التعاقد في قطاع التعليم بالمغرب.. أزمة رؤية ومأزق تدبير
إن ظهرت أهمية التناول الحقوقي لقضية التعاقد في قطاع التربية والتعليم باعتبار أن التوظيف حق وليس منة من أحد، و إن بانت أهمية المقاربة النقابية للموضوع منظورا إليه من كون الدفاع عن الحقوق أمرا مكفولا بنص الدستور والمواثيق والأعراف الإنسانية والعقلية، ولئن جاز تناول الموضوع من زاوية البعد الاجتماعي لكون الاستقرار النفسي والمادي والاجتماعي والمالي والاقتصادي شرطا أساسيا في إمكان أداء جيد لمهام التدريس والتربية والتعليم والاحتضان للناشئة التعليمية، وإن كان مفروضا وضروريا النظر إلى المسألة من وجهة ترى أن الدفاع عن المدرسة مؤسسة للتربية القيمية والتعليم والتلقي المعرفي والتدريب المهاري والعيش والإدماج الحياتي من آكد الواجبات لمجتمع يرنو إلى ضمان لحمته الجامعة واستشراف مستقبل عوالم المعرفة المتسارعة. قلت لئن كانت هذه الدواعي تجد لها مسوغاتها المعقولة، فإن الدراسة المتفحصة والقراءة المتزنة المسؤولة الصادقة والصريحة لتاريخ مسلسلات الإصلاح التعليمي بالمغرب تفرض القول وبمنطق الوضوح والمسؤولية ذاتهما أن اعتماد تلكم المقاربات حتى في اجتماعها لن تؤدي سوى إلى قراءة تجزيئية لن ترى سوى الجزء الظاهر من عمق الأزمة البنيوية للمنظومة التربوية المغربية، وإلا فإن الأولى والأجدى أن نعتمد نظرة متكاملة شمولية تضع المسألة في إطارها السياسي المجتمعي حتى لا نقضي الوقت في معالجة الثمار الفاسدة الناجمة عن الشجرة المسمومة، فننشغل بالمنتوج عن المنتج، وبالأعراض عن الجوهر. يتطلب هذا في مقاربة قضية التعاقد في قطاع التربية والتعليم، إنجاز قراءتين ينجم عنهما الوعي بجوهر أزمة التعليم بالمغرب وتجلياتها العرضية، ثم بيان مظاهر التحديات والرهانات القائمة، واستخلاص جملة توصيات موجهة.
نحتاج إلى قراءة سياقية تستحضر جملة أحداث تاريخية تضع فرض التعاقد ضمن ما تلا ما عرف بوضع السكتة القلبية في نهاية التسعينات، وما تولد عن ذلك من الاستجابة لمقررات القوى الاقتصادية الدولية بوضع إصلاحات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وإقراره وتنزيله مع العهد الجديد في سياق التناوبي التوافقي، وإذا كان الميثاق يضم بين ثناياه الجراثيم التي نشأت عنها في فصوله وأبوابه كل التدابير التي بدأت تنسل إلى ساحة التنزيل والتطبيق بعد أكثر من عشرين سنة من فرض التوافق المزعوم حول الميثاق، فإن المنظومة كانت مع موعد تاريخي آخر للفشل الذريع الذائع بعد الإعلان عن فشل العشرية الأولى الموعودة، والدخول في متاهات برنامج إصلاحي جديد كان له نصيب واسع من اسمه الاستعجالي، إذ لم تمض فيه إلا سنوات شحيحة العدد والمدد حتى افتضحت مشاريعه ليتم اللجوء إلى دوامة أخرى من اللقاءات الاستشارية تارة، و الحوارية الجهوية تارة، والتدابير ذات الأولوية طورا آخر، ليتمخض جبل الركام والوثائق عن ما عد رؤية استراتيجية ومشاريع منطقية ستكون البوابة لصنع قفل القانون الإطار ومشاريعه المسترسلة النازلة.
ستفهمنا القراءة النسقية أن مشروع التعاقد ليس إلا جزءا من آلة تخريبية تفتت شتات المنظومة التربوية المغربية إلى شتيت يقضم من بقايا حياتها المترنحة؛ وإلا فما بال هذه الحزمة المتسارعة من الإجراءات التدبيرية التي فرضت تكوينا من غير توظيف، فتوظيفا من غير تكوين، فضربا للمجانية تحت دعاوى تنويع مصادر التمويل، ثم تمكينا قويا مزيدا للفرنسية، وإقرارا لخيارات قيمية بعيدة عن هوية الأمة ماتحة من مرجعيات العولمة الغالبة، و توجها نحو قبلة التطبيع التربوي بعد التطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني، دون أن ننسى مسارعة الزمان لتنزيل إصلاحات موعودة لصناديق التقاعد وللأنظمة الأساسية والتربوية بشكل يغيب المقاربة التشاركية للمعنيين بالأمر أنفسهم وللفاعلين بمختلف أنواعهم. وكل هذا ضمن بنية اقتصادية لا تردد سوى نغمة فشل النموذج التنموي، ولا تدعو إلا إلى سلوك النهج نفسه لصياغة نموذج آخر بنكهة مغربية.
إن خطاب الأزمة المأزوم الذي أصبحت الدولة نفسها تتقنه وتنافس فيه وبامتياز ما عاد يجدي نفعا؛ أولا لأنه يلقي باللائمة على الأجهزة المدبرة ويسكت عن عتاب الماسكين ببوصلة الدفة الموجهة، وثانيا لأنه يقف دوما عند تجليات الأعراض التي تنخر الجسم التربوي التعليمي بنظرة غالبا ما تكون تقنوية غير نافذة إلى عمق الداء وأصل البلاء، وثالثا لأنه خطاب يؤبد حالة وهم النقاش المجتمعي في هوامش الترداد اللامنتهي للكوارث التاريخية التي سافرت مع التعليم عبر أزمنته الإصلاحية التي ينسخ بعضها بعضا ويهدم بعضها بعضا ويلعن بعضها بعضا. ولئن كانت أزمة التعليم عندنا أزمات: أزمة قرار يملى في مطابخ القوى الدولية ويصاغ في دهاليز المجالس المرعية، أزمة تشخيص يدقق في الفتات ويعمي عن الحقائق، أزمة تدبير ارتجالي وتنزيل استعجالي، أزمة قوة اقتراحية لا تملك من الخيال والإبداع ما يجعلها تفكر من خارج صندوق استيراد الجاهز البائت الفائت، فإن هذه الأزمة الأزمات إنما ولدت لنا أم الدواهي الماثلة في انعدم الثقة في المدرسة، وامتهان المدرس، وتلكما لعمري لهي القاضية الماضية بنا إلى قعر الاغتيال الواقعي غير الرمزي للثروة القوة الممكنة من الصمود في وجه الرياح العاتية للتقدم المعرفي الهاجم الغازي.
جوهر ما بتعليمنا من علل يكمن في مسألتين اثنتين؛ طغيان البعد التحكمي للدولة في مقررات إصلاحات التعليم بالمغرب فإذا هي هو، أو فإذا هو هي. ثم افتقاد المشروع المجتمعي الوطني المجسد للهوية الوطنية، وإذا كان طغيان الدولة يولد أن التعليم عندنا قضية حكم لا قضية شعب، فإن افتقاد المشروع المجتمعي يضعنا في قلب تعليم لا يعبر عن حاجياتنا القيمية والاقتصادية والاجتماعية بل يظل تبعا لإملاءات المستكبر المانح المالي بعد أن كان تابعا لهوى الحاكم المانح العقلي والنفسي. وعن هاتين العلتين السرطانيتين تخلق أزمات العدالة الاجتماعية، والبنية التحتية، وضمور الحس الأخلاقي، وفقدان المنهاج التربوي الملائم، وضياع الفاعل والمفعول، وضعف المكتسبات، والبقاء الأبدي في ذيل سلاليم التنمية البشرية والرقي الحضاري.
إن الوعي بالسياقات والأنساق، وإدراك مكمن البلاء والداء، وربح رهانات السياسة التعليمية، واستثمار الزخم الاحتجاجي المتنامي يدعو إلى الاقتناع الجوهري بأن جوهر إشكال التعليم عندنا هو تحكم النظام في مدخلاته ومخرجاته، وعدم امتلاك تصور مجتمعي للمواطن المقصود، والمجتمع المنشود، كما يدعونا إلى الإقرار بأن حل قضايا التعليم لن تكون ترقيعيا تجزيئيا بمعزل عن حل الوضع العام للمجتمع والسياسة والحكم والاقتصاد، مما يعني ضرورة امتلاك الجرأة الأدبية للاعتراف بنفاذ البطارية الإصلاحية للدولة في ميدان التعليم، وانتهاء مدد صلاحية الوصفات المنتجة وقدم الحلول المعروضة، وهو ما يعني أن نيأس يأسا كليا من أمل شفاء التحكم من مرض الاستبداد بالرأي، وكذا ملحاحية امتلاك الشجاعة الأخلاقية للقول بأن واقع التشرذم للفاعل المجتمعي عموما إنما سيكون في صالح إعادة تدوير خطاب الفاعل الوحيد الذي هو النظام ومؤسساته المتنفذة. وهذا يقول لنا بالعبارة الصريحة: إن الحاجة إلى الدفع بالتنسيق النقابي والاحتجاجي إلى أفق الجبهة المجتمعية الممانعة من خارج القوالب المعهودة، أضحى مسألة عليها يتوقف مستقبل أجيال البلاد، وحسمها حسم لمقدمات التغيير الحقيقي على قاعدة القطع مع عبث العابثين لبناء الإنسان وتشييد العمران.
بقلم الدكتور مصطفى شـݣري