مقالات

النعيمي..الزرقطــــوني أيقونة الفداء بالبيضاء

        “منذ السابع من غشت 1907 لم تعد الدار البيضاء مسكونة إلا بالموتى”  بهاته العبارة وصف القبطان الفرنسي “غراسيي” في كتابه”اختراق الشاوية”  إحتلال الدار البيضاء ،حيث كان مشاركا في إنزال القوات الاستعمارية الفرنسية بميناء آنفا بعد القصف العنيف للبوارج الحربية للمدينة وأهلها المسالمين طيلة خمسة أيام بلياليها دون انقطاع ناشرة بذلك الخراب والموت في كل مكان.

        كان هذا المشهد الأول الذي ستعيش الدار البيضاء فصولا دامية منه طيلة الوجود الاستعماري الفرنسي بالمدينة والذي أعاد مشهد التدمير فيه إلى أذهان البيضاويين ذكريات مماثلة تعود لمنتصف القرن الخامس عشر وبالضبط في العام 1468،حينما   قصف البرتغاليون  مدينة”آنفا” ولم يسلم من قصفهم إلا دور قليلة كان أهمهما “كازابرانكا” أي الدار البيضاء بتعبيرهم ،والتي سماها البرتغاليون بهذا الاسم لما عادوا للمنطقة في العام 1515 واستغربوا لنجاة هاته البناية من التخريب،وهكذا  سيغلب  هذا اللقب على  آنفا نفسها والتي ظلت على حالها إلى عهد السلطان سيدي محمد بن عبدالله حينما أعاد لها الحياة واهتم بمينائها وتجارتها خلال القرن الثامن عشر.

       وقد كتب الصحفي الفرنسي المرافق للجنرال”داماد” الذي أمر بقنبلة المدينة أن”التدخل الفرنسي في المدينة كان سببه صيحة صفارة”وذلك في إشارة إلى السكة الحديدية التي شرع في استعمالها الفرنسيون منذ آذار/مايو من نفس السنة الحزينة.بل وذهب ساخرا حينما قال أيضا”إن هذا الشبح الحديدي يمكن أن يمتد إلى بلادهم ويزرع في دواويرهم دخانه الشرير.”

  كان الشبح الحقيقي هي البارجة الحربية”غاليلي” تلك التي أرسلت وابلا من القنابل انهارت معها الأسوار وتطايرت الخيول في السماء في درب السلطان كما أخبرنا بذلك الصحفيون المرافقون للحملة العسكرية.وذلك ردا بزعمها على مقتل العمال التسعة في المرسى البيضاوي.إنه الانتقام السريع الذي أراده الفرنسيون ليكون على هذا الشكل المأساوي حتى أن الملاحظ الإنجليزي هويل وصف في كتابه”مغامراتي ” ذلك المشهد الحزين:

-” من ثلاثين ألفا من السكان ،لم يتبقى إلا حوالي مائتين أحياء،ألاف ..من يهود ومغاربة مزقوا إربا بواسطة قنابل الملينيت “.

 وهكذا سقطت البيضاء في يد الفرنسيين لتنطلق بعدها مقاومة قبائل الشاوية التي هبت لنجدة المدينة طيلة ستة أشهر قادمة من المواجهة مع الجنرال” درود”  والقوات الاستعمارية المرابطة،تلك المقاومة التي لم تخمد نيرانها إلا بعد أن استنفذت كل أساليبها القتالية نتيجة سياسة الأرض المحروقة التي نهجها جنرالات الحرب الفرنسيون.. وقد أعقب الزحف الفرنسي تخطيطا مسبقا من طرف المقيم العام الفرنسي”المارشال ليوطي” لما عين في منصبه بعد توقيع عقد الحماية فسارع إلى جعل البيضاء:

-“مدينة الحداثة الأوربية”.

      هذا الاختيار الذي وضع المدينة تحت المراقبة الفرنسية الشديدة أحبط كل مقاومة وجعل منها أهم مستقطب للجالية الأوربية التي جذبها الاستثمار، وقوة رأس المال، حيث تشكلت طبقة ارستقراطية تتخذ نمط عيش مترف شبيه بمدن أمريكا..أما هوامش المدينة فأضحت  مجالا لعيش الفلاحين المغاربة المطرودين من أرضهم،وسكنا للعمال الذي دفعتهم قساوة الحياة لاتخاذ البراريك سكنا لهم.

     في ها الظروف ولد جيل من البيضاويين وهو يسمع حكايات الرعب للعام 1907،تلك الحكايات التي ستتحول تدريجيا إلى تبلور وعي وطني ملؤه الشجاعة والإقدام،ولعل أهمهم كان:

-“محمد الزرقطوني”.

      فتى جميل المحيا،متقد الذكاء،ولد لأسرة عالمة فأبوه كان مقدما للزاوية الحمدوشية، وأمه كانت من أصول فاسية شربت النخوة والعلم كابرا عن كابر،وقد رأى محمد النور في العام 1927،حيث تابع دراسته في المسيد ثم المدرسة العبدلاوية التي أسستها الحركة الوطنية وساهمت بقدر كبير في تبلور الوعي القومي لدى شباب المدينة المناضلة.

   نشأ الشاب الزرقطوني في جو اتسم بمظاهر التهميش التي يعيشها مغاربة الدارالبيضاء مقابل حياة البذخ التي يسلكها الأوربيون،فدفعه هذا الأمر إلى التخلي عن المدرسة وامتهن التجارة وهو في سن السادسة عشر،غير أنه أتم دراسته بعصامية كبيرة،بل وتعلم الفرنسية”لغة العدو” حتى يتسنى له معرفة ما يجول من أحداث تهم ما يود أن يقدم عليه من أحداث جسام.

    ولعل أولى بوادر تحركات الفتى الشجاع هي انخراطه المبكر في خلايا حزب الاستقلال وتكليفه بتوزيع المنشورات التي تظهر عدالة القضية الوطنية مستغلا رياحا جادت بها ظروف حدث مؤثر ألا وهو “اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام 1939“.تلك الحرب التي هزمت في بدايتها فرنسا الاستعمارية شر هزيمة من طرف ألمانيا النازية، بل وفقدت فيها فرنسا استقلالها وشرفها.

      وهكذا أدرك الزرقطوني ورفاقه أن فرنسا لن تتخلى عن استعمار المغرب بالطرق السلمية،وذلك رغم التضحيات الجسام التي بذلها المغاربة في سبيل تخليصها من ويل النازية حتى تحقيقها النصر الأكبر،بل إنها سارعت إلى التضييق عن الملك محمد بن يوسف وبالخصوص لما أعلن عن زيارته إلى مدينة طنجة في التاسع من أبريل من العام 1947،تلك الزيارة التي حملت معاني غاية في الخطورة كما استشعرتها الإقامة العامة وبالخصوص أنها برمجت عبر القطار،وكأن السلطان يود من خلالها أن يقول:

-“أن طنجة المنطقة الدولية وقبلها المنطقة الخليفية كلها أرض واحدة حكمها ومنذ القدم أجدادي.لذا فلست أعترف لكم بتقسيم بلادي”

   فما كان من السلطات الاستعمارية إلا أن دبرت” ضربة ساليغان” قبل يومين من سفر السلطان،وهي الضربة الموجعة الثانية التي تلقتها الدارالبيضاء بعد ضربة 1907،بل إن هاته الأخيرة كانت بالوحشية التي جعلت من جنود اللفيف الأجنبي الأفريقي  يفرغون رصاصهم الحي  على كل شيء حي يتحرك أمامهم،وهكذا سقط الآلاف من البيضاويين في جريمة مروعة حركت الرأي العام الوطني  بين خائف ومستنكر. أما الزرقطوني ورفاقه الشباب المثقف الواعي فقد أدركوا مما لا يترك لهم بابا للشك أن:

 –”العمل المسلح أضحى الخيار الوحيد لتحرير البلاد”.

      وهو في سن السابعة والعشرين حمل الزرقطوني في مخيلته فكرة”حرية المغرب واستقلاله” تلك الفكرة التي يقول عنها أحد رفاقه وأحد المؤسسين الأوائل  لعمليات الفداء”الحسين برادة”:

-“لقد ملأت عليه تفكيره وحياته،وطوقت عنقه في كل حركاته وسكناته..وكان على قناعة تامة أن القضاء على المستعمر يستوجب القضاء على المتعاونين معه من المغاربة، إيمانا منه بوجوب تطهير البلاد من الخونة”.

      لم يكتفي الفتى الزرقطوني بالأفكار،بل عمل على نقلها إلى أرض الميدان،جاعلا من البيضاء أرض للفداء،بل إنه كان المنسق والعقل المدبر لكل العمليات الفدائية التي ستشهدها  المدينة مطلع الخمسينيات لما اختار المقيم العام “كيوم” القيام بمؤامرة 20 غشت ونفي السلطان الشرعي إلى مجاهل إفريقيا.

    وقد دبرت السلطات الاستعمارية مكيدتها تلك بعدما اختارت مناسبة دينية ذات قدسية بالغة لدى المغاربة،وهكذا عزلت ابن يوسف في يوم عيد الأضحى مخلفة بذلك جوا من الحزن والأسى في صفوف أبناء الوطن المحتل،تلك المشاعر التي تحولت إلى سخط عارم وغضب ساطع لدى الزرقطوني وأقرانه من الشباب.

 وانطلقت أولى الشرارات الفدائية لما قام البطل علال بن عبدالله  بعد ثلاث أسابيع  على المؤامرة الدنيئة بمحاولة اغتيال صنيعة الاستعمار”السلطان ابن عرفة” في مشهد بطولي نادر لكنه ستكرر إلى حين إعلان عودة الملك وأسرته من منفاهم بمدغشقر.أما محمد الزرقطوني ورفاقه أعضاء خلايا المقاومة فقد اجتمعوا بينهم بعد استشهاد علال وأقسموا على الثأر لكن بطرق ستكون موجعة للفرنسيين.

 في تلك الأجواء المشحونة اجتمع رفاق الفداء:

-محمد الزرقطوني.

-محمد منصور.

-الفقيه البصري.

-سعيد بونعيلات.

-حسن صفي الدين”الأعرج”

وقد كان هؤلاء هم أعضاء القيادة ومنسقو عمليات نوعية ستخلق ذعرا وهلعا في نفوس المعمرين والخونة المتعاونين،ولعل الحديث عن بعض من العمليات  التي نفذتها الخلية البيضاوية ستظهر بالملموس مدى الشجاعة ونكران الذات التي اتصف بها الزرقطوني ورفاقه المناضلين:

– عملية قطار الدارالبيضاء-الجزائر: وهي الضربة القاصمة التي نفذت بنجاح باهر بفضل متفجرات أعضاء الخلية الفدائية التي صنعت بوسائلهم الخاصة،حدث ذلك في السابع من تشرين الثاني/ نونبر من العام 1953،ونفذها كل من الفدائي محمد منصور ومحمد السكوري  بوضع قنبلتين على القطار المتوجه نحو الجزائر حيث انفجر بعد خروجه مباشرة بعد خروجه من محطة الرباط.

وقد هزت هاته العملية النوعية- والتي كانت ردا مباشرا على حادث نفي السلطان ابن يوسف- الوجود الفرنسي بالمغرب وهددت استقراره بعدما خلفت اثنا عشر قتيلا وعشرات الجرحى من الفرنسيين وتدمير تام لعربات القطار.

 – تفجير مارشي سنطرال:وهي العملية الأخيرة التي هندسها القائد محمد الزرقطوني والأشد إيلاما للمعمر والأكثر رمزية للحركة الوطنية،وذلك بعدما تقرر الرد على خلع محمد الخامس يوم عيد المسلمين بأن يتكبد الفرنسيون فاجعة مشابهة أيام احتفالات عيد الميلاد لدى المسيحيين.

 “ضربة بضربة والبادئ أظلم” كان هذا شعر رفيقنا الزرقطوني وأصدقاءه المجاهدين حينما قرروا ذات ليلة اصبغت بروح الانتقام،بأن توضع ثلاثة قنابل بكل من البريد المركزي والطرود البريدية والسوق المركزي،هذا الأخير الذي سيعيش يوم الرابع عشر من شهركانون الأول/ديسمبر من العام 1953 تفجيرا مروعا زلزل الفرنسيين وحول عيدهم إلى بكاء ونحيب على موتاهم..الذين أودت بهم قنبلة مارشي سونطرال.

     جن جنون الإدارة الاستعمارية،وكثفت بحثها وتحرياتها حتى تمكنت من القاء القبض على خمسة من أعضاء خلية “اليد السوداء” والتي كان  محمد الزرقطوني المشرف عليها،وهكذا توصلت المخابرات الفرنسية أن هذا الفتى المراوغ والشديد الذكاء والحذر هو المسئول عن كل ما يقع،وأن الايقاع به بات مطلبا لاغنى عنه.

     في فاس تقرر مصير محمد  الزرقطوني بعدما ألقي القبض هناك على أحد أصدقاءه وهو”البشير شجاع الدين” فتقرر اعتقاله وتم خلالها أيضا تشديد الخناق على الزرقطوني بعدما ذكر اسمه في إحدى جلسات الاستنطاق والتعذيب،هذا الذي كان يغير مسكنه باستمرار،بل وكان يغير حتى اسمه باستمرار،أما لقبه لدى أعضاء الحركة الوطنية فكان “عمـــر” وذلك تمويها للمخبرين الذين انتشروا كالطفيلات في كل أرجاء البيضاء والمغرب المستعمر.

 -النهاية: اقبال على الموت بشجاعة نادرة.

 كثيرا ما كان الزرقطوني يردد أمام رفاق السلاح :”أعدكم أنه في حالة إلقاء القبض علي فسيلقون القبض على جثة هامدة” .

 وكذاك كان..فبعد أن تورط سعيد في عملية خيانة وشت بالزرقطوني ،فقد كان سعيد هذا  صهرا للمقاوم البشير،وراغبا في خروج زوج ابنته من المعتقل،لذا سارع إلى إخبار  أعضاء البوليس السري الفرنسي بمكان تواجد الزرقطوني،هذا الذي جعل المخابرات تسبق البطل الفدائي إلى منزله وتترصده إلى حين المداهمة وإلقاء القبض على هذا العقل المدبر الذي روع سلطات الحماية وقض مضجعها.

 في  الثامن عشر منتشرين الثاني/ نونبر من العام 1954 سمع محمد الزرقطوني طرقا عنيفا في الباب،فأدرك أنها النهاية،وقد كان يتوقع القبض عليه منذ عملية السوق المركزي لذا كان مستعدا لأية  مفاجأة وهو يعلم يقينا أن القبض عليه حيا قد يجعله يعترف مكرها بأسماء خليته الفدائية،هذا طبعا تحت التعذيب الشديد الذي كانت المخابرات الفرنسية تكيله لكل مشتبه به في أيام الخمسينات الحالكة.

     وقد كان البطل الزرقطوني على دراية تامة بهذا الأمر،هذا الذي جعله متسلحا دائما بحبة من سم السيانيد القاتل حتى  يأخذ منه العدو –حالما يتمكن منه- جسدا لا روح فيه..ومعه تطمر أسرار في غاية الأهمية لو عثرت عليها مخابرات العدو أو وجدت هذا الأسد  الهصور حيا يرزق.

     يروي المقاوم حسين برادة ذكرى استشهاد الزرقطوني قائلا:”…وبمجرد ما طرقت الشرطة باب المنزل،هرعت زوجته السيدة أمينة إلى كوة الباب،لترى فرقة من رجال الشرطة.فما كان من الأخ الزرقطوني إلا أن أخذ قرص السم- المغلفة بالقطن والتي كنا نحملها جميعا للأسباب المعروفة- وابتلعه ليواجه مصيره رافعا يديه استجابة لأوامر الشرطة التي صوبت فوهات مسدساتها نحوه واقتادته مكبلا إلى مركز الشرطة بالمعاريف،وفي ظنها أنها غنمت غنيمة لا تقدر بثمن،وإنها بذلك ستقضي بالمرة على جميع أفراد الحركة الفدائية…”

     يكمل الحاج الحسين بتأثر بالغ ومترحما على رفيق السلاح :”..بينما كان الأخ محمد الزرقطوني مطمئن البال ثابت الخطوات لأنه الوحيد الذي كان يعلم ما فعل،وكان يردد لرجال الشرطة أنه بمجرد ما يصل إلى المركز حتى ينتهي كل شيء،إلى أن سقط رحمه الله جثة هامدة.حاولوا تداركه وهم لا يفهمون شيئا مما حصل أمامهم.. لقد قضي الأمر والتحقت روحه الطاهرة ببارئها راضية مرضية،مات جسده لكن روحه بقيت ترفرف حية تعيش معنا،نستلهم منها أسباب الصمود في درب الكفاح.”

*أية شجاعة كنت تقابل بها الموت يا محمد؟

*وأية أسرار احتفظت بها لنفسك ونجيت بها رفاقك من اعتقال وشيك؟

       سيكمل رفاق الزرقطوني الكفاح المسلح،مستحضرين في كل لحظة وحين ذكرى رفيقهم ومستلهمين من خططه سبل النجاح،ذلك النجاح الذي بدا في تنفيذ عمليات نوعية توجع أعداءه وأعداء الوطن،ولعل الضربة القادمة ستهدى لروح الفقيد،وتحمل تذكارا لعظمة محمد الشهيد..كانت تلك عملية خطط لها الزرقطوني بنفسه ولم يتسنى له تنفيذها ألا وهي:

-تصفية الدكتور إيرو:  وقد كان هذا البوق الرئيسي للإقامة العامة،وأحد أخطر عناصر التواجد الاستعماري،حيث يسلط قلمه المحرض باعتباره رئيسا لتحرير الصحيفة الاستعمارية “لافيجي ماروكان” ولطالما نفث سمومه مخبرا عن خلايا المقاومة ومحرضا على تصفية أعضاءها بشتى الطرق الممكنة،لذا أوكلت القيادة للرفاق إدريس الحريزي    و ابراهيم فردوس عملية التخلص من إيرو هذا.

 وأثناء توجه إيرو إلى مكتبه تعقبه الفدائي إدريس فأفرغ في جمجمته سبعة رصاصات من مسدس أوتوماتيكي أردته قتيلا على الفور، وإن كان الحريزي سيفقد هو كذلك حياته بعدما ألقي عليه القبض من طرف البوليس الفرنسي  ونفذ في حقه  الإعدام بعد عرضه أمام المحكمة العسكرية ،أما رفيقه ابراهيم فقد لاذى بالفرار متسللا بسرعة من مسرح العملية التي هزت الإدارة الاستعمارية وأرعبت أبواقها.

  ولنترك ل”كبور” الجندي المغربي المرافق لفرقة القبض على الفدائي محمد الزرقطوني الفرصة لكي يدلي بشهادته،ومعها سنضطلع على معاينته لعملية الاعتقال،وما رفقها من سجال،بل وما نطق به الشهيد من أقوال..

 يخبرنا كبور أن الزرقطوني أضحى المطلوب رقم واحد لسلطات الحماية،وأن البحث عنه ظل جاريا منذ تفجير مارشي – سونترال العنيف،وأنه حالما تمت مداهمة منزله حتى هب دون مقاومة وهو يدرك في قرارات نفسه أن اعتقاله لن يكون هينا،فنفذ فعلته دون أن تدري به الفرقة شيئا.

      يكمل كبور حديثه بمرارة،كبور ذاك  الشرطي المغربي الذي شهد لحظة اعتقال كبير الشهداء، وما شهد حلاوة المقاومة والفداء،بعدما رمته نفسه المتقاعسة في أحضان أسياده الفرنسيين،ولما غادر هؤلاء غير مأسوف عليهم،ظل كبور يتجرع مرارة ما اقترفته يداه،بدا ذلك في نبرة كلامه وهو يستحضر آخر أقوال الشهيد محمد الزرقطوني للبوليس السري الفرنسي:

-“مثلما أخرجتم النازية وهتلر من فرنسا،سنخرجكم من أرض المغرب،ومحمد بن يوسف سيعود إلى أرض الوطن،والمغاربة طال الزمن أو  قصر سينالون استقلالهم.”

    إنه التاريخ  الذي ظل  يحكي لنا القصص المريرة  عن المقاومين المغاربة الذي عانوا الأمرين من الخونة والمتعاونين مع الاستعمار على حساب أبناء الوطن،هذا ما حصل مع أسد تادلة”أحمد الحنصالي”  ومناضلنا الشهيد الزرقطوني فكلاهما راحا ضحية للخيانة، بعدما وشت بهما الأعين عند جلاديهم الفرنسيين..

      وحدهم رفاق السلاح من ترك فيهم رحيل الزرقطوني غصة حية، وشكل فقده مرارة لدى كل الفدائيين المغاربة،ولعلنا نستحضر بعضا من شهاداتهم في حق رفيق الكفاح،ومن كان العمل بجانبه مبعثا للفخر والحماس،كان جيلا لا يكرر الزمن مثله.

-سعيد بونعلات:

“إن الشهيد الزرقطوني كان رجلا شجاعا بكل ما تحمله الكلمة  من معنى،وكنت شاهدا على شجاعته…زيادة على الدور الذي كان يقوم به كأحد قادة المقاومة المسلحة،فقد كان شديد التواضع.وقد قال لي غير ما مرة “إننا نحن المقاومون لا يجب أن نعرف عندما نحصل على الاستقلال،وأن نبتعد عن الأضواء،وكانت لديه قناعة بأن ما يقوم به يدخل في نطاق الواجب الوطني.”

-“إن الزرقطوني يشكل إحدى الركائز الأساسية التي يتوقف عليها تنظيمنا ،كان بطلا جسورا مثله مثل محمد منصور والذي لاقى من التعذيب مالا يستطيع بشر تحمله عندما ألقي عليه القبض،وكان الاثنان من طينة نادرة في حركة الفداء”.

-الحسين برادة:

-“هكذا كانت معرفتي بهذه الشخصية الوطنية وهذا المجاهد الفذ الذي يجسد أروع صورة لجيله حيث الصدق والوفاء والشجاعة والإقدام،لقد كان رحمه الله شابا وسيما رضيا متحفزا،وكان العمل الصعب هو خياره،عرفته وهو في السابعة والعشرون من عمره،وكله أمل وتطلع لحرية المغرب واستقلاله.”

-“..وكان سعيه حثيثا على إنشاء الخلايا والتنظيمات السرية…بفضل ما اضطلع عليه من مهام في مجال التنسيق بين جماعات فاس…ومراكش و…البيضاء.وبهذه الشجاعة النادرة تمكنت المنظمة من إزعاج الكيان الاستعماري وهز أركانه ..وفسحت المجال لتأسيس”جيش التحرير الوطني” وهي المرحلة التي كانت هدفا وحلما راود أخانا الشهيد وكان يخطط لها ويدبر إلى أن نال الشهادة ذات جمعة مباركة..فرحم الله الشهيد محمد وأدخله فسيح جناته.”

        بعد سنتين على عودة محمد الخامس وإعلان استقلال المغرب سيلقى الملك خطابا مؤثرا أمام قبر الزرقطوني هناك بمقبرة الشهداء حيث ووري جثمانه أخيرا،ومما جاء في كلمات ابن يوسف والتي تعكس المحبة الخاصة لهذا الشهيد الشجاع لدى المغاربة ملكا وشعبا:

-“أيها البطل الشهيد،شاء الله عز وجل أن نقف على قبرك،لا لنبكي شبابك الغالي،فإن أمثالك لا تقام ذكراهم بالبكاء،ولا لنجدد التعزية لأهلك،فإن فقدانك أعظم شرف أصبحت تعتز به أسرتك”.

    إنها شهادات مرصعة من جواهر تلك التي خلدت روح الشهيد الزرقطوني،هذا الرمز الخالد  الذي لا تكاد مدينة في المغرب إلا وتجد اسمه قد أطلق على شوارعها أو مدارسها أو مآثرها العمرانية عرفانا لروح أبية آثرت الذود عن حمى الوطن والدين.

 ولعل خير مثال على حضور أيقونة الفداء في ذاكرة المغاربة ما أخبرنا به الصحفي “لحسن لعسيبي” الذي ألف كتابا أسماه”حول سيرة الشهيد الزرقطوني” والذي صدر عن دار سوشبريس للتوزيع حيث يقول:

-“في 18 حزيران/ يونيو  من سنة 2000 ،وفي عز الصيف طرحت  سوشبريس خمسة آلاف نسخة من الكتاب بيعت عن آخرها-علما أن هذا العدد ضخم جدا بالنسبة للسوق المغربية- فطبعنا طبعة ثانية في أيلول/ سيبتمبربعدد ثلاثة آلاف نسخة نفذت هي كذلك،بل وترجم الكتاب إلى الإنجليزية من طرف جامعة مونتانا الأمريكية”

 فلا يعكس هذا إلا شيئا واحدا: “أن المغاربة يعشقون رموزهم،ويحبون الغوص في ذكراهم.”

أما أنت يا كبور- وأمثالك كثير- ممن اخترتم العيش بمذلة، وخدمة المعمرين السفلة، فلسان حال المغاربة فيكم ظل يتساءل على الدوام:

– ليتك يا كبور كنت في صف أبطال الفداء.

– ليتك سجلت اسمك في خانة الشهداء.

– أما وقد اخترت صف المعمرين الأعداء.

– فقد عدك  التاريخ ضمن لائحته السوداء.. 

بقلم إدريس النعيمي

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى