سعيد كفايتي..التعليم الحضوري والتعليم عن بعد في زمن كورونا خياران أحلاهما مر
كثيرا ما كنا نُشاهد، ونحن صغارا بعض أفلام الخيال العلمي التي رسخت في أذهاننا أن التقارب يكون سببا مباشرا في العدوى التي تصيب الإنسان، والتي تحملها في الغالب الأعم مخلوقات فضائية أو تنقلها بعض الحيوانات… ما كان يشدنا في تلك الأفلام هي الوضعية المزرية التي يعاني منها المريض المصاب بالداء، والذي يكون عرضة للإقصاء والتهميش يصارع مصيره لوحده دون أحد يرعاه، وقد كنا نتألم غاية الألم، ونذرف الدموع مدرارا، ونشعر بحسرة كبيرة جدا ونحن نراه يستقبل الموت بمفرده، لكن كنا كذلك في الوقت نفسه نحس بنوع من النشوة، ونحن نرى الأبطال الخارقين أو في بعض الأحيان بعض الشباب الموهوبين يبحثون عن الحلول، موظفين كل الأشياء المتاحة للحد من انتشار الوباء أو القضاء عليه. ومن هناك ترسخت لدينا قناعة كبرى لا تتزحزح أن الحل دائما موجود، ولا مكان للمستحيل. علينا فقط التركيز على الداء للوصول للدواء. وترسخت في أذهاننا قناعة أخرى أن أهم رأسمال في الكون هو سلامة الإنسان الذي به ومعه يتحقق الوجود. تذكرت هذه الصور القديمة التي أعادتني لطفولتي، ولسنوات خلت وأنا أتأمل بعين المراقب ما يجري في عالمنا اليوم. وما كنت لأتصور أن ما كان من نسج الخيال ومن إبداع المؤلفين والمخرجين سيصبح بعد عقود من الزمن واقعا يوميا.
لقد كان لوباء كوفيد 19 (كورونا) آثاره المدمرة جسديا و نفسيا بسبب ارتفاع مهول في عدد الموتى وتعطيل للإدارات والمصالح، وتوقف للأسفار والمؤتمرات والفسح وانهيار للاقتصاد… ناهيك عن توقف جل المشاريع التنموية في أغلب دول العالم. وبطيعة الحال توقف السير الطبيعي للتدريس بدءا برياض الأطفال مرورا بالمؤسسات التعليمية وانتهاء بالجاميات والمدارس العليا، واستطاعت الدول، بشكل غير متكافئ، تدبير هذه الأزمة غير المسبوقة فيما يُسمى بالتعليم عن بعد. لكن، لا يمكن تقييم التجربة المغربية تقييما صحيحا، ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نثق في بعض الانطباعات التي قد تُرضي أنانيتنا المفرطة، إلا أنها لا تكشف إلا عن جزء من الحقيقة.
إن الأمر الأساسي بالنسبة للجميع هو أن السنة الدراسية تم إنقاذها، وأن الجميع، وعلى الرغم من قلة الإمكانيات، وانعدامها أحيانا تجند من أجل ذلك. ونتذكر بكل فخر انخراط الأساتذة في التدريس عن بعد، مستثمرين كل الوسائل المتاحة من تلفزة وراديو وواتساب وفايسبوك وكوكل ميت وزوم وغيرها من المنصات التي لم يكن أي أحد يلتفت إليها قبل بداية الحجر الصحي.
غير أن الإشكالية العويصة التي أثارت و لا تزال تُثير جدلا بين الناس هي تلك القرارات المرتجلة التي خرجت بها الوزارة الوصية على التعليم، والتي يُمكن تلخيصها في أمرين اثنين: أولهما تأجيل امتحانات السنة أولى باكالوريا، وثانيهما وضع آباء وأولياء التلاميذ أمام خيارين: تعليم حضوري وتعليم عن بعد. بخصوص العنصر الأول كان قرار التأجيل مفاجئا، خاصة أن كل شيء كان جاهزا بما في ذلك بداية توصل التلاميذ بالاستدعاء لاجتياز الامتحان. من المؤكد أن عدم إجراء الامتحان في التاريخ المعلن عنه ينم عن حكمة بالغة. إذ سيكون من باب التهور المخاطرة بأرواح رجال ونساء المستقبل في ظل ارتفاع نسبة المصابين بهذا الوباء. غير أن الوجه الآخر السيئ من هذا القرار يتمثل في التمسك غير المفهوم وغير المعلل بإجرائه في وقت لاحق لا يزال في علم الغيب. كلنا يعرف أن تلامذتنا أنفقوا الدورة الربيعية والعطلة الصيفية كلها في التحضير للامتحان، وكانوا مُستعدين نفسيا لإجرائه في وقته لولا هذه الظروف الاستثنائية. فحالهم يُشبه كثيرا أولئك الذين قاموا بالتدريب على مدى أشهر، ولبسوا البدلات، ودخلوا ساحة المباراة، لكن فاجئهم المدرب في آخر لحظة بتأجيل المباراة. كان من الممكن الاكتفاء بنقط المراقبة المستمرة، لاسيما أنها لا تشكل سوى 25% من مجموع نقط الباكالوريا. ونحن على أية حال لسنا بأفضل من الدول التي اختارت هذه المقاربة. ما غاب عن الوزارة الوصية على التعليم هو أنها بهذا التخبط ستؤذي الصحة النفسية لآلاف من تلامذتنا.
أما العنصر الثاني فيكمن في أن الوزارة لا تزال متمسكة في أن يكون انطلاق الدراسة يوم 7 شتنبر 2020. والأدهى من ذلك أنها وضعت آباء وأولياء التلاميذ أمام امتحان صعب حينما فتحت في وجوههم باب الاختيار الملغوم ما بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد. لنكن متفقين بأن التعليم الحضوري لا يخلو من مخاطر. و لا أحد يمكن أن يتنبأ بمدى انتشار أو انحسار الوباء في الأسابيع المقبلة. و أغلب المؤشرات لا تبعث على التفاؤل. فلا يجب أن ننسى أن الكثير من مدارس التعليم الخصوصي هي أشبه ما تكون من حيث المساحة بالسكن الاقتصادي، وتفتقد أحيانا للشروط الدنيا للتهوية وللنظافة. فالمدارس الخاصة أصناف متعددة. تبدأ بالمدارس غير المصنفة وتنتهي بمدارس خمسة نجوم. وفي المقابل، من ميزات مدارس القطاع العمومي، إذا ما استثنينا بعض مدارس العالم القروي، هو مساحتها الكبيرة. غير أنها تعاني للأسف الشديد من الاكتظاظ. سيكون التعليم الحضوري في مأزق حقيقي، وسيكون من باب المغامرة غير محسوبة العواقب أن يُضحي الآباء بأرواح أبنائهم، وأن يعيشوا يوميا حالة من الهلع والرعب. فقد تابعنا جميعا تراخي شركات كبرى في الالتزام بالتدابير الوقائية، وما نجم عن ذلك من ظهور بؤر متناثرة هنا وهناك أفسدت نجاحاتنا الأولى في محاصرة الوباء، وتضييق مجال انتشاره. فما بالك ببعض مدارس القطاع الخاص التي قد تعتبر أي تدبير احترازي جديد عبئا عليها.
من غير المستبعد أن يكون وراء هذا الاختيار لوبي القطاع الخاص الذي يستنزف دون شفقة أو رحمة جيوب الالاف من الأسر المغربية. ونستحضر كلنا الارتباك الذي حدث السنة الماضية بخصوص أداء واجبات التمدرس حيث وصلت بعض فصوله إلى ردهات المحاكم.
أما التعليم عن بعد فمن إيجابياته أنه آمن، ويحمي الناشئة من أي خطر وبائي محتمل. لكن سيكون من باب المبالغة الادعاء بأنه يُمكن أن يحل في يوم من الأيام محل التعليم الحضوري. إن دوره في المسار التعليمي تكميلي صرف. وأولى الخطوات هي أن نخصص له في المستقبل القريب نسبة مئوية معقولة في الزمن المدرسي.
من المؤسف أن الوزارة الوصية على التعليم التي أشادت كثيرا بالتعليم عن بعد، وهللت له في كل الاجتماعات لم تقم بأي خطوة ذات بال لدعمه وترقيته. كان الأجدر بها أن تعقد اتفاقية مع كبريات شركات الحواسيب والبرامج، وأن تتحمل قسطا أساسيا من المصاريف، وأن تُتيح للتلاميذ والطلبة والمدرسين اقتناء هذه الأجهزة بأثمنة معقولة. وقد حدث هذا الأمر فعلا على يد أحد الوزراء في حكومة سابقة، وكانت النتائج مشجعة. وقد رأينا آنذاك أثرها الإيجابي على طلبتنا في الماستر. لا شيء من هذا تحقق.
ما الحل إذن؟ إن تدبير الأزمة لا يكون ناجحا إلا إذا تم فيه إشراك النقابات وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ وغيرهم. و لا يكون التدبير فعالا إلا إذا تم فيه الإنصات إلى المقترحات، والأخذ بالصالح منها. أما إذا استمرت الوزارة في الدفاع عن قرارتها، واعتبرتها نصا نهائيا لا يقبل التغيير أو التصحيح فسيعيش الآباء والأمهات حالة من التخبط والحيرة والخوف والترقب. ناهيك عن مشاكل الأداء التي ستطفو مجددا إلى السطح.
نحن، وعلى غرار الكثير من دول العالم، نمر بأزمة حقيقية الله وحده يعلم متى تنتهي، استطعنا أن نتجاوز الكثير من العقبات. لنربأ بأنفسنا عن الدخول في جدل عقيم، ولندافع عن تعليم مزدوج حضوري وعن بعد للجميع دون استثناء، ولنأخذ بمقترحات نخبنا. ولنكن أكثر حكمة فلنؤجل الدخول المدرسي لشهر عسى أن تظهر في الأفق بوادر الأمل…أو لنستهل العام الدراسي بالتعليم عن بعد لفترة لا تزيد عن بضعة أسابيع، نترقب ما تؤول إليه الحالة الوبائية. وبعد ذلك نقرر. فهل من مجيب؟
بقلم الدكتور سعيد كفايتي..أستاذ بكلية الاداب فاس سايس