مقالات

سعيد بلمين.. رسائل في الحجر الصحي

أولا الحجر الصحي مدرسة تعليمية.

الوباء ومعه الحجر الصحي هي أساسا قدر من أقدار الله عز وجل، وأقداره سبحانه وتعالى نعم ومنح وعطايا حبلى بالدروس والعبر والعظات، فهي إذن مدرسة حية للتعليم والتعلم. الحياة كلها، في الحقيقة، عبارة عن مدرسة تعليمية عامة، وفي معترك الحياة رجال وأحداث ومناسبات ومحن وأفراح… تشكل كل واحدة منها مدرسة خاصة، ولكل منها دروس تميزها عن غيرها، وقد ذكر الإمام المجدد رحمه نماذج كثيرة من هذه المدارس التعليمية، نذكر بعضا منها:
* مدرسة التجربة والخطأ: قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “خير المدارس مدرسة التجربة والخطأ، ومن الخطأ يخرج الصواب، ومن المحاولة المتكررة يكون الإبداع. ولا خطأ إن لم يكن عمل. وإن كان عمل فلا معرة في الخطأ”.
* مدرسة الشدائد: قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “لا بد من مرور كل مؤمن من مدرسة الشدائد، يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه، وحاضره، ومألوفه، وراحته، وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله، ولتملأ جوانحه محبة الله، والشوق إلى لقائه. فيهون عليه الموت، ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد”.
* مدرسة الحكمة البشرية: قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “كل مكتسبات العقلانية التنظيمية الإدارية التكنولوجية التي طورتها الإنسانية يُذكر عليها اسم الله وتُستصلح. بدون تردد ولا تعقد ولا تخوف من التعلم في مدرسة الحكمة البشرية”.
* مدرسة السلوك المنهاجي: قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “مدرسة السلوك المنهاجي… هو هذه الصفحة الخالدة من حياة الرسل والحواريين، ومن حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه خاصة. نتعلم من هذه المدرسة إن تزودنا بالإيمان لأنها صفحة مشبعة بالغيب”.
ولاكتمال العملية التعليمية، لا بد على الأقل من شرطين أساسيين:
1- شرط في المدرسة: الأهلية للتعليم. الوباء ومعه الحجر الصحي هي أقدار من صنع الله عز وجل: “صنع الله الذي أتقن كل شيء”. ولا بد وأن تسير في ركاب الصنعة الإلهية المتقنة، الأهلية التامة للتعليم.
2- شرط في المتعلم: القابلية للتعلم. قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “لا يتم التعلم إلا بوجود معلم عالم وطالب لديه قابلية للتعلم من حيث الاستعداد العقلي والنفسي”.

ثانيا الحجر الصحي زمن مشهود

لكل مدرسة تعليمية خصوصية تميزها عن غيرها، تتشكل صورة هذه الخصوصية بتجميع عدد من الاعتبارات وحسن ترتيبها، والزمن الذي يظلل الحدث ويستوعبه اعتبار أساسي ومهم.
1- خصوصية زمن ما قبل الحجر الصحي:
* زمن التكاثر الملهي: قال الله تعالى: “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ”. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “أَشَغَلكُمْ حُبُّ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا وَزَهْرَتُهَا عَنْ طَلَب الْآخِرَة وَابْتِغَائِهَا وَتَمَادَى بِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَكُمْ الْمَوْت وَزُرْتُمْ الْمَقَابِر وَصِرْتُمْ مِنْ أَهْلهَا”.
* زمن السبح الطويل: قال الله تعالى: “إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا”. ورد في تفسير الجلالين: “تصرفا في أشغالك لا تفرغ فيه لتلاوة القرآن”.
2- خصوصية زمن الحجر الصحي:
* زمن الفراغ: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ” رواه الحاكم في المستدرك.
* زمن السكن: قال الله تعالى: “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا”. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: “سكنا أي تسكنون فيها، وتهدأ جوارحكم من الحركة”.

#ثالث االحجر الصحي وتوزين الذات.

الحجر الصحي مدرسة تعليمية بامتياز، ووعاؤه الزمني وعاء مبارك ومشهود. هو فرصة ذهبية نادرة من أجل توزين الذات الفردية توزينا محكما، لأنه قد لا يتأتى نظيره في الأزمنة الأخرى.
أزمنة التكاثر والسبح والشغل… يشتد فيها طلب الرزق، وتتعدد الشواغل وتتداخل، وتتضخم الحركة اليومية وتتشعب، وهذه كلها حجب مانعة عن التوزين الفردي المحكم.
كل أعمال البر الفردية التي يأتيها المرء في هذا الحجر الصحي هي مدخل مهم للتوزين الذاتي، غير أن “المناسبة شرط” كما يقول الفقهاء. وخصوصية زمن الحجر الصحي باعتباره زمن الفراغ والسكن، تجعل على رأس الأولويات توطين الأوقات والأعمال التي يتعذر إتيانها في زمن التكاثر والسبح والشغل.
1- تمحيص الذات:
مدرسة الحجر الصحي وزمنه فرصة لتمحيص الذات الفردية ونقدها ومساءلتها، وهو عمل عظيم لا يتيسر دائما لأنه يحتاج إلى صفوة الأوقات وهدوئها.
* تمحيص من أجل التقويم: تمحيص الذات الفردية هو نوع من السفر في الذات، سفر بغرض التقويم لا من أجل المتعة. إنه نوع من محاسبة النفس، وهذه الأخيرة تتفلت من المحاسبة عندما تجد في الشواغل والهموم والمشوشات معينا لها على ذلك. قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “يقتضي توزين العامل الذاتي وترجيح جانبه أن نعطي الأهمية القصوى لفحص ذاتنا، للنظر في عيوبنا، لتمحيص صفنا، لتربية نفوسنا وصقل قلوبنا وتهييء المحل الذي يتنزل فيه نصر الله”.
* تمحيص من أجل التصفية: تمحيص الذات الفردية، وبعد خطوة المساءلة والمحاسبة، هناك خطوة مكملة وهي المسارعة والمسابقة نحو تصفية الذات وتنقيتها من شوائب الأعمال العالقة بها. يقال: مَحَصَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ أي صَفّاهُ بِالنَّارِ وَأَزَالَ مِنْهُ كُلَّ مَا خالَطَهُ مِنْ شَوْبٍ. وقال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “أنت يا أخي، يأيها الإسلامي المرشح للحكم، الـمُعبَّأُ في صف الجهاد، أنت عبد لله قسرا. يأيها الإنسان. أنتِ يا أختي، يا مُربية أجيال الخلافة الثانية على منهاج النبُوة، أنتِ أمة الله قهرا. يأيها الإنسان. هل حبست نفسك يوما أو ليلة أو ساعة، هل ضيقت عليها الخناق وسألتها إلى أين؟… التحدي المستقبلي الثقيل في حق الدعوة هو حمل الرسالة لعالم متعطش. وزنُنا السياسي، ولو ثقُلَ بعد زوال وصمة الغثائية، لا يوازي وزننا الأخلاقي الروحي بوصفنا حملة الرسالة الخالدة. بوصفنا مبلغين عن رب العالمين وعن رسوله الأمين. وهو تحدّ لا تقوم له الأمة إن لم يكن التحدي الفردي الذي يُهيب بالمؤمن والمؤمنة أن يتجردا من عبودية النفس والشيطان، وأن يتحررا من سلطان الهوى فيبرَآ من مرض الغثائية وداء الأمم وما ينجر إليهما من آفات، وينبريا تلبية لنداء «سابقوا» ليكونا من المقربين”.
2- توطين النفس:
مدرسة الحجر الصحي وزمنه فرصة لتوطين النفس على الأوقات والأعمال التي يتعذر إتيانها بانتظام في زمن التكاثر والسبح والشغل. وَزَّنَ نَفْسَهُ عَلَى العَمَلِ: هَيَّأَهَا، وَطَّنَهَا لِلْقِيَامِ بِهِ. ووَزَن نَفْسَه على الأَمر: وطنَّها عليه. وروى الترمذي في سننه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تكونوا إمَّعةً ؛ تقولون: إن أحسنَ الناسِ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمْنا، ولكن وطِّنوا أنفسَكم: إن أحسنَ الناسُ أن تُحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا”.
* توطين من أجل الانتظام: توطين النفس على الأوقات والأعمال في زمن الحجر الصحي (زمن الفراغ)، سيمر على الأوقات والأعمال في زمن ما بعد الحجر الصحي (زمن الشغل) فينتظمها انتظاما. قال معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته: “إنه لابد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنه سيمر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاما، ويزول معك حيثما زلت”.
* توطين من أجل التوازن: توطين النفس على الأوقات والأعمال في اتجاه المجموع، أي في اتجاه التوازن في الحياة. هذا التوطين يختلف من إنسان لآخر، والأولوية هنا لتوطين الأوقات والأعمال التي يتعذر إتيانها في زمن التكاثر والسبح والشغل. قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “نحن نعتقد أن ما من عبد إلا وأعطاه الله تبارك وتعالى المنعم خصوصيات في الجسم والعقل وقابليات الإيمان والإحسان، لذلك فلا يمكن أن تنتج التربية جيلا متماثلا أفراده كما تخرج البضائع من المعمل. فنحتفظ بكلمة مجموع”.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى