حوارات

في حوار حصري مع أنباء24 .. البروفيسور العويسي يسلط الضوء على مشروعه المعرفي لبيت المقدس و جديد القضية الفلسطينية

في حوار جديد تستضيف الجريدة الالكترونية أنباء24 البروفيسور العويسي المقدسي في حوار جديد، يسلط فيه الضوء على واقع القضية الفلسطينية وجديد المشروع المعرفي المقدسي الذي يعتبر العويسي من مؤسسيه .

أولاً: من هو  الدكتور عبد الفتاح العويسي المقدسي حتى يتعرف عليك المتابع الكريم؟

عبد الفتاح هاجرت أسرته تحت تهديد سلاح العصابات الصهيونية من قريتهم زرنوقة بإقليم بيت المقدس عام 1948، وفي طريق الهجرة ماتت أخته صفية وأخته آمنة وأخوه علي. وبعد 11 سنة من النكبة وهجرة أسرته، ولد عبد الفتاح في خيمة لاجيء. وكبقية من شردوا من أرضهم وأخرجوا من ديارهم، عاش آثار نكبة 1948 في مخيم للاجئين الفلسطينيين الذي ولد وترعرع ودرس فيه، فذاق مرارة اللجوء وحياة القسوة والحرمان. شهد هزيمة حرب 1967 واستشهاد أخيه الأكبر هاشم (عبدالله) في معركة الكرامة مما ترك بصمات واضحة في حياته.

كما يعود الفضل بعد الله عز وجل، إلى الوالدين. حيث نقشت الحروف الأولى في حياتي، الوالدة – الحجه سارة رحمها الله تعالى – الفلاحة التي لم تكن تقرأ وتكتب– حيث كان لها الفضل بعد الله تبارك وتعالى في غرس حب المسجد الأقصى “مركز مركز البركة”في قلبي ووجداني، حيث ربطتني به برباط متين عندما كانت تأخذني للصلاة فيه، منذ أن كنت طفلاً صغيراً. فأقضي معظم الوقت ألعب في ساحاته، وأستمتع بالتدحرج على سجاد قبة الصخرة. وكانت تحدثني بما تعرفعن مكانة وأهمية المسجد الأقصى المبارك، ولاسيما صخرة بيت المقدس، فنقشت الحروف الأولى في تعليمي، وعلمتني كيف أكون مقدسي النبض والهم والألم، وأمنح حبي لأرض الأمل. كما منحتني مع الوالد – الحاج محمد رحمه الله تعالى – حبهما ودعمهما، وأرشداني إلى طريق النجاح من خلال التعليم والتعلم “لن نستطيع إستعادة أرضنا المحتلة إلا أن تتعلموا”، فعشقت بيت المقدس ومسجده الأقصى، عشقاً ملأ علي كل حياتي، وأضحى موطن فكري المحبوب، الذي تكحلت عيناي برؤيته طفلاً وشاباً، وزرعت فيه بذور الحب والأمل.

تخلصت من “عقدة الضحية” وأثبت أن من اغتصبت أرضه وطرد وأبعد وشرد من وطنه قادر على أن يحقق المستحيل. فآمنت إيماناً راسخاً بأن “لا شيء مستحيل”، وأن “الأحلام يمكن أن تتحول إلى حقائق”، عندما حولت هذا العشق والولع ببيت المقدس إلى رباط دائم ومستمر على ثغر من ثغور المسلمين المنسية: الثغر المعرفي، وإلى مشروع حضاري معرفي عالمي يشار إليه بالبنان وحقل معرفي جديد يعرف “بدراسات بيت المقدس”، الذي كانت بدايته من محراب المسجد الأقصى المبارك، عندما أكرمني رب العالمين بالتدريس الجامعي على مصاطب المسجد الأقصى، فأحاطني ولا زال ببركاته في جميع مراحل حياتي.

وفي هذه السنة (2020)، أكملت – بفضل من الله ومنته وتوفيقه – 34 عاماً من العمل الجامعي المتصل دون انقطاع في عدد من البلاد العربية والمسلمة والغربية. وخلال تلك السنوات من العمل الجامعي، توليت عدداً من المناصب الإدارية الأكاديمية الجامعية، والتي منها: رئيس قسم، ونائب عميد كلية، وعميد كلية، ومدير مركز بحوث، ومؤسس ورئيس معهد للدراسات العليا.وشغلت منصب أول أستاذ كرسي لدراسات بيت المقدس في المملكة المتحدة، ومؤسس ورئيس تحرير مجلة دراسات بيت المقدس. وحالياً، زميل الجمعية الملكية التاريخية في المملكة المتحدة، وأعمل أستاذاًللعلاقات الدولية في عدد من الجامعات البحثية العالمية المتخصصة، منها: جامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية (تركيا)، وبروفيسور متميزاً زائراً بجامعة شمال ماليزيا (ماليزيا). ولكنيأعتز بشكل خاص، أني عملت في عدد من الجامعات الفلسطينية في بيت المقدس المحتل، ولاسيما في جامعة الخليل (1986 – 1992)، وجامعة القدس التي درست طلابها على مصاطب المسجد الأقصى المبارك “مركز مركز البركة” لمدة ثلاث سنوات (1990-1992).كما أعتز بتأسيس جامعة ابن تيمية للمبعدين الفلسطينيين بمرج الزهور – جنوب لبنان (1992-1993).

وخلال تلك العقود الثلاثة، شاركت في عدد كبير من المؤتمرات الأكاديمية العالمية، ودعمت تطوير العديد من الأفكار المعرفية الحضارية من خلال إشرافي واختباري لعدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراة في الجامعات البريطانية والماليزية والتركية. وأشكر الله تبارك وتعالى أن أعانني على كتابة مايزيد على ثلاثين مؤلفاً مطبوعاً باللغتين العربية والإنجليزية، بعضهاترجم إلى لغات أخرى مثل الفرنسية والماليزية والتركية والأندونيسية. كما أشكره سبحانه وتعالى أن وفقني لتقديم عدد من الإسهامات المعرفية في مجال العلاقات الدولية والعمق الاستراتيجي وصناعة التاريخ المستقبلي، ولاسيما عدد من النظريات والنماذج في العلاقات الدولية، ومنها النظرية الجديدة في الجيوبولتكس “نظرية دوائر البركة لبيت المقدس”. وحصلتفي بريطانيا على عدد من الجوائز الأكاديمية والتقديرية، والتي منها: “وسام عمدة مدينة ستيرلينج” الاسكتلندية لعام 1999، ولقب “المقدسي” لعام 2005، و”الجائزة الخاصة للابتكار” لعام 2007، ولكن “جائزة اسطنبول للعلم” إحدى فروع “جوائز اسطنبول للعالم الإسلامي” في دورتها الثالثة لعام 2018،وهي أول جائزة أحصل عليها في العالم الإسلامي. فالحمد والشكر والفضل كله لله.

ثانيا: من المعروف أنك مؤسس المشروع المعرفي لبيت المقدس؛ كيف ولدت الفكرة  وكيف كان التعاطي معها من طرف الباحثين والدارسين؟

بعد أن حصلت على درجة الدكتوراة من جامعة إكستر ببريطانيا في بداية 1986، وعدت إلى مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة في صيف 1986، بدأ يراودني حلم تأسيس مشروع معرفي يخدم أرضنا المقدسة المباركة. وبدأت ملامح هذا الحلم في التبلور بشكل واضح عندما درَّست في عدد من الجامعات الفلسطينيةفي الضفة الغربية المحتلة مابين 1986 إلى 1992،ولاسيما في جامعة الخليلحيث درست مقرر”دراسات فلسطينية”، وكتبت عدداً مهماً من الكتب حول القضية الفلسطينية،ولاسيما الجزء الأول من “سلسلة الأساس في القضية” تحت عنوان “جذور القضية الفلسطينية: 1799-1923″، الذي تم تهريبه إلى داخل السجون الإسرائيلية وكان المعتقلون الفلسطينيون يدرسونه في حلقاتهم الخاصة. كما كان هذا الكتاب يدرس في عدد من الجامعات الفلسطينية.

ولكن بداية المشروع المعرفي لبيت المقدس كانت قبل أكثر من ربع قرن من البيت المقدس (المسجد الأقصى المبارك) “مركز مركز البركة” وينبوعها ببيت المقدس، وبشكل دقيق من على “مصطبة مدخل التسوية الشرقية” في المسجد الأقصى المبارك، التي تقع أمام مدخل التسوية الشرقية (المصلى المرواني)، وقريبة جداً من الكأس، ومن باب المغاربة. فلقد أكرمني رب العالمين “الفتاح العليم”بالتدريس عليها لمدة ثلاث سنوات (1990 – 1992) مقرر “بيت المقدس عبر التاريخ” بشكل عملي لطلبة كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة القدس، حيث جرى خلال عملية التدريس مسح لجميع معالم المسجد الأقصى المبارك، وأنتجنا مع طلبة وطالبات هذا المقرر مشروع “كنوز المسجد الأقصى” تم تصويره بتقنية ذلك الزمان على أشرطة فيديو، ولهذا بيني وبين هذه المصطبة علاقة عشق وحنين لا يعلمه إلا الذي خلقني. وأعد تلك السنوات الثلاث (1990 – 1992) من أجمل سنوات حياتي، كيف لا وقد نعمت بالعمل في ينبوع البركة “مركز مركز البركة”.

وخلال هذه الفترة (1986 – 1992)،كنت أتمنى أن يتمتأسيس مؤسسة معرفية متخصصة تتكامل مع الجوانب الأخرى للقضية الفلسطينية،ولكن الظروف التي كانت تمر بها فلسطين المحتلةولاسيما فترة الإنتفاضة الأولى (التي انطلقت في عام 1987) لم تكن تساعد على ذلك،حتى تم الإعلان في المسجد الأقصى المباركعن تأسيس رابطة علماء فلسطين،وكان لي شرف المساهمة في تأسيسها.وقامت الرابطة بتأسيسمجمع البحوث الإسلاميةوعينت أمينه العام. لكن الإبعاد الجماعي إلى مرج الزهور بجنوب لبنان عام 1992، حال دون إكمال مرحلة التأسيس، فتوقف المشروع في فلسطين.

وبعد انتهاء مدة الإبعاد (سنة كاملة)، وبعد الانتقال من لبنان إلى بريطانيافي بداية عام 1994 للعلاج – بعد المرض الشديد في جنوب لبنان – يسر “الفتاح العليم”تأسيس المشروعبعد أن بدأت بالتعافي صحياً، حيث قمت مع الزوجةبإنشاء “مجمع البحوث الإسلامية (إسراء)” في العاصمة البريطانية لندن – عاصمة الدولة التي احتلت الأرض المقدسة (1917-1948) ولعبت دوراً أساسياً ومركزياً في تأسيس “الدولة العازل/إسرائيل” فيها (1917-1948) – في صيف عام 1994(تحول اسمه لاحقاً إلى “مجمع دراسات بيت المقدس(إسراء)”)احتفالاً بمرور أربعة عشر قرناً على فتح المسلمين الأول لبيت المقدس. وربطت أبنائي وبناتي بالمشروعفساهموا بما في حصالاتهمبفتح أول حساب بنكي للمشروع في لندن، وعندما كبروا انضم اثنان منهم للمشروع(خالد – الذي حصل على الماجستير في دراسات بيت المقدس من جامعة أبرتيه دندي، ثم الدكتوراة من جامعة أبردين في دراسات بيت المقدس – وسارة  – التي حصلت على درجة الماجستير في دراسات بيت المقدس من جامعة أبردين).

إذ من يمن طالع هذا المشروع الحضاري المعرفي العالمي أن كانت بذرته وفكرته في مدينة خليل الرحمن (الخليل) في عام 1986، وبدايتهالعملية من محراب المسجد الأقصى المبارك “مركز مركز البركة” في عام 1990. ثم كانت انطلاقته الأولى من العاصمة البريطانية (لندن) في عام 1994م، حيث كانت الإنطلاقةبشخص واحد، ثم أسرته(زوجته وأبنائه وبناته)،وطلبته وطالباته، وبالتعاون مع عدة جامعات بريطانية في اسكتلندا. وبعد عقدين من الإنجازات في بريطانياوالإنتقال من مرحلة إلى أخرى ومن توسع إلى آخر، رسمت خطة استراتيجية جديدة لنقل ومأسسة المشروع وحقله المعرفي في العالمين العربي والإسلامي، وشرع في تنفيذها منذ عام 2007. ثم كانت الإنطلاقة الثانية للمشروع من المدينة التي بشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتحها (اسطنبول) عام 2014 ليصبح مشروعاً حضارياً معرفياً للأمة.

 

ثالثا: ما هي أهم أهداف المشروع ؟

كان تركيز المشروع المعرفي الدولي لبيت المقدس على العمل المعرفي المثمر المتواصل والدائم،وتقديم إسهامات معرفية أساسيةفي مجال تصنيع المعرفة المتعلقة بهذا الإقليم المقدس المبارك وإنتاجها ونشرها،وإعداد وتخريج وتشكيل جيل/جيش من الرواد والعلماء الشبان من المختصين الأكاديميين المحترفين على المستوى الدولي،وتكوين وتطوير قدرات وكفاءات أكاديمية على مستوى عالٍ.كما أن التخصص واستمرارية الرباط المعرفي وديمومته على الثغر المعرفي لبيت المقدسلتشكيل الرواية الإسلامية عن الأرض المقدسة، والتكامل مع المسارات الأخرى العاملة، وإشعال فتيل الثورة المعرفية لبيت المقدسوتسليم قيادتها للشباب – الذي يصبر ويصابر ويصمد في الإعداد المعرفي، ليقودوا عملية التغيير والتحرير القادم لبيت المقدس ومسجده الأقصى، وصناعة تاريخنا المستقبلي، برؤية واضحةوإعداد وتخطيط منظم ممنهج وعزيمة صادقة متواصلة، يرافقها صبر ومصابرة، ومتابعة – أهداف إستراتيجية للمشروع المعرفي لبيت المقدس حتى يحط رحاله في المسجد الأقصى المحرر، لتنطلق بعدها المرحلة الثالثة، مرحلة العمران.

ولتحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية، تعاون المشروع مع المئات من الباحثين والأكاديميين من مختلف الجامعات والمؤسسات البحثية العربية والإسلامية والغربية، ووقع العديد من إتفاقيات الشراكة وبروتوكولات التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية ومؤسسات المجتمع المدني.

فبفضل من الله ومنته وتوفيقه، تُصدر للمشروع مجلةٌ أكاديمية محكّمة وفريدة “مجلة دراسات بيت المقدس” باللغتين العربية والإنجليزية (أضيف إليهما مؤخراً اللغة التركية) منذ عام 1997، ويُعقَد له “مؤتمر أكاديمي دولي سنوي” منذ عام 1997 (عقد المؤتمر التاسع عشر في 12-13 أكتوبر 2019). فتم مأسسة المشروع ضمن مؤسسات التعليم العالي، فاستُحدِث لهذا الحقل المعرفي منصبُ “أستاذ كرسي لدراسات بيت المقدس” في بريطانيا عام 2001، وأُسِّس له مركز بحوث “مركز دراسات بيت المقدس” في بريطانيا عام 2002، وأُنشيء له برنامج تدريسي لمنح درجتي “الماجستير” و”الدكتوراة” في “دراسات بيت المقدس” بداية في الجامعات البريطانية – جامعة أبرتيه دندي ثم جامعة أبردين، وحالياً بجامعة شمال ماليزيا (للدكتوراة) وجامعة أنقرة للعلوم الإجتماعية (للماجستير).ولتشجيع الشبان الباحثين للتخصص في هذا الحقل، تم توفير عدد كبير من منح الدراسات العليا وتخريج عدد من الرواد والمتخصصين في دراسات بيت المقدس. فكُتب في مجاله 45رسالة ماجستير ودكتوراة في المملكة المتحدة باللغة الإنجليزية، منها: (12) رسالة دكتوراه، و(33) رسالة ماجستير. أما في ماليزيا، فلقد بلغت رسائل الدكتوراة التي أعدت بجامعة شمال ماليزيا (UUM) منذ 2014: 5 رسائل دكتوراة حتى بداية مايو 2020. كما أصدر المشروع العديد من الكتب الأكاديمية.

فأضحى للمشروع مكانته المعتبرة في العالم الأكاديمي إسلامياً ودوليًا، وبوزنه في الحياة الأكاديمية الإسلامية والعالمية. فما يعرفه القاصي والداني – من كل من درس وتعاون مع المشروع المعرفي لبيت المقدس، أو شارك في فعالياته المختلفة: من مؤتمرات أو نشر في مجلته الأكاديمية المحكمة – أن المشروع مؤسسة بحثية معرفية ملتزمٌ بأعلى المواصفات الإعتمادية الأكاديمية، وبالرؤية والرواية الإسلامية حول الأرض المقدسة. كما إنّ كل من يعرف أو يطلع على ما أصدره المشروع المعرفي لبيت المقدس، من كتب أو ما ينشره في مجلته الأكاديمية المحكمة، أو ما يقدمه في مؤتمراته وما يصدر عن هذه المؤتمرات من كتب، لا بد من أن يخرج بحقيقة بسيطة وواضحة وهي هوية المشروع المعرفي لبيت المقدسورؤيته الإسلامية.

فرؤيتنا ورسالتنا واستراتيجيتنا وأهدافنا ووسائلنا واضحة جلية، نتطلع من خلالها إلى المساهمة في التحرير القادم لبيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك، والمساهمة في صناعة تاريخنا المستقبلي. فعملنا (كفريق عمل) في المشروع المعرفي العالمي لبيت المقدس ليس عملاً موسمياً أو احتفالياً، أو ظاهرة صوتية، أو برنامجاً تلفزيونياً أو كتاباً يطبع أو دورة/محاضرة تلقى هنا وهناك، بل عمل جمعي ممنهج، يسير بعزيمة صادقة متواصلة، معتمداً على رب البيت المقدس ببيت المقدس، وعلى نهج قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فغايتنا رضا الله “الفتاح العليم”، ومنهجنا “التدرج في الخطوات”، وفلسفتنا “لا شيء مستحيل”، وسياستنا “صناعة الفعل”، و”الاستقلالية” و”التخصص والتكامل” مع الأبعاد والمسارات الأخرى للقضية وغير متنافرة معها. ونؤمن إيماناً راسخاً بأن المعرفة (بمعنى الإدراك) لا تقود إلى التغيير والتحرير فحسب، بل يجب أن تقود التغيير والتحرير والعمران، فهذا ما نتعلمه من القائد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حركة التاريخ – بما فيها التحرير الأول والثاني. ونؤمن إيماناً عميقاً بأن العلم ليس للعلم، بل العلم الذي يوصلك إلى الفهم (المرتبة الثالثة)والذي يؤدي للعمل،والمعرفة ليس أن تعرف بل المعرفة التي توصلك إلى الإدراك (المرتبة الخامسة) والتي تؤدي للتغيير. ولهذا فإن شعار المشروع المعرفي لبيت المقدس “المعرفة تقود التغيير والتحرير والعمران” وليس المعرفة تقود إلى التغيير والتحرير والعمران. وقناعتنا أن العمل الفردي للبيت المقدس ببيت المقدس– على أهميته – لن يكون مجدياً على الأمد الطويل، فلا بد من التفكير الجمعي والعمل الجماعي المنظم والتكامل مع المسارات الأخرى التي تعمل للتحرير القادم لبيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك.

فالحمد و الشكر و الفضل كله لله، الذي أكرمنا  بهذه النعمة العظيمة – نعمة الرباط الدائم خلال العقود الثلاثة الماضيةعلى الثغر المعرفي لبيت المقدسالذي أغفلته الأمة في المائة سنة الماضية. وأؤكد أن هذا الرباط، بركة وسعادة ومتعة بل لذة لا يعرفها إلا من ذاق حلاوتها.

رابعا: كيف تنظر لصفقة القرن ولبعض خطوات تنزيلها على الأرض؟

القضية المركزية للأمة تتعرض إلى صراع حضاري عنيف، وأخطر مؤامرة في تاريخها الحديث والمعاصر، ولاسيما بعد فشل الموجة الأولى للتغيير في المنطقة. ومع الأسف إتفاق ترمب – نتنياهو الذي يعرف بصفقة القرن – والذي بدأ بتنفيذه قبل الإعلان عنه رسمياً، حيث كانت أولى خطواته إعلان “القدس” عاصمة أبدية للشعب اليهودي، وما تبعه من نقل السفارة الأمريكية إليها – كانت ردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية عليه باهتة وضعيفة وعاطفية.

وهذا يؤكد الحاجة الماسة لكي تقوم القوى الحية في الأمة بإعطاء أولوية للرباط على “الثغر المعرفي” وإلى تبني سياسة التخصص والتكامل مع الأبعاد والمسارات الأخرى لقضية الأرض المقدسة وغير متنافرة معها، وضرورة التعاون بين “المعرفة”، و”السلطة الراشدة” بين أبناء الأمة بما يتناسب مع زمانها ومكانها والظروف المحيطة بها، “فالأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان”، ليكتمل العقد، ولنسير مع العاملين في المسارات الأخرى والمرابطين على ثغورهم إلى وعد الله “الفتاح العليم”.

كما يوضح أن الأمة في زماننا الذي نعيشه، بحاجة ماسة إلى العلم الذي ينفعها لتعمل على تحرير بيتها المقدس (المسجد الأقصى) ببيت المقدس (الأرض المقدسة). وهذا يوجب ربط ما حدث ويحدث وسيحدث في منطقتنا العربية من حراك بالتحرير القادم للمسجد الأقصى المبارك، وتوجيه البوصلة نحو بيت المقدس ومسجده الأقصى، وضرورة التحالف بين المعرفة والسلطة الراشدة للقوى الحية لأمتنا، ونأخذ العبرة والدرس مما قاله صلاح الدين الأيوبي لجنوده يوم جمعة التحرير (27 رجب 583 هجرية، 2/10/1187م) “لا تظنوا أني فتحت البلاد بسيوفكم، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل”. وفي هذه العبارة يشير صلاح الدين إلى عبد الرحيم البيساني – الذي كانت شهرته “القاضي الفاضل” – الرجل الثاني في الدولة بعد صلاح الدين الأيوبي. وهذا يكشف بوضوح التحالف الوثيق بين: المعرفة الممثلة بقلم القاضي الفاضل – الذي لقب بمحي الدين – والسلطة الممثلة بالقائد السياسي والعسكري صلاح الدين الأيوبي – الذي لقب بالناصر.

فالأمة إذا بدأت تفيق من سباتها وتعود إلى ربها وتمتلك القوة، وفي مقدمتها قوة المعرفة – التي تمتلك دور ريادي ومحوري في قيادة التغيير والتحرير والعمران – فإن حركة التاريخ تعلمنا، أن تغيير موازين القوة لصالح الأمة يمكن أن يحدث في زمن قياسي، في بضع سنين بإذن الله سبحانه وتعالى – الذي من أسمائه “الفتاح العليم”.

خامسا: ما هي رسالتك للأمة العربية والإسلامية؟

ما جرى ويجري وسيجري في منطقتنا العربية هي إرهاصات تنبيء عن مبشرات للتغيير والنهضة في منطقتنا العربية والإسلامية. فبعض التحركات التي تشهدها المنطقة حالياً والتي تمهد للموجة الثانية للتغيير، تشبه الظواهر التي تسبق الزلزال الذي سيضرب منطقتنا بقوة وسيكون له تداعياته على منطقتنا العربية، وإعادة رسم الخارطة السياسية والجيوبولتيكية لمنطقتنا خلال العقد الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين، وينهي مرحلة الزلزال الذي ضربنا عام 1948 وارتداداته المدمرة التي مزقت أشلاءنا وقطعت أوصالنا وأضعفتنا إلى حد أفقد كل عاقل صوابه وجعلت الحليم منا حيران.

فمن خلال التركيز على القراءتين: النظرات في “الكون المنظور”، والعبر في “الكتاب المسطور”، أعدت التأمل في كتاب المولى عز وجل المسطور (القرآن الكريم)، ولاسيما سورة التين، وسورة الإسراء وسورة الكهف وسورة مريم، ووسعت مداركي في النظر في كتاب الله المنظور (الكون)، ودراسة حركة التاريخ والجيوبولتكس، وما يجري من تطورات متسارعة في العالم، ازددت يقيناً، بل عين اليقين، باقترابنا من تحقيق وعد الله تبارك وتعالى.ففي ضوء الظروف المحلية والإقليمية والدولية المتسارعة، فإن الوباء العالمي (كورونا)– كوفيد 19 – قد يسرع من حالتين محوريتين: عودة الأمة إلى ربها وإلهها وخالقها سبحانه وتعالى بالفرار إليه “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (الذاريات: 50)، من خلال التضرع إليه “فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ” (الأنعام: 42)، “أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ” (الأعراف: 94)، والرجوع إليه “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (الروم: 41). وفي المقابل، فإن هذا الوباء العالمي قد يسرع من حالة الركود والكساد الإقتصادي العالمي، الذي سيؤدي إلى أزمة إقتصادية عالمية، تقود إلى حرب كونية كبيرة تغير الخارطة الجيوبولتيكية للعالم، وتؤدي إلى ظهور قوى محلية وإقليمية جديدة.

ومن ناحية أخرى، عندما أعدت التأمل في سورة الإسراء– على سبيل المثال –  وجدتها لا تتحدث فقط عن التحرير القادم للأرض المقدسة ومسجدها الأقصى المبارك، فهذا وعد الله “الفتاح العليم”، الذي لا مراء فيه ولا جدال، وهو واقع لا محالة، طال الوقت أم قصر. ولكني وجدتها ترسم – كذلك – معالم الإنبعاث الإسلامي العالمي الثاني، وانطلاق الفتح الإسلامي العالمي القادم، وأستاذية العالم من الأرض المقدسة (بيت المقدس). فالآية الأولى في صدر سورة الإسراء – التي افتتحت بالتسبيح “سبحان الذي أسرى” واختتمت بالتكبير”وكبره تكبيرا”- رسمت للمسلمين المستضعفين في مكة طريق الوصول للعالمية، وأوضحت لهم آثار الموقع الفريد للأرض المقدسة (بيت المقدس) على بقية أنحاء العالم في الإطارين التاريخيوالمعاصر والمستقبلي، من حيث كونه مركز البركة والأمل والتغيير العالمي، وأرست أسس نظرية جديدة للجيوبولتكس “نظرية دوائر البركة لبيت المقدس. فرحلة الإسراء كانت بالفعل بداية العالمية الأولى لرسالة الإسلام، ونقطة تحول فاصلة، والخطوة الأولى نحو تغيير الواقع ليس في الأرض المقدسة (بيت المقدس) فحسب بل في العالم بأسره.وهذا ما سيحدث بإذن الله بعد التحرير القادم للأرض المقدسة (بيت المقدس).فلن يتوقف الأمر عند التحرير القادم لبيت المقدس وزوال الإحتلال الصهيوني، واختفاء دولته من الخارطة السياسية للمنطقة في السنوات القليلة القادمة، بل سيصبح هذا التحرير القادم، نقطة التحول الفاصلة في التاريخ المستقبلي بشكل عام، وفي تاريخ العرب المسلمين المستقبلي بشكل خاص، حيث سيتم إعادة رسم الخارطة السياسية والجيوبولتيكية لمنطقتنا خلال العقدين الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين، وسيبرز العرب والمسلمين كقوة حقيقية ولاعب مؤثر على الساحة الدولية. ومن “مركز البركة” الأرض المقدسة (بيت المقدس)، سينطلق الإنبعاث الإسلامي العالمي الثاني، والفتح الإسلامي العالمي القادم، بإذن الله “الفتاح العليم”.

كما أن الأحداث والمتغيرات السريعة والمتسارعة في العالم وبشكل خاص في منطقنا العربية تجعلني أكثر تفاؤلاً، وتزيدني يقيناً بل عين اليقين، بأننا نسير نحو تحقيق وعد اللهالقوي العزيز. فالمشروعالإستعماري الاستراتيجي الغربي في منطقتنا العربية، المتمثل في “الدولة العازل/إسرائيل”وصل هذه الأيام إلى أعلى درجات علوه وفساده، برعاية ودعم مباشر من “حبل الناس”، الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية وأدواتها الإقليمية الذين يدفع بعضهم الجزية لها، ولاسيما أعراب دول/”دويلات القبيلة” من أنظمة الإستبداد والإستعباد والفساد والتبعية في المنطقة العربية، التي يرتبط وجودها العضوي بها. هذا المشروع الإستعماري “الدولة العازل/إسرائيل” اكتملت دورته ووصل ذروته، وسيصل إلى نهاية صلاحيته ونهايته/زواله التي سيسبقها ويتزامن معها، نهاية/زوال الأنظمة العربية المرتبطة عضوياً بهذا المشروع، وبعض الدول/الدويلات العربية من الخارطة السياسية لمنطقتنا العربية في بضع سنين..

هذا اليقين بل عين اليقين ليس جديداً. فقبل 29 عاماً – عندما كنت أعيش في أرضنا المقدسة المباركة – تحت الإحتلال الصهيوني، كتبت أثناء الإنتفاضة الأولى في عام 1991  – كعبارة بارزة في كتابي جذور القضية الفلسطينية: 1799-1923 الذي صدر في مدينة الخليل المحتلة بطبعته الأولى في عام 1991 وطبعته الثانية في عام 1992″على أرض الإسراء فقهنا جِديّة الأهداف وخطورتها وحقيقتها، وعرفنا طبيعة التحدّي ونوعيّته. وفيها سيتقرّر المستقبل العربي والإسلامي.. ومنها سينطلق الفتح الإسلامي العالمي الثاني”. واليوم – في عام 2020 – أكتب “إلى جيل الإنتصارات والتحرير والفتوحات الذي أراه يقيناًقادماً ومعيداً لأمتنا كرامتها وعزتها ومجدها ومكانتها بين الشعوب والأمم والدول، ومنطلقاً من بيت المقدس نحو الفتح الإسلامي العالمي القادم، والإنبعاث الإسلامي العالمي الثاني بإذن الله “الفتاح العليم”.

سادسا: كلمة أخيرة؟

في ضوء الظروف المحلية والإقليمية والدولية المتسارعة، فإننا نشهد منذ عام 2017/2018 أحداثاً تمهيدية مجلجلة متصاعدة، تتصاعد وتيرتها وتشتد سنة بعد أخرى حتى تصل ذروتها في بضع سنين بحدوث الزلزال القادم الذي سيضرب منطقتنا بقوة. هذه الأحداث في مجملها تسرع بنا الخطوات، وتجعلني – أكرر مرة أخرى – أكثر تفاؤلاً وتزيدني يقيناً بل عين اليقين، بأننا نسير نحو تحقيق وعد الله القوي العزيز، وزوال هذا الكيان المحتل للمسجد الأقصى المبارك وأرضنا المقدسة المباركة.فالمشروع الصليبي الإستعماري الغربي (الدولة العازل/إسرائيل) اكتملت دورته ووصل إلى ذروته ونهاية صلاحيته، ومعه العديد من الأنظمة العربية المرتبطة عضوياً بهذا المشروع. وموعدنا إن شاء الله تعالى في “صلاة الفتح” في المسجد الأقصى المحرر فِي بِضْعِ سِنِينَ“لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” (الروم: 4-7)”

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى