الخامس غفير..حدث و حديث عن سؤال الجدوى من الانتخابات بالمغرب
حالة غريبة و عجيبة حدثت لي خلال الأيام الماضية القربية، كلما مررت بمقرهم سلّمت على بعضهم، ممن أعرف و من لا أعرف، و لا أخفيكم سرّا أنني كلما سلّمت على أحدهم إلا و ينتابني شعور مختلف .
علّمنا الحبيب المصطفى ادابا و أخلاقا ينبغي أن نتحلّى بها مع من نعرف و من لا نعرف ، فعن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف” ، بل أكثر من ذلك دلّنا الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة و التسليم على أبواب عدة للخير من بينها : إفشاء السلام ، و الإبتسامة ،…..
المهم أنني كنت كلما خطوت خطوة إلى المسجد ، كنت أبادلهم التحية ، لكن ما كان يثيرني هو ذلك الجمع الغفير من الرجال و الشباب في أوقات محددة من اليوم ، و كأني بهم يختارون زمن خروج و عودة الناس أو المارة الى بيوتهم أو لقضاء ماربهم .
وقبل أن تسترسلوا في التساؤل ، ما الذي يريد قوله ؟ أقول لكم إن من حق أي إنسان أن يختار الاختيار الذي يريده ، و من حق الإنسان أن يكون مرفوع الهامة ، و يمشي منتصب القامة و هو يعبّر عن مواقفه ، و يسير بمنتهى الثقة و يتحدث بصوت الواثق في برنامجه و يدافع عن مبادئه و قيمه .
نعم ، أحسب نفسي أيضا من هذه الطينة ، بل أكثر من ذلك فأنا في النهاية رجل من هذه الأمة ، و أعتز بمغربيتي و أفتخر بقيمي ، بل تشّربت بصحبة الخلاّن معـاني العزة ، و استقرت في أذناي منذ عرفت الحقيقة ، قــيـم من قبيل ” العزة ” ، و ” الكـرامـة” و ” العــدالـــة “، و” الأخلاق “، لكني مع كل موسم من المواسم الرسمية لا أفهم نفسي ، و لا أعي جيّدا لماذا تنفر نفسي من هذه العبارات كلما وصلت إلى مسامعي بصوت عال ، و بموسيقى صاخبة ، و بهرجة و رقص ، أبتعد عنها كلما تم الترويج لها بالطبول و ” الغياطة” و ” العياشة ” و ” البلطجة “…..
لقد قادتني معرفتي ببعض الأحزاب و دكاكينها الموسمية ، و ببعض المنتسبين إليها من تجار الانتخابات ، و الذين يتحدثون عن الديمقراطية و حقوق الانسان ، أنهم مجرد ببغاوات يرددون عبارات رنانة ، و مصطلحات طنانة ، يتخلون عنها عند انتهاء الحملة الانتخابية ، وينسونها بمجرد تلقّيهم تقطيبة حاجب ، و نظرة ناظر من المخزن العجيب و الغريب، بل يسيل لعاب بعضهم لامتياز بسيط ووعد كاذب ، كسيلان صاحب “بافلوف” لمثيره الخارجي .
تستطيع أن تجلس في وسط جوقة من بعض رجال الانتخابات دون أن تعبّر عن انتمائك ، و من دون أن تعبّر عن أفكارك حتى تكتشف الحالة المعروفة عند البادي و العادي ، أن سبب اجتماع هؤلاء ليس على برنامج حقيقي، و لا على خدمة الوطن و أبنائه ، بل تصل مباشرة الى أن الهمّ الحقيقي و المشترك عندهم هو المصلحة الشخصية ، و المئة و المائتي درهم هي الهدف ، و المنصب المالي هو الغاية و المبتغى…
إننا في وجود هذا الجو ، لا نبدّل من قناعاتنا ، و لا ينبغي أن نضع مقص الرقابة على عباراتنا ، و لا يصح أن نرتدي ثياب الممثل البارع ، كما لا يحق لنا أن نلعب دور الفنان المخادع ، و لا نتقمص دور المجامل الفارغ ، بل الواجب هو أن نسمي الأسماء بمسمياتها و نقول للباطل باطل ، و للانتخابات المغربية مسرحية و كفى.
و بالعودة إلى الحدث ، مرت الأيام و أنا على حالي مع أصحاب المقر من جيراني ، أسلم عليهم ، أبادلهم التحية ، و هم كذلك يبادرون في كثير من الأحيان ، بل ذهب بعضهم إلى المبالغة في مجاملتي ، و أقدر لهم صنيعهم ، و أحترم فيهم أدبهم معي .
و أنا على نفس العادة ، فإذا بأحدهم يناديني بصوت عال ، أستاذ ، أستاذ ..التفت اليهم مبتسما و مرحبا .
– تعال اجلس معنا قليلا .
– تدخل الاخر : نعم اجلس معنا مرحبا بك.
شكرا جزيلا ، معذرة أنا مشغول الآن .
– أحدهم: نعم، هذا الأستاذ يسلم علينا، و يمر علينا مرور الكرام .
ابستمت مجاملا ، اسمحوا لي أنا مشغول و لي التزامات كثيرة .
– لا،لا اجلس معنا و خذ لك كأس شاي ، إننا نحترمك و نقدرك.
قلت : بارك الله فيكم و لكن لنتركها لوقت اخر .
لا أخفيكم سرّا و جدت نفسي في منطقة مريبة ، و في ساحة ملتبسة ، التي من الصعب تحديد من سيكون اللاعب الماهر فيها ، و لا من سيكون القادر على مداراة من فيها و ما تحمله من مفاجأة ، الرابح هنا هو الذي يجيد حسن التخلص كما يحكي أصحاب “التواصل الفعّال”.
الجرئ منهم ، توجه إلي بسؤال كنت أنتظره ، و هذا هو الواقع لأننا في فترة معينة ، و في زمن محدد ، و أمام فضاء معلوم ، قال لي :
– من أي حزب أنت؟
– و قال صديقه الذي يرافقه في عملية “الاستقطاب السياسي ” ، على من ستصوت ؟.
– قلت و أنا اتمتم ، و مستغربا ، لندع هذا النقاش للقادم من الأيام .
بدأت الثقة تظهر على محيّا بعضهم بل الكثير منهم، و قال لي زعيمهم، نحن من حزب (….)، لنا و لنا، و سنقوم ب(….).
تبسمت ، وقلت معذرة عليّ أن أذهب حالا و على وجه السرعة.
طبعا هذا لكي أقدم واجب العزاء لأحد الأصدقاء الذين كنا نعرفهم منذ صغرنا بصلاحهم و أدبهم و أخلاقهم و نبلهم ، في وفاة زوجته الصالحة الداعية و المحتسبة رحمها الله و غفر لنا و لها يوم القيامة .
و في لحظة ، اعتقدت أن النقاش قد انتهى ، بادرني الرجل الأول ، هل أنت من حزب كذا و كذا ؟
قلت : مختصرا الجواب ، لا ، ثم لا داعي للتوضيح .
و قال لي منتشيا، المهم صوت على حزبنا، فهو الأقدر على تطبيق برنامجه وخدمة ناخبيه.
هذه العبارة كانت كافية ، لأنجر إلى نقاش كنت أرغب في تجاوزه ، نظرا للظرف و المكان ، و حتى لا أشوش عليهم ، بالرغم من أنني كررت على مسامعهم لندع النقاش إلى ما بعد الانتخابات ….
فالحاصل، دخلت معهم في حديث مقتضب جدا و قلت متسائلا:
استحلفكم بالله ، هل بإمكان أي حزب في المغرب أن يطبق برنامجه السياسي ؟
– قالوا ، لا يمكن.
قلت : هكذا إذن سنكون قد خذلنا من و ضع ثقته فينا.
قلت : هل بإمكان أي حزب سياسي أن يشكل حكومة بمفرده و بالإعتماد على إمكاناته الذاتية ، و على ” كوادره” الحزبية ؟
– قالوا ، هذا مستحيل .
قلت : إذن لا يمكن لأي حزب بمغربنا العجيب أن يفوز بالأغلبية التي تخول له تشكيل الحكومة .
– قالوا أجل هذا صحيح .
قلت: إذن،لا يمكن الحديث بالبث و المطلق عن التعاقد مع الشعب ، و لهذا فالفعل السياسي لا يقتصر على المشاركة الإنتخابية فقط.
– قالوا: نعم و باستغراب تام.
قلت: لا بد إذن من التمييز بين المشاركة الانتخابية و المشاركة السياسية.
– قالوا: و كيف ذلك؟ مزيدا من الوضوح.
قلت : قد تكون مشاركا انتخابيا و لست مشاركا سياسيا ، لأنك في النهاية ستبطق برنامجا ليس ببرنامجك ، هذا إذا سلّمنا أنك شكلّت الحكومة و عزمت العزم على العمل و الفعل و الإصلاح من داخل المؤسسات ، و لكن في المقابل قد تكون مشاركا سياسيا ( و الأمثلة كثيرة و شاهدة على ذلك ) و لست مشاركا انتخابيا و لا من داخل المؤسسات .
في هذه اللحظة التي اشتدّ فيها النقاش، وجدت نفسي أتحدث إلي جموع غفيرة من داخل حزبهم و أمام عدد كبير من أعضائهم.
توقفت عن الحديث و تركت لهم حق الرد، و لم أحتكر الكلام في القضايا السياسية، و مصير بعض الأحزاب السياسية، بل جعلت النقاش مرنا ، فيه أخذ و عطاء ، و قبول و رفض و رد ، لأنه يبقى في النهاية رأي و تقدير أعتقد على أنه هو الأنسب و الأصلح في ظل غياب المراقبة النزيهة لعملية الانتخابات ، و في ظل تحكم الأجهزة المخزنية في دواليبها و مسارها الديمقراطي، و لعله هذا أمام هذا المشهد من العبث بأموال و عقول المغاربة بات الحل الأمثل هو المقاطعة لكل أطوار العملية درءا للمفاسد الجمة التي تهدد البلاد .
إننا عندما ندعوا إلى مقاطعة الانتخابات ، فقط لأننا نعتقد جازمين بأنها لن تكون نزيهة و لن تخدم مصالح الشعب المغلوب على أمره طالما أنها ليست بيده ، بل بيد غيره من أزلام نظام لا يعرف للديمقراطية طريقا، بل نظام يعيد تشكيل نفسه و يكرر ذاته ، إما بنفس الآليات أو بوسائل مختلفة تتماشى و عصره .
إن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات هي دعوة للقطع مع الفساد و الاستبداد و الالتفاف على مطالب الشعب المغربي ، و دعوة إلى الحسم مع مؤسسات معيّنة و غير منتخبة تمارس سلطتها و هيمنتها على مؤسسات منتخبة ، و هذا يعنى أننا لسنا ضد مقاطعة الأحزاب و لن نكون في يوم من الأيام ضد العمل الحزبي الذي يتمتع بكافة الحقوق و الحريات ، ولن نختلف مع الممارسة الحزبية النبيلة التي تفكر في مصير البلاد و العباد و تسعى إلى توسيع هامش الحرية و تؤمن بحق التداول الديمقراطي على ممارسة السلطة الفعلية في التدبير و التسيير و الاقتراح و التأطير ….
هكذا إذن، أجمعوا في النهاية على أن الحقيقة لا يمتكلها أحد ، و أنها ليست مطلقة ، و الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، و الواقع واضح و جلي و لا يرتفع .
و أن الحقيقة التي بثنا نؤمن بها جميعا هي أن المتحكم في مصير البلاد و العباد معروف ، و من المعلوم بالضرورة في مجال السياسة المغربية أن المهندس الفعلي لمشهدنا السياسي عموما ، و لمشهدنا الانتخابي على وجه الخصوص ليس بشبح و لا تمساح ، و ليس بجن أو عفريت ، بل إنه منا و من بني جلدتنا .
فقبل أن أغادرهم لكي أتوجه إلى سبيلي صاح أحدهم و بصوت مرتفع ، نعم إني اعرف هذا الأستاذ جيّدا ……
ابتسمت في وجوههم و غادرت المكان على امل انتظار القادم من الأيام بعد الانتخابات الهزلية .
بقلم: الخـامس غـفـير