مقالات

ياسين شادي..البيعة الحفيظية

 انعقدت بيعة المولى عبد الحفيظ سنة 1908 واشتهرت بالبيعة المشروطة، إذ أن العلماء عندما خلعوا أخاه المولى عبد العزيز، بايعوا عبد الحفيظ على شروط في مقدمتها إلغاء بنود معاهدة الجزيرة الخضراء، وتحرير الثغور الأجنبية. ذلك أنه لما تورط المولى عبد العزيز في المصادقة على ما فعله ممثلوه في مؤتمر الجزيرة الخضراء، ثار الشعب المغربي، وانتفض في وجهه العلماء والأعيان، وفي وجه السلطان، لأنهم رأوا أن خير وسيلة للتحرر من التزاماته هي الثورة على السلطان وخلعه. في هذا السياق قام العلماء ودعوا إلى مقاومة كل ما هو أجنبي، من البضائع الفرنسية وغيرها، وألهبوا حماس الجماهير التي هبّت للدفاع عن وطنها، فكان نتيجة ذلك أن تم خلع السلطان المولى عبد العزيز ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ. يقول العلامة ابن عبد الله السليماني في كتابه اللّسان المُعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب ما يلي: بويع بالخلافة هذا السلطان وهو بمدينة مراكش والأحوال غاية في الاضطراب وقد أحاط بالمغرب من المصائب العجب العجاب وبيت المال أنقى من الكفّ، والمشاكل السياسية زاحفة على الوطن بالصف، والتدخل الأوروبي بلغ حدّ النصاب وإنما يتذكر أولوا الألباب (انتهى ص.150)؛ ويقول علال الفاسي في كتابه الحركات الاستقلالية: وبويع عبد الحفيظ أولا بمراكش تحت إشراف الشيخ ماء العينين الذي رأى أن صديقه عبد العزيز قصّر في حق الدفاع عن موريتانيا، ولكن الأمر لم يتم إلا بعد بيعة مدينة فاس وجامعتها الكبرى (انتهى ص.108 )؛ ويدقّق ابن عبد الله السليماني في مكان البيعة فيقول في كتابه المذكور وخرج من مراكش يريد عاصمة فاس فوافته بيعة أهلها بنهر أم الربيع ودخل مدينة فاس في يوم مشهود، ووجه سفيره محمد المقري سفيراَ إلى عواصم أوروبا للنظر في حلّ المشكلات السابقة، فأدى السفارة حسبما يقتضيه الحال وحلّ مسألة الدار البيضاء حلا شهد له السياسيون بالمهارة والاقتدار (انتهى ص.150 )؛ ويعتبر علال الفاسي أن البيعة الحفيظية التي كتبها بفاس وطنيون ممتازون، ووضع صيغتها السيد أحمد ابن المواز -أحد رجال الفكر إذ ذاك- ميثاقا قوميا ودستوريا من الطراز الأول.

وتجدر الإشارة، إلى أن البيعة الحفيظية تشكل تجسيدا وامتدادا للفكر الدستوري الذي انطلق في أوروبا منذ القرن الثامن عشر مع رواد ومفكري العقد الاجتماعي، ممن نصوا على ضرورة تكريس عقد تنتظم بموجبه العلاقة بين الحاكم والشعب، غير أن الاختلاف الذي يمكن التوقف عنده هنا هو مسألة البناء الفكري والنظري الذي يتأسس عليه كل من العقد الاجتماعي والبيعة الحفيظية، إذ أن الأول ينطلق من حالة الطبيعة وفق ما تقتضيه النظرية الوضعية ليصل إلى تقرير مسألة في غاية الأهمية وهي أن السيادة للشعب، وعليه فالشعب من له حق السلطة التأسيسية الأصلية التي تنشئ الدستور، بموجب هيئة تأسيسية منتخبة أو استفتاء شعبي يحسم في قبول أو رفض مشروع الدستور، في حين أن الحالة المغربية تنطلق من البعد الديني الذي يعطي لفئة بعينها حق ممارسة السلطة التأسيسية والتي تسمى بأهل الحلّ والعقد، وهؤلاء يكونون عادة من العلماء والوجهاء وقادة الجيش ومن لهم مكانة في الأمة، فهم من ينشئون الفعل التعاقدي بين الحاكم والأمة أو الشعب من خلال عقد البيعية. غير أن المتعارف عليه في التاريخ أن البيعة كانت غالبا تحصيل حاصل لوضع قائم عنوانه توريث الحكم منذ الأمويين، وهنا تظهر أهمية البيعة الحفيظية التي شكلت بإجماع الدارسين لها تحولا نوعيا في الممارسة السياسية في مغرب ما قبل الحماية. إن دراسة البيعة الحفيظية يحيلنا بالضرورة على طرح إشكالية مركزية تروم مُساءلة هذه الوثيقة في طبيعتها وهندستها ومجمل الأفكار التي تضمنتها، أي أن الإشكالية التي نطرحها هنا تساءل البيعة المشروطة في مدى دستوريتها وإلى أي حد شكلت تعاقدا دستوريا بين المولى عبد الحفيظ والشعب المغربي؟

المحور الأول: في السياق العام

عرف المغرب في بداية القرن العشرين فترة حرجة والتي كانت تشكل تداعيات لما شهده في فترة المولى الحسن الأول، إذ على الرغم من الإصلاحات المهمة التي حاول أن يرسيها للنهوض بالبلد من الأزمات التي عصفت به، إلا أن ذلك لم يؤدي النتيجة المرجوة بل زادت أطماع الدول الاستعمارية وساءت الأوضاع الداخلية للبلد، الشيء الذي نتج عنه تدهور في حكم البلد وتسيير الشأن العام بما تقتضيه الأحوال إذاك، ومما زاد الأمر سوءً، انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء في سنة 1906، هذا المؤتمر الذي منح التزكية للأطماع الفرنسية والإسبانية في احتلال المغرب وتقسيمه بين هاتين الدولتين، فبدأ المغرب يفقد تدريجيا سيادته على الموانئ والمدن الساحلية انطلاقا من وجدة والدار البيضاء، وصولا إلى أخذ فرنسا بزمام أمور المغرب المالية والدبلوماسية سنة 1907. وفي محاولة لصد التغلغل الفرنسي انتفض المغاربة ضد السلطان مولاي عبد العزيز، على اعتبار أن ممثليه في مؤتمر الجزيرة الخضراء لم يستطيعوا منع المحتل من دخول المغرب، فما كان من الشعب المغربي إلا أن انتفض واحتج على المولى عبد العزيز ومبايعة أخيه السلطان مولاي عبد الحفيظ الذي كان شخصية تستحق الدراسة فقد تولى الحكم في ظروف غير عادية، وفرضت على المغرب في عهده ضغوط إمبريالية هائلة انتهت بإرغامه على قبول الحماية، ولهذا تعرض عهده إلى تضارب الأحكام والتقييمات التي أرسلت فيها الأقوال على عواهنها، وغابت الحقائق أو غيبت عن عمد أو قصور، سواء من طرف المحتلين الذين عانوا من صمود الرجل أو من المخالفين له غير أن ذلك لم يحل دون التدخل العسكري لفرنسا الذي تم بتوقيع وثيقة الحماية سنة 1912.

شهد المغرب من التطورات السياسية والاجتماعية عقب وفاة السلطان “الحسن الأول”، أي خلال الفترة الممتدة بين 1894 و1900، أمورا كثيرة بدأت أساسا من مرحلة سوء تدبير الانتقال السلطاني، أو ما سمي بالانقلاب في البيعة، الذي قاده الحاجب أحمد بن موسى مُقصيا ولي العهد “مولاي أمحمد” ومقدما عليه إلى سدة العرش أخاه الصغير “عبد العزيز”، ومنتقما من كل معارض لهذا التوجه سواء داخل الجهاز المخزني أو في أوساط القبائل، مما أدى إلى تصدع سياسي واجتماعي لم تقتصر تداعياته على هذه المرحلة.[1] ظلت مؤسسة المخزن قادرة بدواليبها وبنيتها على مغالبة كل محاولة تمردية لا تستطيع حشد الإمكانيات المادية والمعنوية، كما حصل مع الرحامنة المعارضين للبيعة العزيزية والمناصرين لمولاي أمحمد، والذين بادروا إلى السعي للحصول على الزعامة التي ترمز للنظام وتوحيد الجهود لكنهم لم يتمكنوا من حشد المال والرجال القادرين على خوض حرب ضد حكومة أحمد بن موسى، والملاحظ أن المخزن بدأ يطور سلوكه تجاه احتجاجات القبائل من الاعتدال إلى التشدد في العقاب، وهو ما زاد من وتيرة التجاء الناس إلى التعلق بالحمايات، لذلك بات من الضروري رصد خيوط اللعبة الاجتماعية للفترة ومحركاتها الأساسية والتي أمكن تلخيصها في تعاظم صراع الأطماع والطموحات بين النخبة الحاكمة والنخبة المرتبطة بالرأسمال والنفوذ الأجنبيين وبتهريب السلاح للقبائل. وإذا كان باحماد[2] سلك سياسة ظاهرها قمع الرعية وامتصاص دمائها، فإنه في الوقت نفسه، ضيق الخناق على الحكام (القواد) حتى أصبح همهم هو جمع المال والضغط على الناس للنجاة من بطش الصدر المستبد في الحياة، فمن خلال مجموعة ضحمة من المراسلات تبادلها قواد مغمورون وآخرون مشهورون مع الوزير الأكبر خلال سنوات 1895 و1896 و1897[3]، يلاحظ أن أساس وركيزة سياسة باحماد الداخلية كان هو جمع المال، الذي كان وحده الشفيع في صاحبه لتولي الوظيفة، والوسيلة الفعالة بل والوحيدة لعزل هذا الحاكم أو ذاك وتولية غيره. بل الأخطر من ذلك لشراء هذا الخصم أو الإساءة لذلك المنافس. والجدير بالملاحظة أن أخطاء هذه السياسة كانت غير بارزة وغير ذات عواقب سريعة، ما دامت المجاري مراقبة وتنتهي لمصب واحد، هو المركز الذي كان يراقبه بصرامة. أما بعد اختفاء قبضة الوزير المستبد، فقد انحرفت المجاري واتخذت اتجاهات عديدة نحو مراكز الثقل، التي تنوعت بفعل عجز المخزن العزيزي وفساد أعضاءه، وبذلك برزت العواقب الكارثية بعد وفاة الصدر الأعظم مباشرة. وقد أشار العروي إلى أنه لا يمكن أن نقول أن الصدر الأعظم قد سار على خطى الحسن الأول، نعم لقد ظل وفيا للمظاهر والبرتوكول، أما في العمق فإن سلطته المغتصبة تأكدت بدون اهتمام بالشرعية وبُنيت فقط على الفساد: إن حقبة الأدعياء يحق لها أن تبدأ[4]. لقد بدأت فعلا حقبة الأدعياء التي استفادت بشكل كبير من هذه الفترة، فبعد أن تخلص السلطان عبد العزيز من الحجر والوصاية، آن له أن يواجه مصيره لوحده وأن يقدم على مبادرات وخطوات جريئة لم تكن محط إجماع الكل. فكانت الذريعة والمبرر لظهور المعارضين بل والطامحين إلى إزاحته عن عرشه، وهو ما شكل عنوانا للظرفية الصعبة لبداية العهد العزيزي بعد وفاة باحماد.

التف أعضاء المخزن العزيزي، الذين كانت وجهات نظرهم متعارضة بتعارض مصالحهم الشخصية، حول سلطان شاب يفيض حيوية وحماسا للشروع في إصلاح ما يمكن إصلاحه، لمواجهة الأخطار المحدقة. وتقرر عدم استبداد أي واحد برأي أو اتخاذ قرار والعمل لصالح البلاد. واتفق الجميع على أخذ اليمين من كل موظف، على أن لا يستأثر بهدية أو يأخذ رشوة أو يخون في عمله السلطان «وحلفوا على ذلك – يقول الحسن بوعشرين- بجميع أيمان المسلمين». لكن الذين أقسموا كانوا أجرأ على الاختلاس من غيرهم، كما يقول الحجوي[5]. وهو ما جعل مهام السلطان الشاب عبد العزيز صعبة خاصة أن صراع وزرائه واختلافهم لم يكن حول طبيعة الخطط الكفيلة بإنقاذ البلاد، بل كان حول مصالحهم الشخصية المرتبطة بالقوى الأجنبية. فصاروا حسب بيير كَيلين (Pierre GUILLEN) حلفان: حلف موال لبريطانيا وآخر منافح عن مصالح فرنسا في المغرب، وكلاهما سعى إلى إقناع السلطان وتوريطه في مشاريع تخدم استراتيجيات الدولة الموالي لها[6].

في هذا الجو المضطرب، ظهرت الأفكار الإصلاحية للسلطان عبد العزيز والتي اعتبرها البعض مؤشر تحديث للبلاد، بينما اعتبرها البعض الآخر ارتماء في أحضان الأجنبي وتنكرا للهوية. وفي مقدمة هذه الأفكار والمشاريع تأتي ضريبة الترتيب، التي حاول من خلالها السلطان عبد العزيز تحقيق نوع من العدل الجبائي والتخفيف على الرعية من شطط الجباة وتعسف القياد. وهي الضريبة التي اعتبرت بمثابة قميص عثمان الذي حمله خصوم السلطان للإطاحة به والتخلص منه، بدء ببوحمارة وانتهاء بعبد الحفيظ. والحال أن عبد العزيز لم يكن في الواقع مبتدعا ولا صاحب سبق في هذا الإصلاح الجبائي الذي خرج في الأصل من رحم مؤتمر مدريد، في بنديه الثاني عشر والثالث عشر، وترجم فيما بعد في شكل ما عرف بقانون 30 مارس 1881 المنظم للترتيب، والذي تجاوزه السلطان الحسن الأول، بعد استحالة تطبيقه، بإقرار نظام آخر للترتيب سنة 1884، وحاول قدر المستطاع أن يكيفه مع الواقع المغربي محدثا بذلك تحولا في النظام الجبائي المغربي بنقل جزء مهم منه، على الأقل، من مرجعيته الدينية إلى مرجعية وضعية.

