الاحتفال الجامع بالجناب النبوي
يكثر الحديث عن الحب النبوي وشروطه وما المطلوب لتحقيقه خاصة في هذه الأيام المباركات… وكل يكتب من جهته أو زاويته، وتجد الكثير يركز على بعض الجوانب التعبدية أو الفكرية أو العملية التي تعمق التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويغفل الحديث عن الاحتفال الكلي والمحبة الكاملة والاتباع التام برسول الله، فيجزئ النظرة إلى الموضوع ويعطي صورة ناقصة عن الحب الحقيقي لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
ونجد جوانب كثيرة من الشخصية النبوية يتم إغفالها وتجاوزها، مع الأسف، كإغفال الحديث عن روحانيته العالية المرتبطة بالله تعالى الواصلة إلى المقامات العالية من الارتقاء الروحي والسمو القلبي والتعلق بالله الذي لا نهاية له ولا حد فضلا من الله ونعمة… والبعض قد يغرق في هذا وينسى أن الحبيب جاء رحمة للناس ورفع عنهم الإصر والأغلال التي طُوقوا بها من قبل الطامعين الساعين لتعبيد الناس وتركيعهم.
إن الاحتفال المنشود برسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما جمع بين أمور أربعة مندمجة فيما بينها وإلا فهو حب لم يصل إلى الدرجة المطلوبة، وإن كان له أجره ونوره وبركته:
1- محبة واحتباء:
حبه صلى الله وعليه وسلم والشوق اليه وتعظيمه وتعزيره، وأن يكون هو -ذاته الشريفة الطاهرة المنيرة المنورة- أحب إلينا من أهالينا وأحبائنا ومن الماء البارد في الصيف.
أن تستولي روحانية رسول الله على قلب المؤمن فلا يلتفت عن الله، ولا يقصد العبد المحب إلا مولاه من باب رسول الله وعلى طريق أولياء الله تعالى.
ومن محبته: محبة محابه أي ما يحبه الحبيب صلى الله عليه وسلم، بتعظيم أهل بيته وأصحابه الكرام الأنصار والمهاجرين.
من المحبة الكاملة لرسول الله الرغبة في الأعمال التي كان يقوم بها فقد كانت قرة عينه الصلاة ويكثر من الصيام ويحب الصدقة والكرم والعطاء… فيقوم المؤمن العاشق بالأعمال التعبدية محبة وتعلقا وليس خضوعا فقط وقياما بالواجب.
بل إن من محبته محبة الأشياء التي يحبها: وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق جبل يوما: “إن أُحُدا جبل يحبنا ونحبه” رواه مسلم.
ومن براهين المحبة: الإكثار من ذكره بالصلاة عليه كل يوم، والموفق من لا يغيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة من لحظات أنفاسه صلى الله عليه وسلم.
2- عمل واقتداء:
الحب حظ القلب وعمل الجوارح ثمرته.
والاتباع يكون بموافقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بتوجيهاته وإرشاداته فلا نكوص.
العمل بكل سنته المعرفة ب”أل” لا الاكتفاء ببعض سننه.
ولا يفوت المؤمن الطالب مجاورة رسول الله عمل من أعمال الخير التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يواظب على الفرائض – والتي تشمل العبادات والأخلاق والآداب والمعاملات المالية – بكل همة ونشاط، ويجتهد في إتيان النوافل بمحبة وشوق.
يجتهد المؤمن في الطاعات أما ما حرّمه الله ورسوله فينتهي عنه وينزجر قولا وفعلا وباطنا.
3- فهم واهتداء:
السنة النبوية علم ومنهاج ورؤية قبل الحكم على الأشياء بالخطأ والصواب، ولذا المطلوب من المسلم أن يعرف أن فهم السنة النبوية له أصول تضبطه وقواعد تحكمه وإلا فهو التشدد في الدين أو الانحراف عن الفهم السليم لما جاء به سيد المرسلين.
والغريب أن البعض يروج للسنة وكأنها حضارة الخيمة والجِمال وليس حضارة الرقي والجَمال.
السنة النبوية لها مقاصد وغايات وأهداف، وتأخذ صبغة الوقت والزمن وتتلون بألوان العصر وليست جامدة على أشكال محددة. بل متجددة حيوية مرنة.
ومن معاني حب رسول الله أن نتصرف وفق ما يريد وعلى طريقة ما يصبو إليه صلى الله عليه وسلم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلانِ في سفر، وليس معهما ماءٌ، فحضرتِ الصلاةُ فتيمَّما صَعيدًا طيِّبًا، فصلَّيا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدُهما الصلاة والوضوء، ولم يُعِد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعِد: “أصبت السُّنة، وأجزأَتْك صلاتك”، وقال للآخر: “لك الأجرُ مرَّتينِ”. رواه أبو داود والنسائي.
لاحظ كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصواب من السنة بقوله: “أصبت السنة” للصحابي -الذي اجتهد ولم يعد الصلاة واعتبر أنه قد صلى الصلاة المفروضة بتيممه ولم يعد الصلاة كما فعل صاحبه- وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله هذا وجعل فعلَه يوافق السنة.
استكمال العقل وتعلم ما نبني به الفهوم من علم نافع منشئ لعمل صالح وأن يكون لأمتنا القيادة العلمية والريادة الفكرية في كل مجالات الحياة لمن تمام الرضى النبوي. قال صلى الله عليه وسلم: “من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة”. رواه الدارمي عن الحسن رفعه مرسلا.
4- دعوة وافتداء:
لا معنى لمحبٍّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يرحم الصغير ولا يوقر الكبير ولا يعين على نوائب الحق ولا يكسب المعدوم ولا يقري الضيف… محبته ادعاء واقتداؤه كذب.
السنة النبوية رحمة ولطف ودعوة وتعاون على الخير ودلالة على الخير وأهله، وهي شجاعة وقوة واقتحام.
ومتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحاز للظلم والظالم؟ ومتى كان يسكت على الباطل وخدامه؟ واأسفاه على من يركز على بدع صغيرة فحسب، ويقيم الدنيا ولا يقعدها ويتناسى البدع الكبرى وأمها: اغتصاب الحكم وإلجام الناس بالحديد والإكراه… أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختار أن يكون إلى جانب المستضعفين يدفع عنهم. وكانت شريعته دفعا للمترفين المستكبرين٫ كان صلى الله عليه وسلم يقوض دعائم الاستبداد، ويهد أركان الفساد والمفسدين تعاونا مع الصادقين والفضلاء وهو القائل صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَم، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت”. سيرة ابن هشام.
إن المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعشق الحبيب صلى الله عليه وسلم الطاهر المطهر، وينتشر عبير حبه الطيب المطيب في كيانه كله، تطلعا إلى المقام الرباني وعملا متقنا وعبادة خالصة ونصيحة رفيقة لكل مسلم ومسلمة، برحمة وتودد. وتجد الواقف دائما على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سدا منيعا أمام روائح الظلم وسدنته حتى لا ينتشر دخانها فيؤذي الخلق أجمعين، لا يهادن ولا يراوغ في كامل مرونته، ويساهم مع كل إنسان يرجو رحمة الله وأن تسود الإنسانية العالم.
المصطفى حمور