ياسر جيد ..مفهوم الوطنية بين ضحالة “الصَّحفي” وعُمق التاريخ
في إطار ملف الأساتذة المتعاقدين الذي يعتلي سقف الأحداث مؤخرا، استفزتني تصريحات بعض الصحفيين ممن يعملون على توجيه الرأي العام، والتي تضمنت عبارات التخوين وإسقاط الوطنية عن هؤلاء الأساتذة المناضلين وذلك بداعي الاستجداء بالخارج وتدويل قضيتهم المشروعة من خلال منصات التواصل الاجتماعي. طبعا الرد على هذه الدعوى هو من اختصاص الحقوقيين، وأنا لا أرى أي ضير في تدويل القضية بعدما أصبحت تكتسي طابعا حقوقيا صرفا عقب أحداث التعنيف وأشكال الاضطهاد الذي تعرض له أصحابها أمام مرأى ومسمع من الجميع ما دام الدستور نفسه يرتكز على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كمرجع تشريعي أساسي، وهذا حديث آخر. أما ما يهمني في هذا المقام فهو مفهوم الوطنية الذي أصبح ورقة رخوة بين أصابع البعض يقلبونها كيفما يشاؤون متى شاؤوا. متى أكون وطنيا مُخلصا ومتى يسقط عني ورق الوطنية كي أصبح مجرد رقم عقيم أو ربما عميل لصالح أجندات خارجية حسب هذا المنطق؟ ووفق أي ضابط أو مرجع تتحدد وطنيتك؟
هذه أسئلة ملحة انطرحت علي في حديثي مع نفسي خلال التعاطي مع هذا الخطاب …
تجاوزا لمفهوم المواطنة، والذي يختص بطابع قانوني وعملي، يحتل مفهوم الوطنية منزلة أعمق وأرفع بحيث يحيل على معاني الولاء والانتساب والفخر وغيرها من الدلالات غير قابلة للاختزال في بطاقة هوية وطنية ورقم تسلسلي. فكيف نحدد هذا الولاء ؟ وقياسا إلى أي مرجع يكون هذا الانتساب ؟
معارضة الأساتذة لم تتجاوز إطار الوزارة التي ينضوون تحت لوائها ولا تتعدى انتقاداتهم سياسات الحكومة كمؤسسة منتخبة وتخضع للمساءلة بطبيعتها، ومطالبهم لم تُطاول حقهم في الوظيفة العمومية والخبز الذي يضمن الحد الأدنى من الكرامة .. ورغم ذلك يتم التشكيك في وطنيتهم بسبب إصرارهم على النضال والدفع بقضيتهم إلى الأمام حسب رأي هؤلاء. فماذا يُقال إذن في حق من طالب بإعادة النظر في نظام الدولة برمته حسب هذا المنطق وناضل ليس فقط من أجل إصلاح قطاع أو مصلحة داخل قطاع معين بل من أجل تغيير بنية وهيكلة الدولة بأكملها بما ينسجم مع المبادئ الديمقراطية والرؤى التقدمية التي كان يتبناها فكرا وإيديولوجية. وأمثال هؤلاء النماذج تملؤ تاريخنا المُعاصر. بل كان الانتقاد يطال رئيس الدولة بنفسه الذي كان وما يزال يعتبر رمزا صريحا من رموز الوطن، فهل تسقط الوطنية عن عبد الرحيم بوعبيد مثلا عندما صرَّح بالحرف لمجلة جون أفريك الفرنسية سنة 1964 بأن خصمهم السياسي الحقيقي يتمثل فيما وراء حزب الفديك FDIC وهو الملك الحسن الثاني عينه الذي حاد حسبه عن دوره الطبيعي المتمثل في التحكيم السياسي آنذاك من خلال وقوفه على تأسيس مثل هذه الأحزاب(1) ، أو حين عارض قرار الحسن الثاني بإقامة استفتاء حول مغربية الصحراء سنة 1981(2). وهو الوطني المشهود له بولائه ورمزيته التاريخية. ثم لنذهب أبعد من ذلك، هل يوجِب انتقاد الملك بنفسه كرمز يتجاوز المؤسسات إسقاط الوطنية بطابعها المعنوي ؟ _ طبعا الانتقاد هنا يتعلق بأفعال الشخص كأسلوب تدبيره للحكم وسياساته وليس التنقيص من الشخص لذاته وهو أمر غير مقبول في حق أي كان فالأحرى بشخصية ذات رمزية وتحظى بالقداسة عند البعض_، ثم هل من المعقول أن يُختزل الولاء لوطنٍ يُقدر عمره باثني عشر قرنا على أقل تقدير في الولاء لشخص بعينه ؟ .. وحتى باستحضار مسار النضال الوطني للأسرة الحاكمة وتشكيل المغرب الحديث، ألم يكن لأجدادنا أيضا دور ومساهمات في مسار تشكيل هذه الأمة، فجدي الأقرب مثلا كان عضوا في إحدى الخلايا التي قادت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي بالدار البيضاء، والتي سرعت من وتيرة عودة السلطان محمد الخامس من المنفى باعتبارها أقوى ورقة ضغط كان يوظفها المفاوضون المغاربة على طاولة الحكومة الفرنسية، وجدي الأكبر كان زعيم حركة روحية وجهادية في عهد الموحدين بنواحي مدينة آسفي وقد تحولت زاويته إلى معقل للجهاد ضد المستعمر البرتغالي فيما بعد. ألا يكفيني هذا في الشعور بالانتساب المتجذر لهذا الوطن؟ بلى، تمنحني مطالعة تاريخ أسلافي أولئك من أحداث ومأثورات إحساسا بالانتماء لهذه الأرض قد لا يدركه أمثال هؤلاء البسطاء من عبيد السلطات الأمنية.
وبالحديث عن التاريخ في ارتباطه بمفاهيم الهوية والوطنية، ألا تستحق باقي حقب تاريخ مغربنا العزيز الالتفات والتقدير أيضا؟ ألا تستحق معركة وادي المخازن مثلا تخليدا وذكرى وطنية بما يليق بقامهاها التاريخي، توازي على الأقل ذكرى “ثورة الملك والشعب”، وهي رمز لانتصار الأمة المغربية على أحد أعظم القوى الدولية في التاريخ الحديث؟ ألا يستحق ضريح أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مقاما يليق برمزية دفينه الذي يعتبر أول مؤسس للإمبراطورية المغربية العظمى التي شارفت بامتدادها الجغرافي شبه الجزيرة الإيبيرية شمالا ونهر السنغال جنوبا؟ .. ألم يكن لباقي الأُسر التي حكمت المغرب من مرابطين وموحدين ومرينيين ووطاسيين وسعديين طوال مئات السنين يد في تشكيل الهوية الثقافية والروحية للأمة المغربية ؟ لماذا يُراد لنا حصر وعينا التاريخي وولائنا لرموزه ووطنيتنا بالتالي في شطر بسيط من التاريخ بالقياس إلى ثراء أمتنا، ولن أبالغ إذا صرَّحت بأن جله كان عبارة عن خيبات ومهانة، ذلة وخضوع أمام العدو الخارجي (معارك تطوان وإسلي، توقيع معاهدة الحماية …) ، واستئساد على أبناء البلاد (حركات داخلية، قمع ثورة الريف …).
في النهاية أريد أن أؤكد على أن تاريخ هذه البلاد وعمقها الثقافي أكبر من أن يتم حصره في شخص أو مؤسسة بعينها، والولاء والوطني هو أعمق ما يكون عن سطحية هؤلاء المرتزقة الطفيليين المحسوبين على الجسم الصحفي، فالنضال الأصيل النابع من عمق قيم الوطنية والإخلاص والوفاء سلوك شريف تعصى على إدراكه تلك الحويصلات الضيقة التي لا يتجاوز سقف ولائها اليد العليا التي تحمل السوط، فضلا عن أدمغة تلك الكلاب المسلطة التي ليس لها أي ضمير أوعقل أساسا. فالوطن امتداد روحي متجذر نستنشق عبيره في تراب أرضنا التي سُقيت من دماء مُجاهدين ومناضلين كانوا مبدءا لوجودنا ..
ولا يمكن المزايدة في هذا الشأن أو التشكيك في حقيقته بسبب مواقف مبدئية من مؤسسات أو رموز عابرة …
بقلم ياسر جيد.