وبذلك تكون خطوة ابنه عبد العزيز في هذا الاتجاه مكملة ومطورة لنهج ارتضاه والده منذ حوالي 20 سنة. وإذا كانت مبادرة الابن أكثر حماسا واندفاعا، فإن المناخ العام الذي طرحت فيه هو ما عمل على نسفها وتشويهها وتحويلها إلى عنصر إدانة له، إذ أسهمت الدسائس والمكائد التي كانت تدبر بين وزراءه في فشل المخزن على كل الواجهات، ولم يعمل أولائك الوزراء سوى على استنزاف خيرات البلاد تصفية لحسابات شخصية، أو عمالة لمصالح دولة أجنبية. فالجناح المُوالي لفرنسا أبى إلا أن يعرقل أي نجاح يمكن أن يحققه وزير الحرب المهدي المنبهي الحليف لبريطانيا المتهمة بكونها صاحبة فكرة الترتيب، وإظهاره بمظهر الفاشل تمهيدا لإبعاده عن المشهد السياسي الذي كان مستأثرا به. وقد تأتى له ذلك ولو على حساب مالية الدولة وهيبة سلطانها. ليظهر عبد الكريم بن سليمان حليف فرنسا على مسرح الأحداث، مما أشر على بداية تحول جديد في سلوك السلطان وتحديد اختياراته وأولوياته، لا على مستوى مشاريعه الإصلاحية الداخلية فحسب، ولكن أيضا في علاقته بالقوى الأجنبية. هذه الأخيرة التي لا يمكن أن نتجاهل دورها المحوري فيما حصل بشأن الترتيب، خاصة فرنسا التي كانت تتطلع إلى تجفيف موارد خزينة المغرب لجره إلى مستنقع الاقتراض، ذلك ما أكده بيير كيلين بالقول : إن كل القوى الأجنبية الموقعة على اتفاق مدريد « بادرت كلها بالموافقة على الترتيب باستثناء الحكومة الفرنسية التي كانت تسعى إلى تمديد ما لها على المخزن من وسائل الضغط والتهديد، واستعملت كل الذرائع لتأخير موافقة لم تتم إلا في 26 نونبر 1903 بعد أكثر من سنتين على إعلان الإصلاح، وهكذا حالت العرقلة الفرنسية من سنة 1901 إلى 1903 دون جباية ضريبة الترتيب من الأجانب والمحميين، علما بأن ذلك كان من شأنه أن يوفر في الحين بعض المداخيل للمخزن بعد أن توقف عن جبايتها من القبائل[7]. وهو ما يفسر ترتيبات الحكومة الفرنسية بشأن الوضع في المغرب، والتي اختزلها جون كلود آلان (Jean Claude ALLAIN) بالقول: إن الغزو الفرنسي للمغرب مر عبر ثلاثة مراحل: في ظل المخزن، مع المخزن وباسم المخزن. ففي المرحلة الأولى خلقت فرنسا جناحا مواليا لها داخل المخزن سهل مهمتها وضيق على منافسيها وأتباعهم داخل الجهاز المخزني في وقت عملت فيه على توريط المخزن في سياسة الاقتراض ثم أرسلت مبعوثها سان روني طايلندي (Saint René TAILLANDIER) إلى فاس مطلع سنة 1905 بمشاريع إصلاحية شكلت مقدمة لفرض الحماية الفرنسية على المغرب، واجهها السلطان عبد العزيز بدعوة تشاورية لمجلس الأعيان الذي عضد السلطان في رفضه للمقترحات الفرنسية، وهي مبادرة معبرة عن حنكة وانفتاح للسلطان الشاب لم تتكرر مع خلفه عبد الحفيظ في مواجهة المقترحات الفرنسية الألمانية سنة 1911. وإذا كانت فرنسا قد اعتبرت الأمر منتهيا، وإخضاع المغرب بات مسألة وقت فقط بعد اتفاق 8 أبريل 1904، المعروف بالاتفاق الودي مع بريطانيا، فإن تجاهلها لمصالح ونفوذ ألمانيا في المغرب كلفها الكثير من الجهد والوقت. إذ جاءت زيارة إمبراطور ألمانيا غيوم الثاني إلى المغرب سنة 1905 وضغط الحكومة الألمانية على نظيرتها الفرنسية لإبعاد ديلكاسي من رئاسة “الكي دورسي” لتخلط الأوراق من جديد، ولتظهر الورقة الألمانية بمثابة قشة احتمى بها المغرب، ولو لحين انكشاف هذا الوهم. فقد راهن عليها السلطان عبد العزيز لتدويل القضية المغربية والذهاب لمؤتمر الجزيرة الخضراء الذي لم تعمل مقرراته، التي قبلها المغرب، إلا على مزيد من تسويد صحائف السلطان وبداية التفكير في خلف له، وهو المسؤول في نظر خصومه على ارتكاب جريمتين على الأقل: نسخ الزكاة الشرعية بالترتيب الوضعي، والاعتراف بمقررات الجزيرة الخضراء. فكان الخلف بمراكش يعد عدته في انتظار اللحظة المناسبة لتقديم نفسه سلطانا للجهاد، مستفيدا من تأزم الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد وخاصة بمنطقة الحوز بين 1903 و1906.

يتعلق الأمر بأخ السلطان وخليفته على مدينة مراكش عبد الحفيظ المزداد حوالي سنة 1876 الذي تلقى تعليمه بأحمر نواحي آسفي حيث حفظ القرآن وعدة متون فقهية ولغوية فصار عالما متبحرا وأديبا متمكنا وشاعرا ناظما مقتدرا، يظهر ذلك من خلال مؤلفاته في علوم اللغة والفقه والحديث والشعر والفكر والسياسة والتاريخ، وكان يحظى باعتبار خاص عند أحمد بن موسى، فالوزير الصدر كان هو المشرف على تعليمه هو وإخوته. ولعب قبوله مبكرا بيعة أخيه الأصغر عبد العزيز دورا مهما في حظوته لدى باحماد، وبالتالي تكليفه بمجموعة من المهام والوظائف التي انتهت به إلى تولي منصب الخلافة عن أخيه السلطان بعاصمة الجنوب مراكش، فاستفاد من المصاعب السابقة والأخطاء المرتكبة في التدبير من طرف المخزن العزيزي ومن تزايد نفوذ القياد الكبار بالحوز وتدبيرهم للمكائد والدسائس واستفادهم من عدم تجزيئ إيالاتهم زمن السلطان الحسن الأول كما فعل مع قبائل الشمال، ومن عجز السلطان عبد العزيز عن الحد من تزايد نفوذهم خاصة بعد استفادتهم من ثورة بوحمارة، كما استفاد من تشديد القبضة الأجنبية على البلاد خاصة بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء واحتلال كل من وجدة والدار البيضاء سنة 1907 من طرف القوات الفرنسية. هذا الحدث الأخير هو الذي سهل لعبد الحفيظ مهمة العبور نحو كرسي العرش، خاصة بعد عجز الجالس عليه آنذاك في التصدي للقوات الفرنسية.

تضاربت الآراء حول نوايا عبد الحفيظ إزاء ما كان يعرفه المغرب مطلع القرن العشرين، بين مدع أنه كان يعد العدة مبكرا للإطاحة بأخيه عبد العزيز والعمل على اقتناص أخطاءه واستغلالها، وبين من رأى فيه زاهدا في الملك غير طامع فيه، لم يفكر بشكل جدي في تحمل المسؤولية إلا بعد أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه من اضطرابات وفتن وسوء تدبير وتزايد للأطماع الفرنسية في المغرب، خاصة بعد أن أصبحت أمرا واقعا باحتلال أجزاء مهمة من شرقه وغربه، وبذلك لم يكن عبد الحفيظ حسب هذا الطرح[8]، إلا ملبيا لواجب ديني ووطني بعد تقاعس المخزن العزيزي عن القيام بمهمة الجهاد وصيانة البلاد. ومهما يكن من أمر عبد الحفيظ ونواياه، فإن السلطان عبد العزيز بدأ يشعر فعليا أن أخاه وخليفته بمراكش صار شخصا مزعجا يسعى إلى سحب البساط من تحت قدميه، لذلك حاول إزاحته عن خلافة مراكش، وهو ما تؤكده محلة مولاي عمر التي كان هدفها الظاهر جمع عائدات الترتيب التي تقاعس الكلاوي عن قصد في توجيهها للسلطان، ومسعاها الباطن التوجه إلى مراكش للتخلص من الخليفة الذي صار يشكل “حزبا” معارضا للتوجه العزيزي مستفيدا من وضع مهترئ للبلاد ومن دعم قوي من قياد الحوز. وإذا كان الخليفة قد بادر في بداية الأمر إلى دفع التهم عنه، والتي رمته بالتطلع للمُلك في رسالته إلى السلطان المعنونة بـ”إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، المؤرخة بـ 9 يونيو 1906، فإن في ذلك ما يؤكد، بعيدا عن النوايا، أن الرجل كان يعرف جيدا أن الظروف لم تنضج بعد ليقول عكس ما قاله في هذه الرسالة. وأن الأمر لازال يتطلب المزيد من الاستعداد في مراكش، وانتظار توالي الأخطاء في فاس التي من شأنها أن تحول أنظار وتطلعات المغاربة صوبه باعتباره الملاذ والمنقذ. فقد عرف المغرب أزمة مالية اضطرته إلى الاقتراض، وتأزمت الوضعية أكثر بين 1904 و1906 بسبب شح التساقطات وما نتج عنه من نقص في السلع وتضاعف أسعار الحبوب، فساد التذمر العام. وعوض أن يسهم الخليفة من موقعه في التخفيف من حدة الأزمة، سعى إلى تكريسها. لذلك يحق لنا أن نتساءل مع علال الخديمي لماذا لم يتخذ الخليفة موقفا حاسما من الرافضين لأداء الزكاة والأعشار؟ وبعبارة أدق ما هي الرهانات التي تفسر موقف الخليفة؟ ألم يكن لإرباك حسابات السلطان؟

 إن عبد الحفيظ «كان يعلم مقدار عدم شعبية مخزن عبد العزيز ومقدار تذمر الرأي العام، ولذلك لم يرغب في اقتسام حقد الناس على أخيه. بل بات يقترب من القبائل لكسب صداقتها ويوجه الأوضاع بشكل يخدم أهدافه البعيدة، ويحرف المجاري لحقوله… إن الاضطراب يضعف نفوذ السلطة المركزية وهيبة السلطان. وبروز عبد الحفيظ مستقلا برأيه وتدبيره قد يرفع من هيبته أمام الناس، ثم إن تأزيم وضعية المخزن المالية، قد يتسبب في بروز مراكز قوى واستقطاب جديدة يجد فيها الخليفة فجوات للعمل لصالحه. وهذا ما يفسر في نظرنا قراره بمنع خروج الخراصة(جُباة الزكاة) للقبائل، كما أمر مخزن فاس. وإذا أدركنا أن إكثار عبد الحفيظ من عقد الاجتماعات مع أعيان الرحمانة في واضحة النهار في صيف 1906 لم يكن أمرا عاديا، وإنما كان ينبئ عن تدبير شيء ما أو الاحتياط من أمر ما، وصارت الإشاعة حقيقة وهي أن الخليفة كان يستعد لإعلان نفسه سلطانا بدل أخيه، تأكد لدينا أن رسالة 9 يونيو 1906 التي تقمص فيها عبد الحفيظ شخصية الفقير الصابر كانت تهدف بالأساس إلى تفادي النقمة قبل اشتداد العضد والإعداد الجيد لسحب المشروعية عن السلطان القائم بفاس، لاسيما بعد مصادقته على مقررات الجزيرة الخضراء، والتي شكلت فرصة لم يفوتها خليفته بمراكش للإقدام على خطوات اعتبرت تدشينا عمليا لما كان يصبو إليه، إذ شدد الحراسة على مقر سكناه، وأعاد تنظيم قواته العسكرية، وخطب ود أولياء المدينة ومقدمي الرماية وأهل الحل والعقد بالمنطقة، ونسق استعداده مع قياد القبائل المجاورة، وخاصة مع الرحامنة، لكنه لم يتجه رأسا إلى طلب الملك، بل سعى إليه بحذر وترفق متبعا الطريقة الشرعية التي اعتادها المغاربة وتعارفوا عليها لإعلان بيعة سلطان جديد.

وإذا كان اغتيال الدكتور “إميل موشان” (E. MAUCHAMP)  في 19 مارس 1907 بمراكش قد وفر الذريعة لفرنسا لاحتلال مدينة وجدة في 25 من نفس الشهر، فإن عجز عبد العزيز عن التصدي لهذا الحدث عبّد الطريق أمام أخيه وخليفته عبد الحفيظ ليعلن نفسه سلطانا بديلا للجهاد بعد تقاعس سلطان البلاد عن القيام بواجباته كاملة. وجاءت قنبلة مدينة الدار البيضاء واحتلالها مع بداية شهر غشت 1907 لتسرع وتيرة الأحداث خاصة بعد استغاثة زعماء الجهاد بالشاوية وعلمائها يوم 11 غشت من نفس السنة بعبد الحفيظ لمواجهة الغزاة المحتلين لمدينة الدار البيضاء. ليكون يوم الجمعة 16 غشت الموالي يوم إجماع بمسجد القصبة بمراكش على خلع بيعة المولى عبد العزيز، وإعلان بيعة المولى عبد الحفيظ سلطانا جديدا للمغرب. « وبمجرد ما تمت بيعة مراكش، بادر المولى عبد الحفيظ إلى نشر دعاية واسعة في أنحاء المغرب للجهاد، وهكذا بعثت رسائل إلى مختلف جهات البلاد، وإلى كل القبائل والمدن وإلى أهل الحل والعقد من القياد والعلماء والرؤساء والمرابطين، تدعوهم إلى الانضمام إليه من أجل العمل على تحرير المغرب من الاحتلال والمحافظة على استقلاله. والملاحظ أن معظم القبائل الحوزية والديرية والدرعية والصحراوية والفيلالية، وبصفة عامة معظم سكان البوادي لبّوا الدعوة للجهاد. وكان عامل تافيلات مولاي رشيد بن محمد من المبادرين بإرسال بيعة قصور تافيلالت مع ولده محمد الذي سيقود أول محلة حفيظية نحو الشاوية ».[9]

ولمواجهة هذه التطورات المتسارعة بمراكش، قرر السلطان عبد العزيز، بعد تردد، مغادرة فاس في اتجاه الرباط يوم 12 شتنبر 1907، وهو ما فسح المجال للقوى الناقمة عليه أو على الوضع القائم للتمرد بالعاصمة والجهر بولائها لعبد الحفيظ، إذ شهدت مدينة فاس في دجنبر من نفس السنة انتفاضة في هذا الاتجاه كادت تتحول إلى فتنة تم تفاديها بإعلان أهل الحل والعقد عزل السلطان في 3 يناير 1908 تمهيدا لبيعة أخيه عبد الحفيظ بدلا منه بعد يومين من ذلك التاريخ. «لقد كان التبرير قويا في نظر الجمهور الذي بايع مولاي عبد الحفيظ، لأنه أعلن الجهاد. وإذا كان الأجانب يعرفون حدود قوة سلطان الجهاد، كما كان هو نفسه يعرفها، فإن إعلانه للجهاد ملأ فراغا محسوسا وسمح لحزبه بالمبالغة في تقدير قوة السلطان الثائر». ومنح للمغاربة فسحة أمل كبرى سرعان ما ستخبو.

المحور الثاني: البيعة المشروطة والمسألة الدستورية

تعد نازلة خلع سلطان ومبايعة آخر أهم حدث سياسي وفقهي عرفه المغرب في بداية القرن العشرين، ولعلها تكون سابقة في تاريخ المغرب السياسي، وعلّل الفقهاء المراكشيين عملية الخلع هاته، حسبما نقله محمد المنوني في مظاهر يقظة المغرب الحديث بالقول إن العلماء رأوا أن المولى عبد العزيز وأهل ديوانه أفسدوا جميع ما تولوا إذ ليسوا أهله. يتمثل الفساد في مظاهر عديدة، يقول إسماعيل الحسني في دراسة بعنوان أنموذج مغربي من الفقه السياسي في القرن العشرين (فكر ونقد) ما يلي: يتجسد منشأ الفساد(لدى العلماء) فيما يلي: أولا: مولاة الكفار، وثانيا: نبذ شروط صحة الإمامة، من ذلك العدالة. إذ الفسق من موجبات الخلع، ومن ذلك أيضا عدم الأهلية لأن المولى عبد العزيز تولى الإمامة، وهو لا يدري معناها، فأكب عليه بعض ممالك أسلافه وجعله تحت حكمه فأقامه للرعية ظاهرا ومنعه من الاطلاع على شيء ما، فكأنه لا زال تحت حضانة والديه بحيث لا دخل له في أمر ما، وثالثا: إسناد مهام الأمة سواء في حفظ دينها أو في تنظيم دنياها إلى غير أهل الكفاءة، فاعتقد السلطان عبد العزيز خطأ، أن قيام الملك بهم خاصة فتركه لهم كما كان لمن قبلهم. ورابعا: بـاستبدال أركان الشريعة، ومنها ركن الزكاة بأضدادها من قوانين الكفرة القبيحة الشنيعة، وخامسا بـ احتلال مناطق من البلاد المغربية، ومنها وجدة بلا صلح ولا عنوة بل مجانا، وسادسا: نهب الأموال وسفك الدماء وقطع السبيل، أو لنقل بكلمة جامعة اختل نظام الوجود المجتمعي حتى عميت على الفقيه في نوازله الأدلة التي يحصل الاحتجاج بها على المذهب. ويعلق الحسني على التعليلات التي قدّمها علماء مراكش في خلعهم للمولى عبد العزيز بالقول ولا يمكن محو فساد هذه المظاهر إلا بإمام تتوفر فيه شروط عقد الإمامة. وقد توفرت بشهادة الفقهاء المراكشيين وأشرافهم وأعيانهم ومن هم دون ذلك، في المولى عبد الحفيظ، أو على الأقل توفرت في هذا الأخير الشروط الممكنة في الوقت، واتفق الجميع على تسجيل بيعته وعقدها هنالك مع التصريح بخلع أخيه مولاي عبد العزيز الذي كان قبله. يقول علال الفاسي إن ما وصف بالثورة الحفيظية قصدت تحقيق أمرين اثنين أساسيين: أولهما- القضاء على الدسائس الأجنبية بالمحافظة على استقلال المغرب، بينما كانت فرنسا قد احتلت الدار البيضاء و وجدة، كما احتلت الجزائر وتونس. وثانيهما- القيام بإصلاح سياسي يسير بالأمة نحو نظام دستوري متين. والحال أن شره فرنسا ومزاحمة دول أوربية لها في المغرب، ونتائج المعاهدات الاقتصادية والتجارية الوخيمة على المغرب، دفعت الشعب المغربي إلى التحرك ضدها، للبحث عن مخرج ينجيه من احتلال بات محققاً، وهكذا قامت حركة وطنية مسلحة، في الجنوب بقياد الشيخ ماء العينين، وفي الشمال بقيادة محمد الشريف أمزيان، لمواجهة المستعمر، كما نهضت حركة فكرية (جماعة لسان) تطالب بعملية إصلاح سياسي ومؤسساتي فكانت أن وضعت أول مشروع دستور مغربي سنة 1908.([10])

جاءت بيعة فاس متأخرة عن بيعة مراكش بما يقرب من خمسة أشهر، وفي هذه المدة تطور رأي العلماء بفاس من موقف التشبث بالسلطان القائم ومعاداة منازعه بمراكش إلى موقف معاكس. ولا يمكن أن نزعم أن شخص الكتاني وتأثير موقفه كان وحده المسؤول عن هذا التأخير في إتمام البيعة والتغير في الموقف، فالرجل نفسه لم يحسم موقفه إلا بعد أن استغل خروج السلطان من فاس قاصدا محاربة أخيه القائم بمراكش. ويبدو أن كلا الرجلين، أي عبد الحفيظ والشيخ الكتاني، كانا يدركان قوة وقيمة بعضهما البعض. لذلك لم يكن من العبث أن يرسل عبد الحفيظ بعد ثلاثة أيام من بيعة مراكش رسالة إلى الشيخ الكتاني مخاطبا إياه بـ «الشيخ الأجل العارف بالله تعالى الولي الكامل الشريف البركة (…) وأعلمناك بهذا لتأخذ حظك من الفرح وتوجه بيعتك لشريف حضرتنا سائلين منكم صالح الأدعية بإعزاز هذا الدين الشريف وتأييده، وإعانة جنابنا على القيام بـأمور المسلمين». كما أن الشيخ الكتاني أدرك أن عبد الحفيظ عرف كيف يركب “حصان الشاوية الجهادي”، ويحقق الإجماع حوله كزعيم منقذ، لذلك لم يتوان في إعطاء الشعار الحفيظي الذي أوصله إلى العرش بعدا رسميا وشرطا إلزاميا، واضعا إياه بين احتمالين، إما نصر مبين أو فضيحة مشهودة بنص بيعة مشروطة. فشروط بيعة فاس، التي كانت من إملاء الكتاني، والمكبلة للسلطان الجديد كانت، بالنظر إلى إمكانياته وإلى الوضعية الديبلوماسية والعسكرية القائمة، بمثابة مطالب مثالية قصوى، وهي حسب أحمد التوفيق أشبه ما تكون بخطبة دعائية لمرشح يائس من الفوز بالحكم يفضل لغة الإعجاز على تصور برنامج عملي لتحقيق تلك الشروط.

وإذا كانت الحركة الحفيظية قد استطاعت أن تلف حولها مختلف الفئات الاجتماعية باسم الجهاد، كمبرر للتنصل من عقد سياسي “بيعة مولاي عبد العزيز”، فإن ذلك حسب تقدير عبد الله العروي، لم يكن سوى إعادة انبثاق للمخزن الحسني؛ فهذا الإجماع، كان بإمكانه أن يشكل المفتاح السحري لحل كل مشكلات البلاد، إلا أنه لم يخلق إلا أملا وهميا وحلما سرعان ما تبخر، لأن فرقاء الإجماع كانوا يدافعون في الأصل عن مصالحهم الخاصة، ولم توحدهم المصلحة العامة للبلاد، لذلك مباشرة بعد البيعة بدأت مرحلة تصفية الحسابات. سعى عبد الحفيظ في مرحلة أولى إلى الظهور بمظهر الممتثل لشروط البيعة، وأعلن في 19 يناير 1908 تنكره لمقررات الجزيرة الخضراء، غير أن الدول الموقعة على هذه الاتفاقية أرسلت مذكرة جماعية إلى السلطان الجديد بتاريخ 14 شتنبر من نفس السنة تؤكد عدم اعترافها به ما لم يعمل على الإقرار والعمل بكل الأوفاق التي وقعها سلفه. وأثناء اجتماع عقد بتاريخ 8 أكتوبر بقصر السلطان، حاول الكتاني مرة أخرى خلط الأوراق معلنا أن السلطان مادام يحظى بدعم شعبي فهو في غنى عن أي اعتراف دولي، وإن كان لابد من تطبيق الإصلاحات المقترحة بالخزيرات فلتكن بدعم ألماني. غير أن عبد الحفيظ ترك غريمه يزرع الأشواك في طريقه ريثما تحين فرصة الانتقام منه، وأعلن في 7 دجنبر 1908 قبوله بمقترحات المذكرة المرفوعة إليه من لدن الدول الأوربية. فكان عليه أن ينتظر سنة كاملة بعد بيعة فاس لينال الاعتراف الدولي الرسمي به سلطانا للمغرب بتاريخ 5 يناير 1909. إذاك أدرك الكتاني أن عبد الحفيظ قلب ظهر المجن لشروط البيعة، وأن ساعة الحسم قد دنت، فخرج من فاس خلسة قاصدا قبائل بني مطير بالأطلس المتوسط، لغرض في نفسه، لا نملك من القرائن ما يجعلنا نجزم هل للثورة أم للهجرة إلى الله. ومهما تكن نواياه وأحلامه، فإن عبد الحفيظ لم يتركها تكبر وتتضح، بل أقبرها في المهد بإلقاء القبض على صاحبها وذويه في مارس 1909، ليوضع في سجن فاس، بعد أن وجهت له تهمة عصيان السلطان الشرعي وإثارة الفتنة حوله، وعذب في سجنه حيث توفي يوم 4 ماي 1909.[11]

لم يكن عبد الحفيظ يحتاج لحسم الموقف في صراعه مع أخيه عبد العزيز لأدعية وبركة الشيخ الكتاني فقط، أو حتى الاكتفاء بالعبور السلس من بوابة شرعية الخلع والبيعة، بل تطلب الأمر مواجهة عسكرية دارت رحاها على التوالي في كل من الشاوية والحوز بين 14 أكتوبر 1907 و19 غشت 1908، تاريخ الاندحار النهائي للقوات العزيزية بموقعة بوعشيبة. وبين هذين التاريخين كان عبد الحفيظ يريد أن يعطي الانطباع أنه فعلا سلطان الجهاد، وفي نفس الوقت يسعى لتفادي نقمة الفرنسيين بعدم إشهار عدائه لهم. وهو ما يفسر مكوثه بمخيم عين الشعير، على الضفة اليسرى لواد أم الربيع، حوالي ثلاثة أشهر بين بداية يناير وبداية أبريل سنة 1908. فلم الأولوية؟ هل للجهاد والتوجه لمآزرة المجاهدين بالشاوية؟ أم لاستكمال مراحل الجلوس على العرش بدخول العاصمة فاس؟ لتفادي هذا الإحراج حاول عبد الحفيظ طمأنة المجاهدين بالشاوية بالاقتراب منهم في مرحلة أولى قبل أن يخترق بلاد زيان في اتجاه مكناس التي وصلها في 16 ماي 1908، ثم فاس في منتصف يونيو من نفس السنة بتأييد وحماية من القائد الشهير موحى أحمو الزياني كما يوضح ذلك أحمد المنصوري.[12]

شهد المغرب حركة قوية في مطلع القرن العشرين تستهدف إصلاحا سياسيا راشدا، حيث كان أبرز الأعمال الرائدة آنذاك يهدف إلى إصلاح نظام البيعة وذلك باستحضار الطرف الذي لا طالما كان مغيباً عن الفعل التعاقدي والمتمثل في جمهور المبايعين من الأمة، هذه الحركة القوية التي قصدت إصلاح نظام البيعة تأتى لها ذلك، وكان فاتحة عهد جديد وإعطاء انطلاقة قوية لمشاريع إصلاحية سياسية تترجم نصوص البيعة التامة، المحكمة الشروط والوفية العهود، الدقيقة الربوط كما في رسالة السلطان عبد الحفيظ بعد توليته بمراكش إلى الشيخ محمد بن عمر الكبير الكتاني، حيث ورد في نصها: وبایعونا بيعة انعقد على ألوية النصر عقدها، وطلع في أفق الهناء سعدها، حضرها الصدور والأعيان، وأهل الوجاهة في هذا الزمان، و ذوو الحل والعقد، ومن إليهم القبول والرد، من علماء أعلام، وأصحاب الفتاوى والأحكام، وعظماء أشراف، ورماة كبراء، وولاة أمراء، ورؤساء أجناد، والمتقدمين في كل ناد، من عرب البدو والحضر، وجيوش العبيد والبربر، فانعقدت بحمد الله مؤسسة على التقوى واشتد بها عقد الإسلام وتقوى، بيعة تامة محكمة الشروط، وفية العهود، دقيقة الربوط جارية على سنن السنة والجماعة.[13]

لقد شكلت البيعة إذن تأسيس نواة للإصلاح السياسي وبدايته، وإعادة النظر في مفهومها وفي دور الطرف الثاني في حراسة مضامينها وبنودها، إنهم المبايعون الذي تم العمل بكل وسيلة لإهمالهم بعد إمضائها وتنفيذها، إن بالإبعاد کما وقع لأحمد ابن المواز کاتب نص وثيقة خلع المولى عبد العزيز وتنصيب المولى عبد الحفيظ، أو بالقتل کما وقع للمدافع عن حق المتعاقدين في نص البيعة للمولى عبد الحفيظ الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني.

لقد كانت البيعة الحفيظية كما هو أصلها الراشد تعاقدا سياسيا بين طرفين، لکل منهما حقوق وواجبات، وهكذا استقبل المغرب القرن العشرين بوثيقة سياسية للإصلاح السياسي، تجلت في الشروط المحكمة والدقيقة والوفية، فاستوعبوا شروطها أصلا و فرقا و جنا ونوعا … وأبرموا عقدها، وأحكموا عهدها»

وقد ارتكز مشروع الإصلاح السياسي في بيعة المولى عبد الحفيظ على ما يلي:

  • أن يرفع ما أضر بالأمة من الشروط الحادثة في معاهدة الخزيرات، حيث لم توافق الأمة عليها.
  • استرجاع الجهات المأخوذة من الحدود المغربية.
  • تطهير صفوف الأمة من الحسابات الخارجية.
  • عدم إتباع إشارة الأجانب في أمور الأمة.
  • إن دعت الضرورة إلى الاتحاد والتحالف فليكن مع العثمانيين المسلمين.
  • تنظيم الدفاع الوطني.
  • الرجوع إلى الأمة واطلاعها على سير المفاوضات مع الأجانب.

وقد اشترط بعض العلماء وقت تحرير البيعة الحفيظية أن يضمن فيها:

– أن يعمل على إنشاء مجلس شورى تكون له الكلمة في الحسم والنظر في شروط البيعة وحراستها حتى لا يقع الإخلال بالتعاقد.

ومن هنا وصفت بيعة السلطان في 5 من يناير 1908 بأنها كانت البيعة الأولى من نوعها في تاريخنا الوطني، برهن فيها المجلس الشعبي للبيعة على شجاعة سياسية، وغيرة وطنية، وبرز فيها الفكر الدستوري متجسدا في ضرورة تأطير الأزمة التي وعي بها مُفكروا وعلماء تلك الفترة وترجمت لاستحضار -هؤلاء العلماء- لجسامة المسؤولية.

ويمكننا القول: إن إصلاح البيعة كانت عهدا جديدا على طريق الإصلاح السياسي، فانهالت المقالات الإصلاحية في الجرائد والمجلات القليلة وقتها، حيث انتشرت العناوين الآتية:

نحن والإصلاح المنشود – المعركة الدستورية – الدستور  – قانون مجلس النواب العثماني …..إإلخ.

وصولا إلى مشروع دستور 1908 لجماعة لسان المغرب، والذي صدر بطنجة ونشر يوم الأحد 15 أكتوبر1908. لتتوالى بعده عملية نشر المشاريع والمذكرات في مختلف الصحف والجرائد كمشروع ابن سعيد السلوي ومذكرة الحاج علي زنيبر اللّطام والتي عنونها ب “حفظ الاستقلال سيطرة الاحتلال” ومشروع دستور الشيخ عبد الكريم مراد الطرابلسي المدني، وغيرها.

وهكذا سبق البيعة ورافقها وأتي بعدها، مجموعة من المشاريع الإصلاحية ذات البعد الدستوري في المجال السياسي، فبفضلها هبت على المغرب غيرة وطنية، وأصالة سياسية، ونفحة إصلاحية أولى، وبسبب القيود والشروط المتضمنة في نصها، فقد وجد السلطان نفسه مقيدا بشروط الأمة التي استعادت حقها في المشاركة في حكم نفسها، وبالسعي في تحقيق تطلعاتها وتحمل مسؤوليتها في تدبير الشؤون العامة، الشيء الذي جعل المولى عبد الحفيظ يتنكر للعهود والشروط والبنود، وينقلب عليها وعلى أصحابها، فسجن رائدها وقتل الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، وأهمل محررها الشيخ أحمد بن عبد الواحد المواز.

لقد كانت البيعة الحفيظية في موادها وبنودها تشكل خلاصة للأفكار الإصلاحية السياسية التي كانت تعتمل ويتم تقليب الرأي فيها قبل زمن انعقاد البيعة، وتحديدا منذ الهزيمتين حين بدأ حديث الإصلاح يتناول بقوة وإصرار. کما شكلت البيعة – من جهة أخرى – الأساس المرجعي لكل المشاريع الإصلاحية السياسية، وتفصيلا لما ورد في البيعة مجملا، فتم أجرأتها في شكل مواد وقواعد حاكمة، يقصد منها تجاوز الأزمة السياسية والاحتقان الذي عرفه زمن حكم المولى عبد العزيز.

ومهما تشعب القول في الذي حصل من تبعات التدافع في باب الإصلاح فإن البيعة المشروطة تظل بحق أحد التجليات الهامة للفكر الدستوري التعاقدي بين السلطان والشعب (جمهور المبايعين).
إذا كان عبد الحفيظ قد حسم المواجهة مع أخيه عبد العزيز بانتصار بيّن، إن على مستوى المشروعية أو النزال العسكري، فإن تخلصه من الكتاني كلفه شيئا غير يسير من شعبيته، ولم يكن له ليستريح بعد هاتين المواجهتين، بل استمر في مواجهة الثوار والمعارضين، إذ كان عليه حسم الموقف مع أخيه مولاي امحمد ومع المتشبه به، أي بوحمارة، ومع مولاي الكبير قبل أن يواجه في وقت لاحق مولاي الزين. وبذلك يكون واجه ستة رجال في ظرف لا يتعدى الأربع سنوات، مما أربك حساباته، وانشغل عن المهمة التي بويع من أجلها، أي واجب الجهاد وتحرير البلاد، وسعى عوض ذلك إلى إرضاء الأجانب والحصول على الشرعية الدولية، في وقت حاول فيه ترتيب بيته الداخلي عبر الإمساك بزمام الأمور والقضاء على الخصوم والمناوئين لتثبيت مشروعيته الداخلية، فانزوى مشروع الجهاد إلى ركن اللامفكر فيه أمام هذه الأولويات الحفيظية. فاندثرت شعبيته بعد توهج لم يعمر طويلا، لاسيما بعدما ضيق الخناق على جريدة لسان المغرب، وأقبر الحركة الدستورية وحلم الحكم الديمقراطي بالمغرب مبكرا. استبدل عبد الحفيظ مشروعه الجهادي بتوجه جديد يرمي إلى نهج أسلوب الحوار والتفاوض مع الفرنسيين، مراهنا على إقناعهم بالجلاء عن الشاوية كمدخل لاستعادة الهيبة وتقوية السلطة، لذلك طرح مسألة الشاوية على رأس مطالبه في المفاوضات التي انطلقت جولتها الأولى بفاس بين يناير ومارس سنة 1909، ولم تنته عمليا إلا بتوقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، وعرفت جولات شاقة وطويلة سواء في فاس أو في باريس، وقعت خلالها العديد من التسويات والاتفاقيات، أهمها اتفاق فاس حول الشاوية بتاريخ 14 مارس 1909، واتفاق الحدود في 23 مارس من نفس السنة، ثم تسوية 15 يناير 1910 بباريس التي انتظرت موافقة السلطان عليها، فاضطرت فرنسا للضغط عليه وإنذاره في 18 فبراير 1910 للخضوع لكل ما تطلعت إلى تمريره من بنود في مفاوضاتها مع ممثليه بباريس، فكان لها ما أرادت وجاء الجواب الحفيظي بالإيجاب يوم 23 فبراير 1910.

اتسمت هذه المفاوضات منذ انطلاقتها بفاس مطلع سنة 1909، فضلا عن تفاوت القوة التفاوضية للطرفين، بتوجه فرنسي كان يرى أن المسألة المالية هي محور المفاوضات بين الجانبين وجوهر المشكل، سعيا منه إلى إغراق المغرب في وَحَلِ الاقتراض، وبالتالي تكبيله وفرض المراقبة الفرنسية عليه. مقابل توجه مغربي يعتبر مسألة الاحتلال هي مكمن الداء في العلاقات المغربية-الفرنسية وبالتالي يجب حلها ليبنى على الشيء مقتضاه. لكن انتصرت إرادة الطرف الأقوى، وأجبر المغرب على عقد اتفاقية للاقتراض بتاريخ 21 مارس 1910، حصل بموجبها المغرب مبدئيا على 101 مليون فرنك، مقابل تجفيف مختلف مصادر ماليته من عائدات جمارك ومداخيل المراسي ومداخيل الأملاك المخزنية التي تم رهنها كضمانات لهذا القرض. فأصبح المغرب بعد الإنذار الفرنسي وتوقيع اتفاقية القرض تحت رحمة المراقبة العسكرية والمالية للفرنسيين. وكان طبيعيا بعد أن انكسر أفق انتظار المراهنين على هبة حفيظية لطرد المحتل أن يبادروا إلى تجاوز هذا الرهان، مما خلق مزيدا من الارتباك، وصار عبد الحفيظ مطالبا بمواجهة معارضي الداخل ولو بالاستعانة بقوات من الخارج، صنفت سابقا في خانة العدو المحتل الواجب طرده. في وقت جثم فيه صدره الأعظم المدني الكلاوي على صدور الناس، واشتط في جباية ضرائبهم، وتعسف في إدارة شؤونهم. ولم يكن ذلك نزوعا فرديا يلام عليه أهل البدو ممن تصدروا سدة الحكم الحفيظي، بل كان اختيارا ونهجا ارتضاه السلطان الذي أعرض عن تبني إحدى نماذج الحكم المعاصرة، والتي لم تكن خافية عليه سواء الأوروبية أو الإسلامية. وعوض ذلك، عاد خطوتين إلى الوراء مفضلا النهج الإسماعيلي في الحكم، متطلعا إلى التشبه بالسلطان القوي والحازم إسماعيل، رغم اختلاف الظرفية والإمكانيات بين الرجلين. فكان التخلي عن الترتيب العزيزي، الذي حاول أن يؤسس لإدارة عادلة، وإطلاق يد القياد والجباة في الناس، باعثا على نقمة الشعب المغربي واستياءه من الوضع القائم وحنينه إلى العهد العزيزي، وهو ما عبر عنه الحجوي بالقول: «واتفق عليه السلطان ووزراءه وعماله وأتوا من أنواع الظلم والتعدي والغصوبات بما لم يعهد مثله في عهد المولى إسماعيل ومن قبله». وأضاف على سبيل المقارنة «وأعانه كثيرا جمود المولى عبد العزيز وجمود عزيمته إذ لم يفعل شيئأ ولا طرق بابا من طرق الإصلاح صحيح، مع جهل وزرائه بأحوال العالم وانصراف وجهتهم إلى بيع الوظائف والأغراض الشخصية. كل ذلك أعان المولى عبد الحفيظ، فثبت أمره مع كون أحواله أردأ من أحوال أخيه بألف مرة إلى ما نهاية من الإضافات وكذلك وزراءه أحوالهم أسوأ من وزراء أخيه بأكثر من ذلك أضعافا». فصارت أيام عبد العزيز تظهر أيام عدل ورفق بالرعية ويتمنى الناس رجوعها، ولو مع ما كانوا يتهمونه به، حسب محمد بن الحسن الحجوي.

هذه الاختيارات هي التي تفسر الجو المشحون الذي شهده العهد الحفيظي على المستوى الداخلي، وخلقت تحولا في العلاقة مع القبائل من الترحيب والاحتضان إلى النفور والاستهجان؛ فقبائل بني مطير التي احتمى بها الشيخ الكتاني، وانتزع من بين أحضانها ليسجن ويعذب ويموت ما كان لها أن تنسى هذا الأمر أو تتحمل شططا أو تعسفا من المخزن الحفيظي، لذلك بادرت إلى تكوين حلف من القبائل القريبة من العاصمة فاس لمحاصرة المدينة، وخططت لقتل المدني الكلاوي واختطاف السلطان خلال احتفالات عيد الولد النبوي سنة 1329/1911. ولم تفلح محاولات السلطان لإقناع زعماء بني مطير برفع الحصار عن العاصمة، وفشلت كل الوساطات التي استعملها. وأمام فشل رهانه على مساعي الوساطة، أو حتى على دعم بعض القبائل الأخرى مثل الحياينة وبني وراين، اتجه السلطان إلى طلب المساعدة من القوات الفرنسية التي كانت تنتظر هذه الفرصة بعد أن أعدت لها جيدا، بل أنضجت شروط الوصول إليها. إذ عرفت كيف تعد الخطة وتستدرج السلطان إليها كمنقذ لا بديل له عنها بعد أن حاصرته القبائل المحيطة بعاصمته، فهي لم تفاجأ بطلبه بل توقعته واستعدت له سياسيا وعسكريا كما يوضح ذلك جون كلود آلان. غير أن تحرك القوات الفرنسية من القنيطرة إلى فاس لم يمر دون مقاومة القبائل التي عبرت أراضيها هذه القوات أواسط شهر ماي سنة 1911، كما لم يسلم من تداعيات دولية كان أبرزها التحرك الإسباني لاحتلال مدينتي العرائش والقصر الكبير وكذا الرأس الأسود سنة 1911. أما الألمان فكان لهم رأي آخر، إذ سارعوا إلى إرسال بارجة حربية إلى عرض ميناء أكادير مطلع شهر يوليوز من نفس السنة للضغط على فرنسا لتحقيق المزيد من المكتسبات مقابل التنازل لها عن المغرب. وهو ما توج باتفاق نهائي أرضى الطرفين معا، وأزال آخر العقبات الديبلوماسية أمام فرنسا ليتسنى لها بعد ذلك التحرك بشكل أسهل في المغرب. إذ لم يعد لها إلا الاتفاق مع السلطان، بعد أن انفردت به، على صيغة وجودها في المغرب، غير أن هذا الأخير، ومنذ أن أدرك أن التسوية الفرنسية الألمانية ستكون لا محالة على حساب استقلال بلاده، بادر هو شخصيا إلى اقتراح صيغة لتنظيم الوجود الفرنسي في المغرب في شكل مذكرة (تقييد) تحتوي على الشروط التي يرى أن التعاون المغربي الفرنسي يجب أن يستوحيها ويسير عليها وهي مؤرخة بـ7 شوال 1329/ 1 أكتوبر 1911. وقد سلمت للجانب الفرنسي بتاريخ 17 أكتوبر 1911. من هذه الشروط أو المطالب ما هو خصوصي يتعلق بمصالح الأسرة المالكة وأملاك السلطان الخاصة ومستقبله. ومنها ما هو عمومي يهم الشعب المغربي ومصالح الدولة المغربية.

خاتمة:

قد تختلف التقييمات والتقديرات في الإجابة على هذه الأسئلة المتعلقة بمسار سلطان تحمس للجهاد، وانتهى به المطاف إلى توقيع معاهدة الحماية والاستقالة من منصبه. لكن يبقى أن تطور الأحداث في اتجاه استغاثة عبد الحفيظ بالقوات الفرنسية، التي أقدمت على إهانة الجنود المغاربة، دفعت القبائل المجاورة للعاصمة فاس، بعد أن حاصرت “سلطان الأوروبيين” سنة 1911، إلى محاصرة “أوربيي السلطان” سنة 1912 على حد تعبير عبد الله العروي. ويبقى من الصعب أيضا أن نعتبر الاتجاه الهوياتي الذي قاده عبد الحفيظ، باسم كل المعادين للتحديث والحداثة والذي حارب انفتاح أخيه عبد العزيز على الأفكار الغربية وضيق الخناق على المقترحات الإصلاحية والتوجهات الدستورية، هو الذي بذر البذور الأولى للحركة الوطنية المغربية التي نراها امتدادا لجماعة لسان المغرب مشاريع الدساتير التي رغم هامشيتها خلال الفترة العزيزية ومحاصرتها إبّان العهد الحفيظي فإنها خلقت وعيا وطنيا دستوريا سرعان ما تطور خلال فترة الحماية متشبعا بأفكار وقيم وقناعات جديدة مواكبة لمتغيرات المرحلة.

لطالما شكلت البيعة رمزا للنظام السياسي في المغرب المنبثق من الأصول الإسلامية، والقائم على عقد بين الطرفين: السلطان والرعية. وأن اختيار السلطان تقوم به أقلية تتمثل في أهل الحل والعقد ومن ممثلين للفئات التي ترد في البيعة، لكن البيعة الحفيظة اكتست طابعا مهما وتحولا نوعيا في طبيعة العلاقة بين السلطان ورعيته، وجسدت للفكر الدستوري والوعي بضرورة إقرار إصلاحات سياسية في البلد، وكانت تمهيدا لبروز حركة دستورية ستسفر عن إنتاج العديد من المشاريع والمذكرات الإصلاحية الدستورية، وسيكون لها بالغ الأثر على الحياة السياسية المغربية لولا أن الاستعمار أرخى بظلاله على البلد، والسلطان نكث بعهده اتجاه ما التزم به من شروط ومقتضيات تضمنها نص البيعة.

لائحة المراجع:

  • الطيب بياض، قراءة في كتاب علال الخديمي، بعنوان الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، دار أبي رقراق، الرباط، بموقع https://ribatalkoutoub.com/?p=635 تاريخ الاطلاع: 8/12/2019.
  • أكنينح، العربي،آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني مطير، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ تحت إشراف أحمد التوفيق، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1983 – 1984.
  • بياض، الطيب، المخزن والضريبة والاستعمار، ضريبة الترتيب 1880-1915، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء،
  • توفيق، أحمد، تأملات في البيعة الحفيظية، ندوة المغرب من العهد العزيزي إلى سنة 1912، الجامعة الصيفية، المحمدية، يوليوز
  • الحجوي، محمد بن الحسن، انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، تحت رقم ح
  • الحجوي، محمد بن الحسن، دفتر تقاييد تاريخية مخطوط الخزانة العامة، الرباط، رقم ح
  • الخديمي، علال، التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب 1894-1910، حادثة الدار البيضاء واحتلال الشاوية، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية،
  • الخديمي، علال، الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، الوضعية الداخلية وتحديات العلاقات الخارجية 1894-1912، دار أبي رقراق، الرباط
  • ريكور، بول، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى،
  • السباعي، محمد بن إبراهيم، البستان الجامع لكل نوع حسن وفن مستحسن في عد بعض مآثر السلطان مولانا الحسن، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، تحت رقم د
  • عياش، جرمان، أصول حرب الريف، ترجمة محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،
  • فيير، كابرييل، في صحبة السلطان، ترجمة عبد الرحيم حزل، جذور،
  • كليين، بيير، الاقتراضات المغربية، 1902-1904، تعريب المصطفى برنوسي، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى،
  • المشرفي، محمد بن محمد بن مصطفى، الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية وعد بعض مفاخرها الغير المتناهية، دراسة وتحقيق بوهليلة إدريس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط،
  • المنصوري، أحمد، كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر، تحقيق محمد بن الحسن، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى،
  • عبد الله العروي، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية، 1830-1912، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993.

[1] – الطيب بياض، من بيعة البديل إلى حماية المستقيل، قراءة في كتاب الحركة الحفيظية لكاتبه علال الخديمي، منشورة بموقع https://ribatalkoutoub.com/?p=635 يوم 6/أكتوبر/2011، تاريخ الاطلاع: 8/12/2019.

[2] – الصدر الأعظم، بمثابة رئيس الحكومة المغربية في عهد المولى عبد العزيز.

[3] – المرجع نفسه.

[4] – عبد الله العروي، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية، 1830-1912، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993، ص.42.

[5] – الحجوي، محمد بن الحسن، انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، تحت رقم ح 123.

[6] – كليين، بيير، الاقتراضات المغربية، 1902-1904، تعريب المصطفى برنوسي، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى، 2007.

[7] – بيير كيلين، المرجع السابق.

[8] – علال الخديمي، المرجع السابق،ص145-146.

[9] – المرجع السابق، ص 202.

[10] – مقال بعنوان بيعة المولى عبد الحفيظ المشروطة، منشور بموقع مغرس تاريخ الاطلاع: 8/12/2019.

[11] – أكنينح العربي، آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني مطير، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ تحت إشراف أحمد التوفيق، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1983 – 1984.

[12] – بياض الطيب، المرجع السابق.

[13] – انظر نص البيعة الحفيظية.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى