مقالات

إدريس النعيمي.. أحمد الحنصالي”أسد تادلة الثائر”

 استدارت الشمس ببطء معلنة عن مغيب يوم ربيعي مرصع بالخضرة هناك على سهول تادلة المجاورة لجبال الأطلس الشاهقة والمتشحة دوما بالبياض ، بينما أسرع الرعاة يهشون أغنامهم نحو قراهم البعيدة .

  وقد عمل الشريف سعيد الحنصالي شيخ زاوية أحنصال المشرفة على تلال أزيلال  بكل أمان في نشر العلم ومكارم الخلق بمقر زاويته ، بل كان ينظم خرجات لباقي القرى البعيدة لفض نزاع نشب بين الأفراد أو إذابة مفعول ثأر قديم قد يؤدي لنزاع وشيك..وقد ظلت الأحوال على ما هي عليه إلى أن تناهى لمسامع الأهالي  :

-أن النصارى قد اقتربوا من أحواز تادلة.

  كان خبر نزول النصارى بميناء آنفا ذات الخامس من آب/ أغسطس من العام 1907 م صاعقا حتى سمعت رجاته بعيدا بسهول تادلة النائية ، وبدا للشريف الحنصالي أن الغزاة هاته المرة:

– لم يأتوا للإغارة ، إنما للإمتلاك..

  شعر بذلك من الرسل التي جاءته من زوايا كانت قريبة من مكان نزولهم كما هو الشأن مع الزاوية الشرقاوية التي تستوطن قبائل أبي الجعد .

   أسرع الشيخ سعيد لعقد اجتماع مع أعيان القبيلة وشيوخها ورسمت خلال الاجتماع معالم خطة إغاثة قبائل الشاوية ، فأرسلت على الفور كتائب فرسان نحو آنفا ، وسرعان ما انضمت لقائد الأطلس موحى أوحمو الزياني الذي هب وجنوده لنفس الغرض ، تطير بهم خيولهم السريعة نحو مقر الجيش الفرنسي المسلح كما ونوعا.

     بدا واضحا تفاوت العدة والعتاد بين الجيش الغازي الذي اجتاحت قواته المتفوقة لوجستيكا وعتادا آنفا وسهول الشاوية بسرعة خاطفة ، رغم استماتة الزيانيين والتادلاويين في الدفاع عن الشاوية رفقة قبائلها ، ورأى أوحمو وسعيد الحنصالي أن مواجهة النصارى على سهول مفتوحة ضرب من الانتحار ، فالعدو يمتلك المدافع الكفيلة بسحق أي فرسان مهما بلغت شجاعتهم،لذا ارتسمت لهم خطة التراجع والتحصن بجبال الأطلس المنيعة.

 وهكذا عاد زعيم زاوية أمغار إلى نواحي أزيلال مدركا أن وصول النصارى لسهول تادلة هي مسألة وقت ليس إلا ، غير أنه كان مصمما على التصدي لهم مهما كان الثمن ، فلم يحجم عن إرسال معاونيه لتقصي أخبار العدو الآخذ في التقدم.

  كان قد مضى على سقوط فاس وتوقيع صك الحماية المشئوم العشر سنوات لما رزقت عائلة الشريف الحنصالي بمولود ذكر ، كان ميلاده على الأرجح منتصف ربيع 1922 م..اختير له من الاسم أحمد تيمنا بسيد الخلق ، وبدا أن الجد كان يتمنى لو يحمد ابنه هو كذلك بين رجالات تادلة وأبطالها ، وربما ستأتيه الأيام بما تمنى ولو بعد حين.

     كان أحمد  من ضمن شبان القرية الذين تستهويهم المغامرة بقطعانهم حتى تحاذي الجبال ، يركب في ذلك مخاطر شتى ، فيشتد معها عوده وتزداد شجاعته ، يواجه هو وأقرانه حينها ضواري الجبال وذئابها دون خوف ولا وجل ، إنه الحارس الأمين على قطعان جده الشريف سعيد الحنصالي ، هذا الأمغار الشيخ الذي يحظى بزعامة روحية بين أهالي تادلة لإشرافه على الزاوية الضاربة في القدم.

 وفي يوم من الأيام اجتمعت العائلة الكبيرة بمقر الزاوية حول شيخهم ،الذي بدا عليه المرض ، فقرب حفيده أحمد وأوصاه أن يستمر في نهجه في الدفاع عن القبيلة حتى طرد هذا الخطر القادم من عرض البحر ، لم يتكلم الفتى بل اكتفى بما كان يحدثه الجد من  ظلم  الغزو ومضراته  بالبلاد.

  سرعان ما داهم الفقر أحمد الحنصالي بعدما ضيق المعمر ومعاونوه الخناق على أهل القرى ، فلم يجد بدا بعدما فقد والديه ثم جده الذي كفله إلا أن ينتقل راعيا لأغنام عائلة آيت أورحو قرب بني ملال ، ثماني سنوات قضاها الشاب الراعي وهو يرقب بؤس الرعاة البسطاء وتضرر الفلاحين من جشع المعمرين الذي استولوا على أجود الأراضي محولين إياها لضيعات عصرية يمنع  دخولها.

   كان وهو يرعى غنمه ينأى   بها نحو الجبال لعله يتنفس الحرية المنشودة ، ثم تعصف به الأيام مجددا فيفلس صاحب الغنم ويجد الراعي نفسه بدون رعي ولا مرعى ..ثم يتوجه نحو بونوال حيث  استقر عند المسمى موحى والعيد راعيا ، لكن هاته المرة مستبدلا البقر بالأغنام كخماس على الفلاح المذكور.

  تحكي الروايات أن أحمد الحنصالي كان يحصل على خمس العجول المولودة ، لكن موحى قدم له في أحد الأعياد بقرة كهدية لعمله المضني ، كانت ذات لون يميل إلى الحمرة قد تسر من يراها ، ولعل ذلك ما سيجر على الحنصالي مصيرا سيقلب حياته رأسا على عقب.

   ذلك أن المخزني أوسعيد أوخلا كان قد كلفه أحمد بأن يبيع له البقرة التي أهداه الفلاح موحى ، لتخوف الحنصالي بأن يصادرها أحد المعمرين إن رآها .لكن اوسعيد هذا تنكر للحنصالي وهضمه حقه وقال له بصوت متعال :

– سير دعيني.

 لم يتمالك الحنصالي نفسه حتى انقض كالصقر على المخزني الذي كان مكلفا بحراسة المركز الفرنسي بالمنطقة ، تعارك الاثنان وسرعان ما طرحه أحمد أرضا ثم استولى على بندقية أوسعيد وصبها في صدر ذلك الذي اعتبره الحنصالي متعاونا مع النصارى .

   أدرك الحنصالي أن خبر مقتل المخزني سينتشر كالنار في الهشيم ، وأن القبض عليه سيقوده للموت بأبشع الطرق ، لذا قرر التحرك سريعا نحو الجبال القريبة ، ومن هناك أعلنها ثورة صارخة على المحتل ومعاونيه .

  ترصد الحنصالي للمعمرين قرب سد بين الويدان وفي يوم أطبق على سيارة فرنسية يركبها أربعة فرنسيين  ، صوب بندقيته نحوهما فأصاب معمر يدعى تسوتينو ووالدته بجروح قاتلة ، أما كون وزوجته فإصابتهما لم تكن بتلك الخطورة التي فرا فيها مختبئين  خلف الأشجار الكثيفة التي تحيط بالسد الكبير.كان ذلك في 13 عشر من آيار /مايو 1951.

  استولى الثائر الوحيد على سلاح الفرنسيين وانطلق يقتنص رؤوس المتعاونين الخونة ، ويترصد المعمرين ليذيقهم من نفس الكأس التي أذاقوها لأهل قبيلته زمن دخولهم لتادلة، كان وهو يتجول بين الجبال والتلال ينتقل بمسافات كبيرة وصلت إلى حدود 150 كلمتر ، لا يهمه سوى بث الرعب في النصارى الذي اعتبر من صميم قلبه أن لا حل معهم سوى لغة البارود.كان يقول :

-الاستعمار لا يمكن قتاله إلا بالسلاح.ويجب وقف تعامل بعض المغاربة الجبناء مع فرنسا.

  سرعان ما وجد الثائر الشجاع رفيقا له سيتقاسم معه نفس الأماني والأهداف ، كان اسمه ولد سميحة هذا الذي أعجب بقوة شخصية الحنصالي وعزم على البحث عنه وملازمته ، وهكذا التقى الرفيقان حيث كان يحلو لولد سميحة أن ينادي أحمد الحنصالي ب:

-أسد تادلة.

  صارا ينفذان عملياتهما باحترافية وسرعة خاطفة ، ثم يتوغلان في أعالي الجبال ويختبئان  حين تهدأ الجلبة ، ولم ينسى ولد سميحة أن يرسم الابتسامة على رفيقه حينما كان يقول له :

-أن بقرة الفلاح هي التي أدت بنا لحمل السلاح.

-وأن بقرة الحنصالي رفع رجلت رجال تادلة لنيل المعالي.

-وأن الحنصالي وولد سميحة، فعلوا في النصارى الفضيحة.

  كان ولد سميحة ينقل ما سمعه عن تفاخر سري للأهالي وهم يثنون على الأعمال البطولية التي روعت نصارى تادلة ومعاونيهم حتى كتبت الصحف الفرنسية عشرات القصص عن ” سفاح تادلة ” أو ” لص الجبال ” بينما جندت الإقامة العامة عشرة آلاف جندي وطائرة حربية تمسح أجواء الكهوف والمغارات أملا في العثور على الثائر الشبح.

 استمرت ثورة أسد تادلة في الانتشار ، طيلة شهرين كاملين ، ولم يمر اليوم أو اليومين إلا وترتعد معها فرائص النصارى حتى أمسوا لا يستطيعون الخروج إلا برفقة كتائب الجنود المسلحين ، ظل هذا الوضع قائما إلى ذلك اليوم الحزين 23 يوليوز من نفس السنة حينما ستقدم يد خائنة أسد تادلة إلى القفص الذي لن يغير من هيأته شيئا.

  ففي ذلك الصيف القائظ شعر الرفيقان بالعطش يهدد حياتهما ، فقادهما حدسهما نحو إحدى الخيام لطلب الماء ، غير أن هؤلاء الذين اختاروهم للجوار سيخونون العهد حالما تيقنوا بأن المكافأة كبيرة ، تلك التي رصدتها فرنسا على لسان البراحين  اللذين  ظلوا ينادون بأعلى أصواتهم كلما جاء يوم السوق :

-أن من يأتي برأس الحنصالي أو يدلي بخبر عنه سينال مليون فرنك كمكافأة…

   هكذا استغل أهل الخيمة استراحة الضيفين فسارعوا إلى شد وثاقهما ، ثم سرعان ما وصلت الأخبار لشيخ القبيلة الذي هلل بالخبر وطار به اللئيم نحو أسياده الفرنسيين .

  • لقد قبض على الثائر السفاح.

حينها هللت الصحف الفرنسية وعادت للمعمرين أرواحهم ، وسريعا تم نقل أسد تادلة ورفيقه الشيخ ولد سميحة  مكبلين نحو زنزانة ضيقة بأحد سجون القنيطرة ، حيث سيمكث الثائر الحنصالي في العذاب المهين طيلة السنتين من الزمن ، كانت بطيئة ورتيبة ، اكتفى خلالها أحمد بالصمت الطويل تعلوه غصة الخونة وترتسم في نفسه الثائرة أن خروج النصارى رهين بالقضاء على الخيانة أولا فهي الخنجر المسموم في خاصرة كل ثائر .

  هذا ما شعر به المناضل الكبير عبد الرحيم بوعبيد في نفسية أسد الجبال المعتقل ، حينما نطقت المحكمة الشكلية بحكم الإعدام رميا بالرصاص ، في يوم 16 فبراير من العام 1953 ، وبتلك السرعة التي جاء بها الحكم نفذت عملية الإعدام  في حق الحنصالي والشيخ الستيني ولد سميحة ، تم ذلك في ساحة السجن الرهيب في 26 من نونبر .

  كان ذلك الإعدام الأول الذي نفذ في حق المقاومين بتلك الصورة حتى يعم الرعب نشاط المقاومة المسلحة التي بدت سنة 1953 كذلك المشعل الذي ستنطلق منها الشرارة الأولى لنار الثورة.

  بدا أسد تادلة وهو يتجه نحو الكم راضيا على نفسه ، كله ثقة بعدالة قضيته ، أدى وصية جده الشريف على أحسن ما تمنى الجد في أشد أحلامه طموحا:”أن يخلفه حفيد من طينة أسود تادلة التي تزأر بأعلى صوتها  حينما يخدش كبرياؤها.”

-كان وهو يواجه الموت يبتسم حينما يتذكر أن مطعمه طيلة السنتين كان خبزا وزيتا ، تلك الوجبة الفطرية التي فضلها على طعام النصارى الحرام كما كانت تحلو له نفسه القول.

-وحده رفيق سجنه عبد الرحيم بوعبيد ظل يردد كلما تذكر ” الثائر الهادئ” كما سماه بالزنزانة الرهيبة :

*رحم الله أحمد كان وهو يودعني يقول :

– إلى اللقاء عند الله أسي عبد الرحيم .

   أنظر إليهم يا أحمد المغربي وهم خلف في الصورة الوحيدة التي التقطت لك :

-إن التعب قد نال من أحدهم حتى استلقى مهموما من فرط ما أرهقهم زئيرك خلف الجبال والوديان والتلال.

-إن نظرات الإعجاب بما قمت به من بطولة لتكاد تنطق بها عبيني ذاك الجنرال المنزوي على يسارك وهو يرمقك دون أن يبدي ما في نفسه خوفا على مصير مشابه لمصيرك .إنك تخيفهم حتى وأنت في قيدك موثق.

   أما أنت يا أحمد المغربي فشامخ كالجبل ، نحيف بجسمك الذي أكله السجن وما فترت القيود من عزيمة قلب خلق من طينة أسود الأطلس الكاسرة.

بقلم إدريس النعيمي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى