مقالات

ياسين شادي..القضاء الدستوري بالولايات المتحدة الأمريكية

تحتل النصوص الدستورية المكانة الأسمى في  سلم التدرج الهرمي للنظام القانوني، ويقصد بسمو الدستور، علوّ القواعد الدستورية على غيرها من القواعد القانونية المطبقة في الدولة، وهذا يعني أن أي نص قانوني تصدره مؤسسات الدولة وأجهزتها يجب أن يكون مطابقا للدستور، ولا يمكن لأي جهاز أو سلطة أن تعمل إلا بمقتضى ما حدده الدستور من قواعد معيارية، على اعتبار أن الوثيقة الدستورية هي التي أضفت الشرعية على ممارسات السلطة. وعلى هذا الأساس تكون قواعد الدستور أكثر ثباتا من القواعد القانونية العادية، لذلك لا يمكن إلغاء القواعد الدستورية إلا بقواعد أخرى مثلها.

في هذا السياق تطرح ضرورة ملائمة القواعد القانونية العادية مع الوثيقة الدستورية، لهذا السبب أنشأت فكرة الرقابة على دستورية القوانين والتي تعتبر من أهم الضمانات القانونية التي تكفل احترام الدستور، وتظهر الحاجة لهذه الضمانة بصفة خاصة في الدساتير الجامدة لأن الدساتير المرنة لا يتصور معها الرقابة الدستورية، كون هذا النوع من الدساتير “العرفية/المرنة” يمكن تعديلها بنفس الكيفية التي تُعدّل بها القوانين العادية.

تختلف أنواع الرقابة الدستورية تبعا لاختلاف الأنظمة السياسية والدستورية المعمول بها في كل دولة، لكن يمكن أن نميز عموما بين نوعين من الرقابة، الأولى سياسية والثانية قضائية، كما أن هذه الأخيرة تنقسم إلى رقابة امتناع ورقابة إلغاء. في هذا الصدد سنحاول ضمن هذه المقالة التطرق لأحد أهم النماذج التي كرست مفهوم الرقابة على دستورية القوانين، مركزين في ذلك على المعطى التاريخي الذي ساهم في تشكل معالم هذا النموذج، لنقف بعد ذلك على فهم وتحليل أهم العناصر المميزة للرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية.

  • الأسس التاريخية للرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية

تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الوطن الأم للرقابة القضائية على دستورية القوانين، وهو من أهم الابتكارات التي أنتجت في القانون الدستوري، وذلك بالنظر إلى الصلاحية التي تناط لمحاكم الولايات عامة والمحكمة العليا خاصة.

هذه الرقابة ما كانت لتكرس على مستوى الواقع العملي للولايات المتحدة الأمريكية لولا تظافر العوامل التاريخية من جهة، وجهود الفقه من جهة أخرى، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية -في ظل خضوعها للاستعمار البريطاني- لم تكن تتمتع بأي سلطة غير تلك التي تقررها الدولة المستعمرة بموجب الأوامر الملكية والقوانين التي يسنها البرلمان الإمبراطوري، حيث كانت هذه القوانين تعلو على جميع القواعد التي تسنها برلمانات الولايات، إذ كانت محاكم الولايات المتحدة الأمريكية تمتنع عن تطبيق القوانين التي تسنها برلماناتها، إذا جاوزت الحدود المرسومة لاختصاصها في الأوامر الملكية الصادرة عن التاج البريطاني والقوانين الإمبراطورية. وتبعا لذلك، بمرد أن حققت الولايات المتحدة الامريكية استقلالها عن بريطانيا سنة 1776 حرصت كل ولاية أن يكون لها دستورها الخاص، وأن تكون دساتيرها جامدة، حيث أخذت بمبدأ التمييز بين النصوص الدستورية والقوانين العادية، فكان وجه التأثير بالمستعمر أن كفلت لدساتيرها نفس المرتبة التي كانت للأوامر الملكية، فجعلتها بمنأى عن السلطة التشريعية وحملت المحاكم على الامتناع عن تطبيق أي قانون يتعارض معها. وهذا ما يفسر كيفية وجود سوابق لرقابة دستورية القوانين قبل قيام الاتحاد الأمريكي سنة 1789، إذ تشهد بذلك الأحكام الصادرة عن محاكم نيوجيرسي سنة 1780، و رود-آيسلندا سنة 1786، وفيرجينيا سنة 1788، وكلها تصب في قالب واحد وهو عدم دستورية القوانين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التأثر البالغ للولايات المتحدة ببريطانيا على مستوى دستورية القوانين لم يأت من فراغ، على اعتبار أن بريطانيا هي الأخرى شهدت ممارسة رقابية قضائية على دستورية القوانين سنة 1610 مع القاضي “إدوارد كوك” وهو الشيء الذي شكل إرهاصات أولية للرقابة الدستورية، أرخى بظلاله على التجربة الأمريكية، لكن المفارقة الغريبة هي أن بريطانية على الرغم من كونها كانت سبّاقة إلى العمل بالرقابة الدستورية إلا أنها انقطعت ولم تستمر.

لقد ظل القضاء الأمريكي مترددا في مسألة الرقابة على دستورية القوانين إلى أن قام الاتحاد الأمريكي سنة 1789، وجاء دستوره جامدا يتطلب تعديله إجراءات ومسطرة معقدة وصعبة، أشد من تلك التي يتطلبها القانون العادي، فاعتبرت الدستور أسمى القوانين في الدولة، تتقيد به المحاكم في كل الولايات.  لكن عدم النصّ بشكل صريح على الرقابة الدستورية في الدستور الأمريكي سيثير نقاشا حول مدى جواز ممارس المحاكم الاتحادية رقابة دستورية على القوانين والامتناع عن تطبيقها في حالة التعارض مع الدستور، وظل الخلاف قائما بين مختلف الآراء الفقهية في المسألة، إلى أن حسم القاضي “جون مارشال” النقاش في قضية “ماربري” ضد “ماديسون” في ما سُمّي بدعوى “قضاة اللّيل”، حيث رفع ماربري قضية ضد ماديسون يطلب فيها أمرين، الأول أن تقر المحكمة بأحقيته في التعيين، والثاني بإصدار الأمر بالتنفيذ، فقام القاضي جون مارشال بالاستجابة للطلب الأول، لكنه لم يستجب للطلب الثاني، وعلّل ذلك بكون القانون الذي استند إليه ماربري في الطلب الثاني يعطي للمحكمة العليا اختصاصات لم يقرها الدستور نفسه لها، وعليه فإنه يمتنع تطبيق هذا المقتضى القانوني لكونه يخالف الدستور، فكان هذا الحكم القضائي الأول من نوعه الذي يكرس رقابة دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية، لتتوالى القضايا وتتابع الأحكام التي ستمضي في نفس المنحى من طرف مختلف المحاكم حتى تأكد مبدأ دستورية القوانين كضمانة لحماية سمو القاعدة الدستورية على باقي القواعد القانونية الأخرى.

  • الخصائص المميزة للرقابة على دستورية القوانين بالنموذج الأمريكي

تتميز الرقابة على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية بخصائص مهمة، تجعلها مختلفة عن غيرها من التجارب المقارنة خاصة النموذج الأوربي، حيث تتحدد طبيعة النظام القضائي في مجال مراقبة دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال أربعة خصائص يتسم بها هذا النموذج.

خاصية الانتشار:

تتميز الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحد الأمريكية بكونها منتشرة، أي أنها غير ممركزة في يد هيئة أو مؤسسة واحدة كما هو الشأن في التجربة الأوروبية، خاصة النموذج الفرنسي الذي يعتمد في مجال الرقابة الدستورية على المجلس الدستوري كهيئة يَكِلُ إليها أمر النظر والبت في مدى دستورية القوانين، وعليه فالنموذج الأمريكي يمتاز عن غيره من النماذج بكون ممارسة الرقابة الدستورية أمر مكفول لجميع المحاكم بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن لأي محكمة وفي أي قضية ترفع أمامها يثار فيها مسألة عدم دستورية القانون المراد تطبيقه في النازلة، يمكن للقاضي نفسه وفي نفس المحكمة أن ينظر أويبت في مسألة المطابقة الدستورية من عدمها، دون أن يرفع الأمر للمحكمة العليا للاتحاد، على أساس أنه اختصاص مكفول لسائر المحاكم وليس ينحصر فقط على المحكمة العليا.

خاصية البعدية:

يأخذ النموذج الأمريكي في مجال الرقابة على دستورية القوانين بالرقابة البعدية لأنها تكون بعد إصدار القانون ودخوله حيز التنفيذ، أي ان القانون لاتثار بشأنه مسألة عدم الدستورية إلا بعد احتكاكه بالواقع وهذا راجع بالأساس لما أشرنا إليه آنفا من كون الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ بخاصية الانتشار بمعنى عدم وجود جهاز يعنى بالنظر القبلي في المسألة الدستورية، كما هو الشأن بالنسبة للتجارب الأوروبية، ولا يقتصر الاختلاف بين التجارب المقارنة في الخاصية الأولى فقط وإنما هناك اختلاف آخر على مستوى خاصية البعدية التي لم تكن مطروحة ضمن النسق المعمول به في النموذج الفرنسي وإنما تم الأخذ به مؤخرا في إطار التعديل الدستوري لسنة 2008، ليزاوج القضاء الفرنسي بين الرقابة القبلية (بشكل إجباري على القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية للبرلمان وبشكل اختياري على القوانين العادية)، والرقابة البعدية من خلال آلية الدفع بعدم دستورية القوانين.

خاصية الواقعية:

تقوم الرقابة الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية على أساس وجود نزاع واقعي غير مجرد، أي ضرورة وجود خصومة ذات وقائع حية وموضوعية حصلت في الواقع المعاش، ويراد تطبيق قانون ما في هذا النزاع فتتم إثارة مسألة الدستورية من قبل أطراف النزاع، وليس للقاضي أو لأي كان حق إثارة مسألة دستورية القانون عدى الأطراف المتنازعين، وهذا يعني أن الرقابة على دستورية القانون ليست من قبيل النظام العام، على عكس النموذج الألماني الذي يمكن للقضاء من إثارة مسألة الدستورية تلقائيا.

كما أن النموذج الفرنسي يختلف هو الآخر عن نظيره الأمريكي في مسألة الواقعية، ذلك أن المجلس الفرنسي يقوم بمعالجة القانون بشكل مجرد، في حين أن المراقبة الأمريكية للقوانين تشترط وجود نزاع واقعي بين متخاصمين. وتجدر الإشارة، إلى أن هناك استثناء على مسألة الواقعية في الرقابة الدستورية يتعلق الأمر بما يسمى بالحكم التقريري، هو نادرا ما يقع، وتتلخص مسطرة الحكم التقريري في لجوء المواطن إلى المحكمة ليطلب منها إصدار حكم يقرر ما إذا كان القانون الذي يراد تطبيقه عليه مطابقا لأحكام الدستور. ويترتب عن هذا الطلب توقف الموظف المختص عن تنفيذ القانون إلى حين صدور حكم تقريري بشأنه.

خاصية نسبية حجية الشيء المقضي به:

بصفة عامة الأحكام القضائية إذا لم يتم استئنافها أو نقضها في الآجال المحددة قانونا فإنها تصير نافذة وتحوز حجية الشيء المقضي به، إلا أن الأمر يختلف في القضاء الدستوري الأمريكي، حيث تكون حجية الشيء المقضي به نسبية على اعتبار أنها لا تلغي القانون(المطعون فيه بعدم الدستورية) بشكل مطلق، وإنما توقفه فقط، أي أنه يمكن لمحكمة أخرى تطبيق نفس القانون التي حكمت المحكمة الأولى بعدم دستوريته، بل يمكن لقاض آخر في نفس المحكمة أن يطبق القانون الذي قضى القاضي الأول بعدم دستوريته، إلا في مسألة السابقة القضائية التي نعني بها الرأي الذي تصدره المحكمة العليا الاتحادية فإنه -بالنظر إلى المكانة التي تحتلها هذه الأخيرة- يتم الأخذ بهذا الأي من طرف جميع المحاكم الأخرى ويعتبر سابقة قضائية. هذه الخاصية هي الأخرى تختلف عن ما هو معمول به في فرنسا، حيث يقوم المجلس الدستوري الفرنسي بإقبار القانون إلغاءه من المنظومة القانونية إذا ثبت أنه غير دستوري.

ياسين شادي

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى