في حوار حصري مع أنباء24..محمد ظريف يسلط الضوء على عدد من القضايا الأسرية المرتبطة بفترة الحجر الصحي
في حوار جديد، يستضيف الموقع الالكتروني أنباء 24 الأستاذ محمد ظريف الاستشاري الأسري و ذلك لتسليط الضوء على عدد من القضايا الأسرية المرتبطة بفترة الحجر الصحي .
1- هل صحيح أن فترة الحجر الصحي قد أفرزت العديد من المشاكل في التعامل مع الابناء؟
بعد انتشار وباء حَمَّة كورونا (فيروس مصطلح لاتيني) وكذلك تحذيرات منظمة الصحة العالمية، قرر المغرب فرض الحجر الصحي حفاظا على أرواح الناس وتجنبا لتفشي الوباء ليجد الجميع أنفسهم أسبوعا قبل حلول فصل الربيع في حالة غير مسبوقة من حظر التجول وتقليل الحركة.
ولم يستثن من هذا الوضع الأطفال والشبـاب في سن التمدرس حيث بات من اللازم ممارسة نوع جديد من التحصيل المعرفي يتم بواسطة وسائل سمع-بصريــة عبـر الشبكة العنكبوتية من خلال منصات معتمدة من طرف الوزارة أو بشكل خاص للمؤسسات التعليمية اصطلح عليه : “التدريس عن بعد”.
من دون استعداد أو إعداد قبلي وجد الآباء والأمهات أنفسهم في وضع غير طبيعي، فبينما كانا يجالسان صغيرهما سويعات قلائل – إن لم أقل دقائق – يوميا لتلقينه مجموعة من المبادئ التربوية ويواكبا سيره الدراسي من خلال التمارين المنزلية، أصبح لزاما عليهما ارتداء قبعة المعلم ومحاولة تلقينه أساسيات التعلم المدرسي من خلال الدروس التي يحاول المعلم الرسمي إيصالها جاهدا من الضفة الأخرى لمنصة التواصل المستحدثة خصيصا لهذا الغرض.
فبدأت تظهر حالات اضطراب واضحة على المستوى النفسي والاجتماعي والتواصلي بحيث عبر بعض الآباء والأمهات وكذا المعلمون عن فقدان السيطرة تماما لدرجة أن منهم من طلب إغلاق المنصات التواصلية والبعض الآخر طالب بتدخل خبراء في مجال التربية بينما فئة أخرى عبرت عن امتنانها لهيئة التدريس واعترفت بحجم المعاناة التي يتكبدها الأطر التربوية في حياتهم المهنية اليومية الشاقة.
من جهة أخرى نجد أن حالة الوهن والخمول والعزوف التي أصيب بها معظم الأطفال والشباب لأسباب متعددة، تجعل من الحجر الصحي ملاذا للاستقلال بذواتهم وتقديم المبررات لحالتهم بممارسة أنواع من التنكر والتنصل ويلجؤون إلى التمرد على مجموعة من الثوابت المجتمعية والنواميس الكونية، فيُحْيون ليلهم وينامون نهارهم، يمارسون لعبة التخفي في دهاليز الألعاب الافتراضية أو مشاهدة أفلام الرعب والخيال، بل منهم من أسس لنفسه برجا عاليا في سماء مراهقة مهروسة بعصا الجهل وصراع الأجيال.
والحالة هاته، نجد بزوغ مجموعة من الأمراض المجتمعية التي تخدش في أساس بناء الأسرة نذكر من أهمها سوء تدبير العملية التربوية خلال هذه المرحلة. فتصدح الإذاعات السمعية والمرئية يوما عن آخر في برامج خاصة بتصريحات لضحايا هذا النوع من التعامل الشاذ في هذه الوضعية الشاذة أصلا. ويبقى السؤال معلقا في انتظار من يجيب : كيف السبيل للخروج من هذا المأزق العابر الذي قد يترك آثارا لا تمحى؟
2- هل هذه المشاكل مرتبطة فقط براهنية الوضع أم أنها مشاكل دائمة؟
في حقيقة الأمر، هذه الأمراض لم تنشأ بسبب الحجر الصحي بل إن هذا الأخير كان فقط وسيلة لإظهارها للعلن بدل البقاء مستترة تنخر في جسد الأسرة وتنهش لُحمة المجتمع.
ولهذا وجب التطرق إلى مسألة مهمة قد تكون من أهم أسباب نشوء مثل هذه الخوارم في صرح نواة المجتمع وهي أن كلا من المربي – أبا كان أو أما أو معلما – والمربى – ابنا كان أو تلميذا – كانا مشغولين عن هاته الفلتات التي لا ترى بعين مجردة من أساسيات التربية القويمة بأعمالهما الروتينية يدفنان فيها أحزانهما ويغسلان فيها همومهما.
فجأة وعلى حين غرة تنكشف الحجب وتنقشع الغيوم المتلبدة حينا من الدهر على البصيرة لترى الواقع المر في عجز كلي عن إيجاد الحلول الناجعة والأساليب المفلحة للخروج بأخف الأضرار دون اللجوء إلى التعنيف الذي ينم عن قصور وعدم نضج في الرؤية الإصلاحية والتربوية. نوع من اللامبالاة يجثم بثقله على مقومات الأسرة الصحيحة ويظل رابضا على عتبة كل محاولة نهوض أو إصلاح.
لقد كشفت فترة الحجر الصحي عن خلل كبير في المنظومة التربوية بحيث صرنا نرى أشرعة الود الزواجي تتمزق بريح الجفاء، وصَواري الترابط الأسري تتكسر بهبة ريح الكبرياء والأنانية انتصارا للذات، فتسقط الأقنعة تِباعا وتزول الطلاءات المؤقتة سِراعا.
كل هذه الأمور تدل على سوء منطلق وقلة فهم وانعدام خبرة في الحياة الأسرية ومؤسسة الزواج باعتبارها اللبنة الأولى التي تتأسس عليها كل الدعامات المجتمعية الأخرى.
3- كيف يمكن تجاوز هذه الصعوبات والتحديات التي طفت على السطح في علاقة الآباء بالأبناء؟
هذا الشرخ التربوي والبتر الجلي في رتق نسيج المجتمع لن يلتحم دون العودة إلى الأصول التي سُطرت منذ الأزل لبني الإنسان. الأب من موقعه كأب وليس كصانع خبز يسد الجوع وثوب يقي من الحر، والأم من مركزها كأم وليست كمسؤولة الطنجرة ومديرة المكنسة، والمعلم من زاويته كمعلم وليس كأجير على عتبة “المناهج” يمد يده لمن يدفع أكثر.
لم تكن الصعوبات يوما من المثبطات، بل على العكس، فهي بمثابة وقفات للتدبر والتفكر في كيفية اجتيازها أولا، ثم محطات للتزود بالطاقة والوسائل التي تسهل الحياة فيما بعد. ألم يخبرنا الله عز وجل في سورة البلد بأن الإنسان قد خلق في كبد ؟ بدايته في الدنيا معاناة، وعيشه فيها مكابدات بما فيها من أحزان ومسرات وأوجاع وملذات، وعند الموت آهات وأنَّات وسكرات …
ليس علينا إذن الانشغال بالمشاكل بقدر ما يجب علينا الحرص على عدم تحولها إلى أزمات، لأن هذا هو ما يقرض في حبل الأسرة المتين ويفتح مصراع الباب للشياطين، فتُهد الصروح التي بنيت على أنقاض أطلال السابقين وتنبت الحسرة بدل اليقين ويستسلم الراعي المسكين لذئب هجين يفتك بأنياب تطور مزعوم وانحلال مسموم بما تبقى من رعيته التي حُكم عليها أن تذوب أصولها وتنحلّ أوصالها.
وقد بين الشرع الحكيم في العديد من المناسبات كيفية تجاوز هذه العقبات من خلال ممارسة العملية التربوية على يُسرها، فنجد أن على الوالدين ربط نشئهما بالله تعالى أولا وأخيرا، كما قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه ويحذره من الشرك لكونه أعظم الظلم. فمن كان قلبه بالله عامرا واستيقن كُنهَ وجوديته وربوبية إلهِه لاستحال تغيير فطرته السليمة.
متى استوعب عقلُ الطفل والشاب مفهومَ الشرك والرقابة الإلهية هان عليه ممارسة الحياة بشكل آمن وأمين، لا يَظلم ولا يُظلم. بَيْدَ أننا صِرنا نرى أبناءنا في منأى عن هذه المرتبة وبعيدين كل البعد عن تيقنها لسبب بسيط، هو أننا أشغلناهم بالدنيا التي اختزلناها في تحصيل دراسي عقيم وشهادة جامعية لا تفتح لهم أقفال الحياة الحقة، وجعلناهم يعتقدون أن بر الوالدين طاعة عمياء وغيرنا مفهوم الحياء فأقنعناهم بأن الحجاب مظهر، وفتح المظلة منكر في غياب المطر، وأنهم ملوك في بيوتٍ ظِئَر.
أول ما على الآباء فعله تجاه هذه الفلتات التربوية، بعدَ الوعي بها، هو العمل على إصلاح ما أفسدته وذلك من خلال :
– بناء ومد جسور التواصل والحوار البناء بين الوالدين من جهة ومع الأبناء من جهة أخرى، ولا يكون الحوار فعالا إلا إذا تجرد من صفات التعصب للفكرة والتمسك بالرأي.
– تلبية الحاجيات النفسية والاجتماعية للأبناء دعما لبناء الثقة في النفس والتزويد بطاقة الحنان التي إن غابت يتم البحث عنها خارج أسوار الحصن لدى بائعي الهوى الفاسد والحب المزيف.
– الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة من منجزات الأبناء نظرا لأهميتها لديهم وحرصا على استمرارها وتحسينها.
– استعمال كلمات الشكر والثناء لأنها تقوي أواصر الترابط الأسري وتكون حافزا للعطاء والبذل.
– عدم اللجوء إلى التوبيخ والنهر مهما بلغ الخطأ والاكتفاء بالتوجيه السليم لتفادي الوقوع فيه مرة أخرى بدافع حمايته والحفاظ عليه.
– الابتعاد عن العقاب اللفظي والجسدي لعدم وروده في أي شريعة وأيضا لثبوت عدم جدوى اللجوء إليه، بل اتضح بعد مجموعة من الدراسات أنه سبب مباشر في مجموعة من السلوكيات الخاطئة التي تقض ظهر الأسرة والمجتمع.
– نهج أسلوب الانسحاب التربوي، بمعنى أن الأب والأم على حد سواء يمارسان نوعا من الرقابة الغير لصيقة، فلا يحشران أنفيهما في كل أفعال الطفل ولا يتجاهلان دورهما كموجهين مربيين فيمنحانه مساحة للخطأ الذي منه يتعلم الصواب ويكونان على أهبة الاستعداد متى تبين أن هناك خطر محدق.
4- هل للعلاقة بين الزوجين تأثير على العلاقة مع الأبناء ؟
في البيت المسلم يترعرع الولد الصالح، مرورا بالمدرسة كمؤسسة داعمة، انتهاء بالمجتمع الذي تقطف في موسمه ثمار جهد الأمس القريب. جيل يصنع من الفَوْتِ حياة .. جيل قوي .. جيل كفء .. جيل أصيل .. جيل يستقي من ينابيع التربية السليمة ويستنير بنورها لينير بدوره الطريق لمن بعده.
اقتضت مشيئة الله أن يلتقي الذكر والأنثى في مؤسسة الزواج للتناسل وإعمار الأرض، وبعيدا عن الجانب الحيواني فيها، فعلى كل من الزوجين استخدام هذه الوظيفة القدسية أفضل استخدام بحيث يكون نتاجها ولد صالح ذخر للأمة واستمرار للجنس البشري الذي حمل الأمانة وفُضِّل على سائر المخلوقات.
يتأثر الأبناء بعلاقة الوالدين تأثرا بالغا خصوصا في السنوات الأولى قبل الخروج إلى عالم التدافع، ويكون هذا التأثير بالإيجاب عندما يفهم كل من الأب والأم أدوارهما المنوطة بهما. أما عندما لا يحترم أحدهما أو كلاهما هذا النسق الرباني والمنهج الإلهي في الحياة يظهر تصدع في الأسرة حيث يسود الاضطراب وسوء التفاهم العلاقات بين أفرادها تكون انعكاساته على شخصية الأبناء.
ومعظم المشاكل التي يعاني منها الأبناء في الوقت الراهن يؤول سببها إلى التوتر الحاصل بين الأب والأم على اعتبار أنهما المصدر الأساسي للحنان الذي به تزرع مجموعة من القيم في نفس الطفل. وعوامل التوتر أو الصراع الأسري، بغض النظر عن أسبابها، تأخذ الطابع التدريجي التراكمي الذي تحكمه عمليات متداخلة يصعب فصل بعضها عن بعض، كالعوامل المزاجية المرتبطة بالصفات الوراثية التي تحدد ردود الفعل الانفعالية والعاطفية عند كل من الأب والأم كزوجين مشرفين على الأسرة، ومنها أيضا الأنماط السلوكية المتعارضة عندهما الأخلاق الاجتماعية وطرق التنشئة الاجتماعية، كما توجد عوامل أخرى تجعل الصراع مستمرا في نطاق الأسرة قد تؤدي في النهاية إلى تفكك الأسرة أو انهيار الكيان العائلي الذي يصير ضحيته الأطفال. حينئذ تظهر أمراض نفسية واجتماعية يطال أثرها الطفل كفرد من الأسرة ثم تتسع الدائرة ليستفحل الداء جسد المجتمع ككل.
5- هل من الممكن أن يكون للخروج من فترة الحجر الصحي تأثير على سلوكيات الأبناء ؟ وكيف لنا أن نتجاوزها إذا ظهرت؟
عرفت الحياة في الأسرة تحولات نوعية خلال فترة الحجر الصحي حيث تغيرت مجموعة من العادات والتصرفات بناء على الحيزين الزمني والمكاني، وعليه فإن مجموعة من الملاحظات باتت تفرض نفسها لأخذها بعين الاعتبار والعمل بمقتضياتها بعد رفع الحجر الصحي وعودة الحياة تدريجيا إلى طبيعتها.
لا أحد ينكر أن من مخلفات أزمة هذا الوباء ظهور تصرفات شاذة نوعا ما تصدر بين الفينة والأخرى عن هذه الفئة من المجتمع التي ألِفت نوعا من الحرية في الحركة فأصبحت بين عشية وضحاها رهينة محبس الفكر والجسد. ودور كل من الأب والأم العمل على التخفيف من حدة الأزمة والعمل على جعلها تمر بردا وسلاما كي لا تترسب مخلفاتها في نفسية الأبناء مع العمل على مساعدتهم لتجاوزها بقدر المستطاع.
يمكن انتظار نوع من التمرد والمغالاة في التعبير عن الحرية بعد رفع الحجر الصحي بدعوى أن الأبناء كانوا محجوزين ولم يتسن لهم الحركة بالشكل المعهود، وهذا فيه خطر كبير من الناحية السلوكية إذ سيصاحبه نوع من الانفلات إن لم يتدخل الآباء في الوقت المناسب. لهذا على هؤلاء العمل على تهييئ الأمر بشكل تدريجي مع التوجيهات المناسبة وذلك بالإشراف المباشر على عملية الخروج وتوعية الأبناء اجتماعيا ودينيا حتى لا يقعوا في المحظور. يقول المربي الأول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبري : “أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده”.
5- ما هي رسالتك للآباء وللأبناء ؟
أيها المربي، إن جائحة كورونا ليست إلا مرآة عكست ظل شبح القسوة الهائل المائل بثقله على نفسية الطفل وأزاحت الغطاء عن سلبيات الأساليب التربوية المعوجِّ عودها وأبانت عن مدى بعد المناهج عن نهجها الواضح ونأي البرامج عن سيرها الصحيح.
أيها المربي، ستنقضي بإذن الله عِدَّة الحجر الصحي وتعود الحياة تدِب في أوصال المجتمع كذي قبل. فحسبك عبرة هذه الكلمات التي أنسجها بخلاياي العصبية وأسطرها بمداد امتزج فيه الدمع والدم ليخط هذه العِبارات عَبَراتٍ على صفحة الأمل المشرق وينقش على لوح التاريخ شهادة تبقى ذكرى للمدَّكِر وهدى لطالب الهدى.
وأنت يا بني، إني أرى فيك نفسي وأنا شاب فتِيٌّ ندِي، وأرى طموحي وشموخي في عنفوان الشباب وأحلامي وأهدافي التي طالما رصدتُ لها الوقت والفكر. أرى فيك رجلا شامخا كشجرة السنديان العتيدة، ثابتا على الحق ناصرا له لا منتصرا عليه، أرى فيك رجلا فاره الطول بكبرياء العلم والمعرفة، أرى فيك رجلا عظيم المنفعة لين الجانب سلس الطباع، أرى فيك رجلا يحمل عني عبء الرسالة وأمانة نشرها، رسالة السلام لعالم خلق للسلام.
أي بني، اعلم أنك جزء من هذا المجتمع الذي لو أهملت دورك فيه انهار في لحظة وهُدَّ أساسه وسُويت أركانه بالحضيض. أنت لبنة في هذا البناء المجتمعي الكبير، فلا تحقر من شأنك وعظِّم النية بعملك، فمن يدري لعلك تكون إحدى تلك المنارات التي تضيء للتائه طريقه وتنير للهائم دربه.
أي بني، لقد خلقت مختلفا بكل ذرة في كيانك عن كل إنسان، فلا تذُب بكليتك في غثاء السيل يجرفك الطوفان، فتتيه في سماء التبعية ودهاليز النسيان، واستقم رعاك الله .. فإنك إنسان.