة تعرض في عهد توليه لوازرة الداخلية المغاربة للإذلال في قمع كبير بسيدي أيفني، و هو المسؤول نفسه الذي اعتبر أن تكثيف الأنشطة يخرج من دائرة القانون، وهو الآت من خلفية  تكنوقراطية ومساره يكشف انضباطا للسير العام لخدام المخزن الأوفياء، كما أنه الوزير الذي كوفئ بسفارة عند الفرنسيين الذين عمل على مشاورتهم في موضوع النموذج التنموي قبل أن يتشاور مع معارضة البلد وفاعليها المعارضين.

اللغة:

تمتح اللغة المستعملة من الحقول الدلالية للغة الحداثية التي تعمل على التمسح ببعض مفاهيم قيم الهوية الإسلامية للمغاربة مقابل الإعلاء الكبير من مفاهيم النسق الحداثي، لتظل كلمات مثل المواطنة، والمدنية، والتحديث، والتسامح، هي اللغة المسيطرة، وكأن المخاطبين لا هوية لهم، ولا مرجعية لهم، ولا أفق لهم. لتكون الطوابع الإنشائية وخصائص اللغة الخشبية، ومعجم المفردات المنقوعة في “الوطنية” المخزنية، والنغمة المحتشمة للانتقادات المقدمة هي السمات الأسلوبية الواصفة للغة النموذج المعروض.

المآلات:

إن فشل النموذج التنموي، والتعثرات المتعددة لمختلف البرامج الإصلاحية، وبطء تحقق الأهداف العامة المرجوة من كل الرؤى التي عدت استراتيجيات استباقية، وتصاعد السخط العام حول ضيق هوامش الحرية بفعل عودة قبضة الدولة وتحكمها في الفضاء العام، لدلائل منيرة على فشل النهج المعتمد في إدارة شؤون البلاد والذي يتميز وللأسف الشديد بدوران الفاعلين الرسميين الأساسيين منهم والتابعين في فلك التكرار المعتاد لخطاب الأزمة ذاته من دون القدرة على الجرأة على مساءلة حقيقية شجاعة للصناع الحقيقيين للقرار السياسي في المغرب منذ الاستقلال إلى الآن، وهو ما يقتضي التصريح بالحاجة الملحة للتفكير من خارج صندوق الحدود المرسومة من الدولة المتحكمة من أجل محاسبة حقيقية للمسؤولين عن الكوارث التنموية التي يعيش فيها المغرب بدل الإشارات المحتشمة لبعض دوائر التنفيذ والتدبير التي لا حل لها ولا قوة.

سنبقى في دوائر الهامش في الفاعلية والنجاعة إن ظللنا أسيري انتهاج الطريق ذاته في التشخيص والتدقيق، وإلقاء اللوم على أجهزة التدبير التحتية من دون أن تتوجه أصابع البحث إلى الفاعل الرسمي في الحقل السياسي المغرب من منطق ربط المسؤولية بالمحاسبة وفك ربط زواج السلطة بالثروة، والإنهاء مع عبث قضم فعالية الوسطاء المجتمعيين لصالح الصناعة المتقنة لمشاهد الواجهات الصورية المعهودة، ولعل التحلي حتى ببعض الشجاعة للنظر في توصيات المجالس الرسمية قد يفيد في فتح بعض نوافذ التغير الموصدة عندنا بأقفال الاستبداد والفساد من مثل جعل المواطن في قلب السياسات العمومية، وضبط حجم التحولات الفردية والاجتماعية، و السعي إلى ربح رهانات إعادة الثقة، وتقوية نسيج التماسك الاجتماعي، وفتح آليات الإشراك والحوار والإدماج للمواطنين، وتثمين الرأسمال الاجتماعي.

إن من المعضلات العويصة التي لحقت جل إن لم نقل كل التصورات المسماة تنمية ونماذج ورؤى عندنا، الخطأ في إصابة المدخل الحقيقي للتشخيص، وما يتولد عنه من الفشل في إصابة المدخل الحقيقي لإعادة البناء؛ إذ لا يتم الوقوف إلا عند تجليات الأعطاب التي تنخر جسم البلاد دون القدرة على الولوج إلى عمق الكارثة المرتبطة أساسا بالسياسة المتبعة خاصة مع الحرص على عزل واقع البلاد عم معضلة الاستبداد في التدبير السيئ لمختلف مجالات الشأن العام، وهو ما يحول دون إدراك بنيوية الأزمة، وتعقد الأزمة، وتركب الأزمة، وتجذر الأزمة.

سيكون المأمول ربط المشاكل العامة للمغرب بواقع إشكالات التحكم السياسي للاستبداد والفساد، وستكون المقاربة الشمولية ضرورية، والمساءلة الشجاعة أساسية، والمحاسبة الرصينة ملحة، وستكون التعاقدات المجتمعية المسؤولة والواضحة أكثر ضرورة وأشد ملحاحية، وسيفرض تدارك هذا الوضع  المتأزم للبلد أولا الاقتناع بلا جدوى التدخلات الترقيعية التي تكتفي بالأعراض دون مسببات المرض، وثانيا الحاجة إلى تعبئة وطنية تجعل من القضايا التنموية كلها قضية أمة لا قضية نظام، وثالثا إلى تحقيق استقلالية القرار السياسي عن أجندات التدخلات الأجنبية، ورابعا إلى حوار مجتمعي واضح وصريح ومسؤول يضع المغرب وتاريخه، وصانعي سياساته التنموية، وأعطابها ونتائجها موضع نقاش واسع حر من دون خطوط حمراء ولا سقوف متدنية.

بقلم مصطفى شكري

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى