مقالات

ياسين شادي..المشهد الحزبي في المغرب”أحزاب اليسار نموذجا”

يعد اليسار في المغرب أكثر تحررا من الماركسية التاريخية التي ارتبطت بتفسيرات: لينينية، وتروتسكية، وماوية،..إلخ. حيث استفاد من التراث النقدي الذي قام به اليسار الجديد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وحاول أن يتفهم المستجدات التي طرأت على المجتمع الحديث في ظل العولمة والثورة التكنولوجية. ويعود مفهوم اليسار إلى الثورة الفرنسية، إذ جلس النواب الليبراليون الممثلون للطبقة العامة على يسار الملك لويس السادس عشر في اجتماع لممثلي الطبقات الثلاث للشعب الفرنسي سنة 1789، وكان النواب الممثلون لطبقة النبلاء على يمين الملك في ذلك الاجتماع الذي أدى إلى اضطرابات انتهت بقيام الثورة.[1]

إن المفهوم الأساسي لليسار هو ذلك المفهوم الذي اقترحته الثورة الفرنسية باعتبار اليسار معبرا عن القوى التي تدافع عن الفقراء وتطلعاتهم وتسعى إلى إقامة مجتمع العدالة الاجتماعية.[2] وخضع اليسار المغـربي بدوره لهذه التحولات التي بدأت حتى قبل انفراط عقد المعسكر الاشتراكي الشيوعي أي مع المشروع التحرري العربي فتم إنتاج يسار متعدد وهو نتيجة لصراع سياسي ممتد منذ ما بعد الحماية حتى سنوات الرصاص.

ترتبط نشأة وتطور اليسار عموما، بشكل وثيق، ببروز المسألة الاجتماعية بوصفها ظاهرة مجتمعية، تأخذ أشكالا مختلفة ومتغيرة حسب تطور المجتمعات والحقب التاريخية التي تمر منها. وباعتماد تعريف مبسط وعام للمسألة الاجتماعية، بكونها تلك الفوارق بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتداعياتها، خاصة المخاطر التي تنجم عنها بالنسبة لاستقرار المجتمعات واستمرارها، يتبين أن بروز المسألة الاجتماعية بشكل لافت، خلال القرن التاسع عشر بأوروبا، والذي تجلى في الظروف المعيشية القاسية للطبقة العاملة، والاستغلال البشع الذي كانت تتعرض له نتيجة التطور الصناعي الرأسمالي. ارتبط بانتشار الوعي بضرورة مقاومة هذه الأوضاع وصياغة مشاريع مجتمعية لتجاوزها؛ وهي المهمة التي اضطلع بها الفكر اليساري والاشتراكي بمختلف تجلياته (الماركسية والطوباوية والفوضوية،… الخ.) هكذا ستصبح إشكالية المساواة والعدالة الاجتماعية عنصرا أساسيا، لا يمكن تحديد هوية اليسار دون توفره، وقيمة جوهرية ينبني عليها المشروع التحرري والإنساني لليسار.

أما في دول الجنوب، وخاصة تلك التي لم تعرف تحولا صناعيا عميقا، فقد اتخذت المسألة الاجتماعية أشكالا مغايرة تمثلت أساسا في مسلسل الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي لأوسع الفئات الاجتماعية، وتفاقم الهوة بين فئة قليلة من الأغنياء وبين الجماهير العريضة من المحرومين. لقد تعامل اليسار المغربي مع المسألة الاجتماعية بوصفها قضية جوهرية، لكن وفق مقاربات تختلف حسب كل مكون من مكونات اليسار المتعدد والمتنوع، وحسب الحقبة التاريخية، والموقع الذي يحتله كل مكون من تدبير الشأن العام وشروطه. لهذا سنعمل على التمييز بين مكونات اليسار آخذين في ذلك بعين الاعتبار المشارب المتعددة والخلفيات الفكرية والأيديولوجية تجاه المسألة الاجتماعية.[3]

إن ما يميز خطاب وممارسات اليسار المغربي بالنسبة للمسألة الاجتماعية خاصة خلال مرحلة احتدام الصراع السياسي والاجتماعي هو المقاربة الشمولية المتبعة، التي تربط ما هو اجتماعي بما هو اقتصادي إن على مستوى التحليل أو فيما يتصل بالحلول المقترحة.

غير أن المتأمل في المشهد الحزبي المغربي يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن اليسار المغربي يعيش اليوم على إيقاع أزمة لا يجوز نكرانها. وهي أزمة تُسائل قدرتنا على إعادة التفكير في مفاهيم وممارسات حركة سياسية ساهمت بقسط وافر في صياغة تاريخ المغرب الحديث.[4]

لعل بوادر هذه الأزمة كانت بادية من خلال مجموعة من المظاهر، نذكر منها انشطار وتشرذم أحزاب اليسار، عجزها عن تشكيل قطب واحد وموحد، قصور الأجهزة الحزبية وعدم قدرتها على إفراز قيادات متجددة قادرة على إعادة الاعتبار لنضال اليسار.  زيادة على ذلك، غياب تفكير معمق حول ما بعد “حكومة التناوب”، وصعوبة تقديم عرض سياسي متميز قادر على الدفع بدمقرطة النظام السياسي. إن الخطاب السياسي والإيديولوجي لليسار في المغرب لم يعد قادرا على تعبئة المناضلين والمتعاطفين، حيث كثيرا ما لجأت الأحزاب التقدمية إلى تزكية أعيان لا يحملون مشروعا مجتمعيا بقدر ما يراهنون على تجدرهم المحلي لحشد أكبر عدد من الأصوات أثناء الانتخابات. ويبدو أن نهج هذه “الواقعية السياسية” هو الذي تسبب في الفجوة التي تفصل ما بين خمول العديد من البرلمانيين والمنتخبين المنتمين لليسار من ناحية، وبين الدينامية التي تطبع مشروعه المجتمعي من ناحية أخرى.

ويذهب البعض إلى القول أن ما يشهده اليسار بالمغرب إنما هو ناتج عن عوامل أخرى تتحكم في ما آلت إليه الأمور في الحياة السياسية المغربية، ذلك أن المشهد الحزبي، اليوم، يختلف تماماً عن ذي قبل، وإلى درجة يتساءل فيها المرء عمّا إذا كان المستقبل السياسي وراءَنا لا أمامنا؟! أن أحزابنا – والتقدمية منها بشكل خاص- ضاق نطاقُها التنظيمي حتى ضَمُر، وشَحَّت قاعدتُها الجماهيرية، وهبط معدّل تأثيرها في الرأي العام، وداخل الطبقة الوسطى، وفقدت بريقَها الذي كانتِ السلطة تحسب له حساباً في ما مضى. فقد افتقرت إلى المشروع والرؤية والبرنامج، حتى بات المرء يجهل ما يبرّر لها البقاء من دون بُوصَلة! والأدْهَى والأمَرّ أنها أَمْسَت فضاء فسيحا للحروب الداخلية بين ذوي المصالح فيها. لا عجب إن كان تمثيلها الشعبي قد أسفر عن فضيحة تاريخية في الانتخابات التشريعية للعام 2011، ولا عجب إن استطاع حزبٌ حديث النشأة، وحديثُ العهد بالعمل في المؤسسات، أن يحصد ثمرات سقوطها المروِّع انتصاراً ساحقاً في الانتخابات.[5]

ثمة من يذهب في وصفه لليسار المغربي وما آل إليه من انحطاط وتفكك إلى عامل الفراغ القيادي أو غياب الكاريزمة، ونعني بهذا الفراغ غياب الرمزية القيادية عن الذين يتصدرون أحزابنا اليوم لاسيما منها أحزاب اليسار. ففي الوقت الذي نتذكر قادة الأحزاب المغربية الذين كانوا من طراز علال الفاسي، ومحمد بلحسن الوزاني، وعبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، وعلي يعته، وعبد الرحمن اليوسفي، وأمحمّد بوستة، ومحمد بنسعيد، وأن من كان سيرث بعض هؤلاء في القيادة رحل إلى رحمة الله (المهدي بنبركة، عمر بنجلون، عزيز بلال)، يُصاب بالحسرة على المآلات والمصائر التي انتهت إليها القيادات الحزبية بعد غياب الرأسمال الكاريزمي، الذي لم يكن شيئاً آخر غير رأسمال الكفاءة والاقتدار والصدقية.

على أن عامل الفراغ القيادي، وهو يُطْلِعنا على غياب البدائل القيادية والمؤسَّسية، قد لا يكفي لتفسير ظاهرة الفراغ على مستوى الرؤى الذي تعانيه الحركة الوطنية والتقدمية المغربية منذ سنوات عدّة كفَّت فيها عن تقديم رؤى وبرامج تشدّ إليها قطاعات من الشعب، وتحصل على مساندتها. وتلك مسألة لم تلتفت إليها فتعيرها انتباهاً، وإنما استصْغرت شأنها على نحوٍ يدعو إلى الغرابة![6]

كان اليسار المغربي، الذي أطلق عليه اسم الحركة التقدمية، تمييزاً إيديولوجياً له عن الحركة الوطنية، وإصراراً على رؤية مسائِلَ وآفاق جديدة لم تكن الحركة الوطنية تلْحظها في سنوات الستينيات. وكان «الاتحاد الاشتراكي» قطب الرحى في ذلك اليسار، وعلى أطرافه التنظيمات الماركسية-اللينينية و«حزب التقدم والاشتراكية »، وإنْ لم تَسْتَقِم العلاقةُ بين هذه الأطراف دائماً، أو في المعظم من أطوارها التاريخية؛ لأسباب بعضُها موضوعيّ وبعضُها الثاني ذاتي. لكن هذا اليسار ظل يستطيع، مع ذلك، ولفترة عقدين كامليْن، أن يَبْسُط سلطانه الفكري والسياسي على المجتمع المَدِينيّ والمنظمات الشعبية والمهْنية.[7] هكذا سيطرت قواهُ على المنظمات الطلابية والعمالية والثقافية، على نحو سيطرتها على ساحة الصحافة المكتوبة، وكان له في هذه السيطرة الكفاية والغُنْية؛ لأنها وضعت تحت تصرّفه شبكةً هائلة من المؤسسات الاجتماعية والشعبية ذات القوة التمثيلية المعتَبَرة، كان يَسَعُه استخدامُها في الصراع السياسي رافداً عظيماً لقواهُ الحزبية.

ويبقى أهم أسباب الفقر في الرؤية والبرنامج لدى اليسار والحركة التقدمية في المغرب التهميشَ المنظَّم للمثقفين فيه، وما استجَرَّهُ ذلك من انفصالٍ نَكِدٍ بين الفكر والسياسة، بين النظرية والممارسة. ليس هنا مقام الحديث في التحوّلات التي كان الجسم الحزبي المغربي ميداناً لها، في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي أفضت إلى تغيُّرٍ هائل في طبيعة القوى والنخب السياسية فيه، لكنها مناسبة للقول إن المثقفين ما عادوا يحتلون المكانة عينَها التي كانت لهم في مراكز القرار والتنفيذ في المؤسسات الحزبية لأسباب لا تعود -قطعاً- إلى عزوفهم عن السياسة وإبائهم تقلّدَ المسؤوليات الحزبية، على نحو ما يروّج هنا وهناك، وإنما لأسباب أخرى ليس أقلّها أن رأسمال المال والوجاهة بات أدعى إلى الطلب في الحياة الحزبية «التقدمية» و«الوطنية»، من رأسمال الفكر والمعرفة! وإلى ذلك فإن سطوة البيروقراطية الحزبية المحترفة على تقاليد المؤسسات «اليسارية» استتبَعَتْ نوعاً آخر مختلفاً من السياسة والعمل الحزبي لا يحتفل، كبيرَ احتفال أو صغيره، بالبرنامج والرؤية قدْر احتفاله بوسائل تحصيل حصته من السلطة، حتى أن نشاط «اليسار» اقتصر، أو كاد أن يقتصر، على الانتخابات التشريعية والجهوية/الجماعية![8]

من الطبيعي أن لا يجد المثقفون مكاناً لهم في مثل هذه البيئة النابذة، فيهجروها أو -على الأقل- يقيمون معها بعض المسافة الضرورية التي تحفظ لهم استقلاليتهم كأهل رأيٍ حرٍّ ونقدي. ولقد كان يَسَع أحزابنا، حتى مع نفورهم من المثقفين وعدم تحمّل أدوارهم فيها، أن يُبْقُوا على أشكالٍ من الصلة غيرِ المباشرة بهم، ولو من طريق الإفادة من المنتوج الفكري الذي ينتجونه في الشأن العام: في مسائل الدولة والسلطة، والاقتصاد والتنمية، والاجتماع الأهلي والسياسي، والمسألة الدينية والثقافية، والمسألة الاجتماعية وسواها مما يتناولونه بالدرس في عملهم الأكاديمي أو بالرأي في الدوريات اليومية والأسبوعية.

بقلم ياسين شادي

 

المراجع المعتمدة:

محمد جسوس، طروحات حول المسألة الاجتماعية، منشورات الأحداث المغربية،2003.

عبد الإله بلقزيز، اليسار والانحطاط الحزبي في المغرب، مجلة بدايات (فصلية فكرية)، عدد 5، ربيع 2013.

عبد الحي المودن، اليسار المغربي: الفكرة والممارسة، الدفاتر الزرقاء، العدد 14، سنة 2009.

عبد الرحمان النوضة، نقد أحزاب اليسار بالمغرب، منشورات موقع https://livreschauds.files.wordpress.com

محمد السعدي، اليسار المغربي والمسألة الاجتماعية، مجلة النهضة، العدد 2، سنة 2012.

رشيد طلحة، تاريخ اليسار في المغرب، الحوار المتمدن، العدد 24/09، تاريخ الاطلاع: 20-03-2021.

عماد استيتو، اليسار المغربي: واقع الأزمة ومخاض التغيير، مؤسسة روزا لكسمبورج، منشورات موقع: https://www.ssrcaw.org بتاريخ 2014-11-04 ، تاريخ الاطلاع: 20-03-2021.

[1] – Left and right: the significance of a political distinction, Norberto Bobbio and Allan Cameron, pg. 37,

University of Chicago Press, 1997.

[2] – 1-T. Alexander Smith, Raymond Tatalovich. Cultures at war: moral conflicts in western democracies.

Toronto, Canada: Broadview Press, Ltd, 2003. Pp 30

[3] – محمد السعدي، اليسار المغربي والمسألة الاجتماعية، مجلة النهضة، العدد 2، سنة 2012، ص: 63.

[4] – عبد الحي المودن، اليسار المغربي: الفكرة والممارسة، الدفاتر الزرقاء، العدد 14، سنة 2009، ص: 3.

[5] – عبد الإله بلقزيز، اليسار والانحطاط الحزبي في المغرب، مجلة بدايات (فصلية فكرية)، عدد 5، ربيع 2013، ص: 23.

[6] – عبد الإله بلقزيز، المرجع نفسه.

[7] –  محمد سعيد السعدي، مرجع سابق، ص67.

[8] –  عبد الرحمان النوضة، نقد أحزاب اليسار بالمغرب، https://livreschauds.files.wordpress.com/2015/01/d983d8aad8a7d8a8-d986d980d982d8af-d8a3d8add8b2d8a7d8a8-d8a7d984d98ad8b3d8a7d8b1-d8a8d8a7d984d985d8bad8b1d8a8d88c-d8b9d8a8d8af-d8a7d984.pdf ، تاريخ الاطلاع: 21-03-2021.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى