مصطفى شكري..قواعد نبوية في بناء مجتمع العمران الأخوي
نستعمل مفهوم العمران الأخوي مرادفا يقرن معنى الحضارة في عناصرها المادية ووسائلها المنفعية لمجريات الحياة، والتي تبغي “التفنن في الترف واستجادة أحواله” كما يقول الحكيم ابن خلدون، إلى معنى العمارة والعمران كما ورد بهما القول في القرآن الكريم بما يحمله العمران من دلالات عمارة المسجد إيمانا وتقوى وعلما، وعمارة الأرض خيرا وازدهارا، وعمارة العلاقات الإنسانية رحمة ورفقا وأخلاقا. وإنا نقف في الوريقات الآتية موقف تأمل واعتبار مع حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم نراه يؤسس لأربع قواعد كبرى لبناء مجتمع العمران الأخوي هذا.
فعن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَله، وقيل: قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثلاثا-، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: “يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”. الحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي.
أهمية الحديث هذا، إلى جانب كونه من مشكاة النبوة العطرة، تبرز أول ما تبرز أنه شهادة صادرة ممن كان أحد أحبار اليهود وكبار علمائهم، وهو يقول كلمة الحق والصدق في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تبرز من طبيعة السياق الذي ورد فيه الحديث، وهو هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقدومه على قوم غير قومه، فهو على هذا يضعنا أمام بداية التأسيس لمجتمع جديد يناقض مجتمع الكفر بجاهليته وأدرانها الشاملة فسادَ العقيدة، وفسادَ الأخلاق، وفسادَ العلاقات الاجتماعية، وفساد الحكم، ولا غرو أن يتم التركيز هنا على بيان الأسس العامة الموجهة للمجتمع الجديد، والتي يمكن أن نقرأ أنها مؤسسة على أربع قواعد أساسية هي:
القاعدة الأولى: إفشاء السلام
الله سبحانه وتعالى هو السلام لسلامته عز وجل من النقائص البشرية ولكماله المطلق جل وعلا بما اتصف به عز وجل مما لا يمكن نسبته إلى غيره.
وتحية أهل الإسلام السلام، وما حسدنا اليهود على شيء ما حسدونا على السلام والتأمين كما عند البخاري في الأدب المفرد. وتحية أهل الإيمان السلام يوم يلقون ربهم في الجنة دار السلام. وبتحية السلام يخرج المسلم من شعيرة الصلاة بعد أن دخلها بتكبيرة الإحرام، وهي ذكر المسلمين بعد الصلاة، فاللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
والسلام الطريق الموصلة للمحبة، والمحبة السبيل الموصل للإيمان، والإيمان طريق الجنة، فعند أبي هريرة قسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه “لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”. ثم إن السلام من آكد حقوق المسلم على المسلم، والمسلم الحقيقي من سلم الناس من لسانه ويده، بل إن معنى السلام متضمن كامن في الغاية الرسالية للإسلام للإنسان إسماعا للفطرة ودلالة على الله السلام.
بهذا نجد أن معنى السلام ذو بعدين متكاملين؛ بعد ذاتي تربوي إيماني خلقي، وبعد اجتماعي إنساني، إذ في عالم منكوب مكروب ما أحوجنا إلى أن نوسع من دائرة معنى السلام ليتجاوز الدلالة البسيطة إشارةً العميقة جوهراً القائمة على إلقاء كلمة ورد جوابها، ليشمل هذه الدلالة الحضارية التي تعمر الأنفس محبة، والأرض سلاما وأمنا في عالم الحروب المنظورة والخفية، كيف لا و“ما دخل العنف في شيء إلا شانه، وما كان الرفق في شيء إلا زانه”؟
القاعدة الثانية إطعام الطعام
إطعام الطعام وصف رباني لأهل الإحسان متى صدقوا الوجهة وجددوا النية ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله. وهو خصلة نبوية ووسم يكمل به الإسلام والإيمان، ومما يوجب الجنة حسن الكلام وبذل الطعام. بل هو من منن الله عز وجل الذي به يتحقق الاستعداد التام للعبادة فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. فهو على هذا صنو الأمن النفسي والذاتي والاجتماعي.
وإذا كان بذل السلام ذو طبيعة قيمية روحية، فإن بذل الطعام ذو طبيعة قيمية عملية، بيد أن النظرة الموسعة للمفهوم تتطلب أنه ليس المقصود من إطعام الطعام مجرد التصدق من منظور العطف على الفقراء والمساكين والمحتاجين، إنما المقصود هو التأسيس لنظام اقتصادي يمكن من توفير الغذاء للناس كافة، وعليه فهذا المعنى أكبر وأجل.
ولئن كان المعنى التربوي لإطعام الطعام دائرا حول تطهير النفس من الشح والبخل والأنانية، فإن المعنى الاجتماعي الحضاري واصل لأعلى مقصد بناء اقتصاد الكفاية بالعدل في قسمة الأرزاق وتحقيق التضامن والتآزر والتكافل الجماعي في عالم يسيطر فيه الطغاة على طعام العالمين ويبتزون به الإنسانية نظير مصالحهم الضيقة؛ فالطعام حق من الحقوق الطبيعية التي على الإنسانية التعاون فيها لا احتكارها، مع ما يقتضيه هذا الإطعام من مراعاة تامة لقواعد الجودة والصحة وعدم الإفساد في التربة والماء والمناخ وتأثير ذلك على معنى عمارة الأرض حفاظا على البيئة السليمة الموفرة لشروط العيش الملائم.
القاعدة الثالثة: هي صلة الأرحام
الرحم معلقة بالعرش تنادي: “اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني”، والله عز وجل هو الرحيم الرحمن الواصل عباده وخلقه بالمنافع العامة والخاصة، والجنة لا يدخلها قاطع رحم، وصلة الرحم موجبة للبسط في الرزق والنسيئة في العمر والأثر. وقد جمع القرآن بين دلالات العلو في الأرض فسادا وإفسادا وبين تقطيع الرحم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم.
إن صلة الرحم سلوك إيماني أخلاقي ذو معان متعددة بتعدد دلالة الرحم؛ فالرحم إنسانية عامة إذ ما البشرية إلا رحم واحدة من أبينا آدم وأمنا حواء. وما الرحم إلا قرابة عائلية أبوة وأمومة وما ينجم عنهما من
أخوة وبنوة وعمومة وما إلى غير ذلك. وهناك الرحم الإيمانية العقدية التي هي أوثق عروة وأشد آصرة من رحم القرابة العائلية. وهذا يفرض أن الإنسانية في جوهر الأمر تربطها رحم الأخوة في الخَلْقِ فوجب أن تضمها رحم الأخوة في الخُلُقِ لترتبط الرابطة الطينية بأزر الرابطة الأخلاقية فتتولد عن ذلك المحبة المسالمة لكل خلق الله.
إن البعد التربوي لمعنى صلة الأرحام جامع لسمات المحبة والتواضع وبسط الوجه وبسط ذات اليد، أما المعنى الاجتماعي العام فجامع لدلالات التأسيس لوحدة العلاقات الاجتماعية من داخل الأسرة ثم الحي ثم المواطنة القلبية الإيمانية بين المسلمين، فالمواطنة العالمية بأخلاقها الكوكبية المعمرة للأرض بأخلاق المسجد لا بأخلاق السوق.
القاعدة الرابعة: هي قيام الليل
وهو تجافي الجنوب عن المضاجع الوثيرة، ودعوة الخوف والطمع من وفي رب العالمين، وهو النهوض المنفك من أثقال الأرض إلى روح السماء وريحان التذلل بين الملك العزيز الغفار؛ فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كما يليق بمقامه العلي وبجلاله السني فيبسط يد الرحمة بالمغفرة والتوبة والرزق الوفير وبالعطاء اللامحدود ماديا ومعنويا.
وإذا كانت القواعد الثلاثة الأولى تفتل في حبل الإنساني الدنيوي وفي تنظيم البعد العلائقي للإنسان مع نفسه وغيره فإن القاعدة الثالثة تحدد الوجهة الموجهة للمراد والمقصود، فكل عمل لا بد فيه من القيام لله صدقا ونية حتى لا تكون فيه حظوظ النفس، ولا بد من التزكية والتوبة والإنابة والخشوع والخضوع لله عز وجل، ولا بد من الدعاء والوقوف والعكوف بباب الله لنيل رضاه وتحقيق المبتغى.
وإن تحقيق الغايات الثلاثة السابقة سلاما وتسليما، وطعاما وإطعاما للخلق، وصلة للأرحام وتفقدا لها، إن لم يكن لها بواعث قلبية إيمانية وروحانية أخلاقية فلن تؤتي مرادها، وإن آتته في الدنيا فلن يكون له أثر في الآخرة، ومن لا يستطيع الوقوف بين يدي الله ساعة في الليل أنى له أن يقف في أرض الخلق ساعات سبحا ومجاهدة ومنافحة. وكأني بالقواعد الثلاثة السالفة تمثل الأرضية المادية العدلية لمجتمع العمارة والعمران، بينما القاعدة الرابعة تجسد المنطلق الروحي الذي يجعل للسلوك الإنساني معنى في زمن ضياع المعنى وتفلته.
إن التأمل في الحديث الآنف يدعونا إلى إعادة التأسيس لفهم جديد متجدد، يجعل من هذه القواعد الأربعة أرضية للتفكير العميق لبناء تصور متكامل لمعنى العمران الأخوي باعتباره أساسا للمشروع المجتمعي الجامع بين حركية الفرد الإنساني تدرجا في مدراج الدين إحسانا، وحركية الجماعة البشرية في بلوغ مقاصدها الاقتصادية عدلا ورخاء