مقالات

علي المغراوي..مطلب الكرامة الأدمية هو الحق الخالد الأسمى

             رحم الله الامام المجدد عبد السلام ياسين، الذي نعيش هذه الأيام الذكرى الثامنة لرحيله، هذا الرجل الذي علم وربى وأسس وبنى مدرسة متجددة عبر الأجيال، وأثل لنا مشروعا فكريا متكاملا يغطي كل مجالات الانشغالات البشرية، مؤسسا بذلك لنظرية تغييرية تجديدية متوازنة ومتسمة بخاصيتي الربانية والمستقبلية، ولا شك أن الباحث والقارئ يستشعر مدى اهتمام الرجل بكرامة الإنسان الذي خلقه الله عز وجل فأحسن خلقه وصوره فأبدع في تصويره، وقد أفرد الامام رحمه الله مساحات شاسعة في كتبه وأديباته لموضوع الكرامة الأدمية وحقوق الإنسان، والملاحظ منهجيا أن الأستاذ عبد السلام ياسين يوظف مفهوم الكرامة الأدمية في العديد من كتاباته في إشارة واضحة لأصل الإنسان ونسبه الطيني الممتد لأبينا أدم عليه السلام، وفي ذلك تعبير واضح عن المرجعية المؤطرة لموضوع حقوق الانسان في الفكر المنهاجي والتي منطلقها الوحي، يقول الله عز وجل ،” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” [1] ويظل المقصد الأساسي من فلسفة التكريم الأدمي عند الإمام رحمه الله، هو تحرير الانسان من كل هوى وعبودية أخرى غير التعبد لله عز وجل، لذلك سعى الامام رحمه الله من خلال نظرية المنهاج النبوي التجديدية أن ينحت جملة من المفاهيم الأساسية التي تمتح من هذا المعين بغاية إرساء مداخل ومسالك تمكن البشرية من الخلاص الفردي والجماعي، وقد ظل هم تكريم الانسان شغل محوري تهمم به الإمام رحمه الله حرصا منه على أخرة هذا الانسان وحسن مصيره ودفاعا عن حقه الأساسي في معرفة حقيقة وجوده ومآله ومعناه ”هذا الإنسان الشارد من ربه الجاهل بخالقه لا تجد من يرفع عقيرته احتجاجا على هضم حقه الأول، حقه في معرفة حقيقة وجوده، ومآله، ومعناه“[2]،

ولا شك أن هذه المعرفة هي التي تبلغ به الكمال والرقي في أدميته وانسانيته، لذلك اعتبرها الإمام هي قمة حقوق الانسان التي ينبغي للحركة الحقوقية التغييرية المجتمعية أن تسعى إلى تحقيقها لأنها أس البنيان المعنوي للإنسان وهي جوهر وجوده والتعبير الحقيقي عن معنى سموه البشري” قمة حقوق الانسان هي حقَّه في بلوغ كماله، حقَّه في ذروة كرامته الآدمية“.[3]

هذا الحق في ذروة الكرامة الأدمية لا يكتمل له معنى بمجرد تحقيق الحقوق بكل أصنافها وفئاتها كما هو متعارف عليه في الشرعة الدولية لحقوق الانسان وفي أدبيات الفكر الحقوقي الذي تترجمه اليوم المئات من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المؤسسة لما يعرف بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، بل يجدر الإمام رحمه الله معنى الكرامة ويعمق فهم المعنى الانساني لوجود الانسان على الأرض بضرورة صيانة أسمى حق أساسي لهذا الإنسان وهو أبو الحقوق حقه في معرفة ربه عز وجل ”هذا هو حق الإنسان الخالد السامي الأسمَى: أن يكون عبدا لله عز وجل، عاملاً للقائه، آملا في جزائه وجنته، خائفاً من عقابه وناره. هذه هي كرامته الآدمية، كل حق يطالِبُ به ما دون ذلك من حقوق الدنيا فهو له حقٌّ شرعي إن كان نيلُه يقربه من غايته الأخروية.[4]،

ومن أجل بلوغ هذا المعنى الانساني  الرفيع، فكك الإمام رحمه الله منظومة العقبات التي تحول دون أن يدرك الانسان المعذب في الأرض هذه الحقيقة، وقد كشف رحمه الله بأدوات التحليل المنهاجي العميقة ومن خلال خطاب فكري وتربوي وإيماني أهم العقبات النفسية و العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحداثة، والتي تحرم الانسان من بلوغ مرام المقامات العلوية،  وتجرده من تاج وجوده وطود أدميته ومدلولاستخلافه في الأرض، كما أن هذه العقبات تركس الانسان في شهواته وملذاته وتدفعه في طاحونة الانتاج وماكينة التصنيع، وتغرقه في أسواق الاستهلاك إذا تعلق الأمر بسكان دول الغنى والرفاهية، أو تلفظه إلى هوامش الفقر والبؤس والحرمان والبطالة والاستعباد في ظل أنظمة الإستبداد والسلطوية، وفي هذا السياق يقول رحمه الله “فالحداثة تحرم الفرد من أقدس حقوقه: معرفة الله عز وجل والاستعداد للقائه، وتغرقه في سيل لا ينقطع من المنتوجات الاستهلاكية المتجددة، إذا كان مواطناً في بلد غني ديموقراطي أو تَغطِسُه في مستنقع البؤس والهم إذا كان مجرد “شيء” يستعبده نظام جبري متخلف“.[5] هذا الحرمان يفقد الانسان معناه وحقيقة وجوده وأجوبة مصيره بعد الموت، ولأن كانت الحداثة أغدقت على الانسان في الغرب حقوقا مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية وقدست الفرد وأحاطته بهالة من التعظيم في وجوده المادي وحريته الأرضية المغطسة له في قاع الأنانية والفردانية، فإنها لم تستطيع أن تغمره ببصيص من العطف والحنان والاحتضان الأخوي والمجتمعي الذي يشعره بكينونته الأدمية التي هي سر وجوده، ومن هذا المنطلق ينتقد الإمام رحمه الله الطرح الحقوقي الغربي القائم على هذه المسلمات ويقول “لولا أن الحقوقية الديمقراطية إن كانت تحمي الفرد من تعسف الحكام فإنها في الجَوِّ الحقوقي الجافّ -هذا لي وهذا لك في كزازة وشح نَفس وأنانية بخيلةٍ- لا تمتعه بالحنان الإنساني والعطف الأخوي الذي هو اللحمة العاطفية الدَّفِئة في المجتمع المسلم الحَيِّ بحياة الوَلاية الإيمانية والبذل الإحساني.الرباط الذي يصل الفرد بالجماعة رباط أخوة إيمانية، رباط بين أعضاء الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسهر[6].

ولتجاوز هذا الحال، يقترح الإمام المجدد رحمه الله على الإنسانية فكرا تجديديا مستقبليا يهدف إلى تحرير الإنسان من هيمنة الاستكبار العالمي وسطوته الاستعبادية لبني أدم التي امتدت بخيلها ورجلها على الشعوب والأمم، من خلال سياسات النظام العالمي المدمرة للإنسان والبشرية، والمتمثلة في حروب اقتصادية وعسكرية وسياسية، دمرت قرى محصنة وشردت شعوبا وقتلت أطفالا ونساء، وهجرت أمما وجوعت مساكن عديدة وصنعت فوارق فاحشة وطبقية مقيتة وقسمت العالم بمعايير مزدوجة، وأججت الصراعات والاقتتال الطائفي والديني، وفرقت بين بني البشر وأثخنت جراحهم وعمقت ألامهم، ولم تجني الانسانية من وراء هذه السياسات المحروسة إلا الخسران المبين، لذلك يؤكد الإمام رحمه الله  في هذا الصدد قائلا “إننا لا نرضى بهيمنة الدول العظمى على العالم، ولا باستعباد الإنسان وهضم كرامته وحقوقه الآدمية، ولا بطحن جسم الإنسان ووقته بين عجلات الإنتاج والاستهلاك، ولا بتشويه نفس الإنسان وحياته الفكرية والعاطفية بالثقافة المنحلة المخدرة العنيفة. يجب أن نصنع فكرا مستقبليا يلقي على آفاق هذا القرن الخامس عشر، قرن الإسلام بإذن الله، ومن بعده، نور القرآن ونور الهدي النبوي. يلقي على حياة البشر نورا به يميزون ما ينفع في الدنيا والآخرة، وما يضر في الدنيا والآخرة“[7].

[1] سورة الإسراء. الآية: 70.

[2]حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص: 217

[3]إمامة الامة،ص: 121

[4]العدل، ص: 319

[5]الاسلام والحداثة، ص :348

[6]الشورى والديمقراطية، ص: 49

 [7]المنهاج النبوي، ص: 33

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى