ثنائية الدعوة والدولة ..نظرة تأملية
بداية أنا اعترف أن الخوض في هكذا “مباحث” لا يفوق طاقتي وقدرتي فقط ،بل يفوق قدرة عصبة بل طاقم علمي برمته، مُتاح امامه كل الإمكانيات الأكاديمية و مُحققة لديه الشروط البحثية ،وذلك لما لهذا الموضوع من” ثقل نظري” ،بحثي، كما انه متشعب الفروع والحقول الدراسية و”التتبع العلمي” .وما يزيد من المأمورية صعوبةً، افتقادنا لنموذج معاصر نقتبس منه الأمثلة ونستعين به لشرح المبهمات وتأكيد الواضحات.
لطالما خَطَ علماؤنا الاجلاء ،عبر الأزمنة وباختلاف الامصار ،طروحات قيمة في موضوع مؤسسة الدعوة وعلاقتها بمؤسسة الدولة ، أي بعبارة تبسيطية أكثر : علاقة الحمولة الايمانية الدينية ،بالحمولة السياسية التدبيرية ،وذلك في نطاق ظاهرة “الدولة”ETAT / STATE.
هذا المبحث العلمي الأصيل عرف تجاذبات حادة في صفوف رواده ومنظريه ، مند أن انتقلت الخلافة الراشدة الى ملك، و بالتالي توالت الأجيال على “تَحْقِيب” أزمنتها تحت أسامي مختلفة تارة ، ومتباينة تارة أخرى، حرصا منها على مُحاكاة بنيتها السياسية للنموذج النبوي الأصيل.
كما هو معلوم لدى المتخصصين في الفكر السياسي الإسلامي ان مرتكز هذه الثنائية{الدعوة والدولة} باعتبارها تيمة دولة القرآن المستقبلية، هو “سيادة” الدعوة على الدولة، أي ان مؤسسات الدولة برمتها تَنْقَاد لِوِجْهة التي تحددها مؤسسة الدعوة وتنصاع لها، وبالتالي تمتلك ولاية عامة على كل قطاعات “كيان الدولة” مجتمعا وبُناًسياسية .
فالدعوة بهذا المعني هي التي تضع “السياسة العامة”لكيان المجتمع الإسلامي المرتقب ، والاليات الضرورية لمراقبة عمل الساسة والمؤسسات التي يَنْضَوُن تحت ظلها وينتمون لها.
إلا ان هؤلاء العلماء اختلفوا حول شكل مؤسسات الدولة المرتقبة، وخاصة مؤسسة الدعوة…. واليات انتخاب أعضائها… وطريقة ذلك …..والتنسيق مع باقي كيانات المجتمع الإسلامي…… الدعوة وعلاقتها برجال الدولة الأكثر التماسا بالواقع وحيثياته.
وكيف يمكن للدعوة ان تقود مؤسسة الدولة ؟….وما هو السبيل الى أن لا تذوب الدعوة في الدولة وينهار البناء برمته؟
اذكر قبل سنتين تقريبا ، كان لي “سَمراً لَيْلِيًا” مع احد الأصدقاء ،فدار بيننا نحن الاثنان حوارا فكريا جادا الى ابعد حدود ،حيثاشتبكنا تارة ،و اتفقنا ، بالأحرى توافقنا، تارة أخرى، حول ذات الموضوع المشار اليه أعلاه ،فإذا به يطرح علىَّ سؤالا محورا مفاده :
كيف سيكون شكل “دولة القرآن المستقبلية”،وخاصة أننا نعيش عصرا لا نملك تصورا متكامل الأطراف، وقابلا للأجرأة ، حول هذا الكيان المستقبلي الذي صدقنا بنشوئه وذلك عبر ما وردنا من أحاديث ونصوص من الوحي ؟
كان جوابي ـ او بالأحرى محاولة للإجابة باعتبار الموضوع لا يمكن تلخيصه وتبسيطه هكذا بجرة قلب ـ .كالاتي:
أول شيء صدعت به ساعتها هو :أن شكل هذا الكيان{ ….أسامي أشكاله….بنيته التنظيمية …..طرق صياغة الدساتير ….انتخاب…عزل…..}سيكون من ابداع وابتكار الجيل ،بل الأجيال المستقبل التي ستنخرط في بنائه وتجويده عبر الزمان وباختلاف الأقاليم والامصار المُمَثلة فيه.
كما انه لا يمكن على الاطلاق للأجيال القادمة، أن تتفوق في هذه الوظيفة التاريخية العظيمة، إن لم تجد من التراكم النظري ثم العملي ،لنماذج وتجارب، يمكن ان تكون مَناطَها للانطلاق والبناء على منوالها على الاقل.
مسألة بناء صرح دولة القرآن ليست مسؤولية أجيال المستقبل و حَسْبْ ،بل مسؤولية كل الأجيال، لان الامر ببساطة موعود الاهي نبوي أزلي، من مفروض تصديقه والعمل على تنزيله وجعله حقيقة ملموسة على ارض الواقع.
انهيت بإجابتي بالقول ان أجهزة الدولة ما هي الا أليات يقترحها ويصيغها المجتمع القرآني وبالتالي لا يمكننا الحديث عن “دولة القرآن” بعيدا كل البعد عن البيئة الروحية ، الوجدانية، ،و “الهَوِيَاتِيَّة” لمعاني الوحي اعتقادا وسلوكا وسرياناَ في اوصال المجتمع قبل نشوء الدولة المرتقبة ،على اعتبار ان “بُنى الدولة” ما هي في الحقيقة الا انعكاسا لثقافة وعقيدة المجتمع القائم.
والوصول الى مثل هكذا مجتمعات لا يتم ب”ميزان السنوات “بل ب”منطق القرون” ،على اعتبار أن عملية صياغة “ذهنية” مجتمع ما ،تتطلب ردحا من الزمان، وقسطا عظيما من الجهد والعمل المتواصل من لدن حاملي مشروع الإسلامي عبر العصور.
الياس واحي.