معركة الوعي..
بقلم الدكتور: حسين مبرك.
في هذه اللًحظة الفارقة من تاريخ الجزائر الحديث، يعيش الجزائريون على وقع حراك شًعبي عظيم، ستحتفظ ذاكرةُ التًاريخ به، وستظل الأجيال تتغنًى به كابرا عن كابر، بوصفه فاصلة بين عهدين، ونقطة تحوًل في مسار هذا الشًعب ومسيرته الحضارية الحافلة بالمواقف والمآثر الجليلة وتضحياته الكبرى من أجل التحرر والسيادة ورفض الهوان والاستعباد وكل أشكال الاستبداد والاحتقار ، مهما كانت المصاعب و المكاره والشدائد والأزمات ، وهي صفات وخصال تميًز بها الجزائري في كلً الأوقات ، وورثها عن أسلافه وآبائه الذين ضربوا أروع الأمثلة في الاستبسال والاستماتة في الدًفاع عن الحوض والحمى والوطن والدين ، وآيته الكبرى في ذلك الثًورة التحريرية المجيدة التي هي مناط فخر الجزائريين والعرب والمسلمين وكلً أحرار العالم ، وقد أضحت مضربا للمثل في الشهامة والمروءة والإباء …ومن كان مطبوعا على هذه الخصال والمناقب ، مجبولا على عزة النفس مفطورا على الشموخ والأنفة لايمكن أن ينثني أمام حادثات الدهر ، ولا ينحني أمام الأهوال والخطوب ، بل إنًه يخرج منها أشدً عودا ، وأقوى عزما ، وأصلب إرادة وهكذا هو شأن وقدر الشعوب الحية الفتية الماجدة العريقة الضًاربة جذورها في أعماق التًاريخ التي قد يعتريها الضعف لكنها لا تموتُ ، وقد تخبو جذوتها ، لكنها سرعان ماتذكو ، وقد تخمل لتنبعث من جديد ، وتصنع التًفوق والسًبق…
ولعلً من آثار هذا الوعي لدى الجزائري ، هذه الصًحوة التي غشيته ، وهذه النًخوة التي حرًكته فوثب وانتفض ، وخرج في مسيرات الشرف ، رفضا لأصحاب الجثث والعبث والتًرف ، فأزاحوا الرًئيس ، تحت ضغط الحراك ، وتحت تأثير موقف المؤسسة العسكرية ، الذي كان صارما وحازما ، وسدً كلً الذًرائع ، وأغلق كلً المنافذ أمام زمرة من الطغاة والمستبدًين الذين ظلوا لسنوات طوال جاثمين على صدر هذا الوطن ، ينهبون خيراته ويستنزفون طاقاته ومقدًراته ، ويعبثون بمقوًماته ولم يرعوا حقًا ولا حُرمة ، ولم يرعووا عن فساد ، وأمعنوا في غيًهم ، بالمناورة مرًة ، وبالتًزوير مرًة ، وبالتلاعب بعقول النًاس والاستهتار بمقوماتهم وهويتهم مرًة باتباع أساليب فيها كثير من الخبث ، كالتًمييع والتًدجين والتًهجين ، وخلق النًعرات وإحياء العصبيات ، وممارسة كل أشكال التًثبيط والتًيئيس ، وزرع الإحباط والتخدير والتحقير ، بالترهيب والوعيد والتهديد ، دونما رادع قانوني ، ولا زاجر أخلاقي ، ولا ورع أو مراعاة لثقل الأمانة وقداستها ، وحرمة الوطن المفدًى المسقي بدماء الشهداء الأبرار ، وظلً هؤلاء يتحكمون في رقابنا ومصائرنا باسم الشًرعية التاريخية والثورية التي أفرغوها من محتواها الحقيقي ، وجعلوا منها سجلا تجاريا يستغنون به ، ويحققون المكاسب ويحتكرون المناصب ، ويصرفون أنظار أطياف المجتمع وكفاءاته ومثقفيه ونخبه عن قضايا الأمة وغاياتها الكبرى ، ويشلونها عن التفكير في أي مشروع نهضوي من شانه أن يضخ فيهم دماء التجديد وروح الإبداع والرقي ، وسوًقوا لنا نماذج الهدم وثقافة التشكيك والإفساد وروجوا للميوعة والانحلال الخلقي والرداءة التي ورثت الكبت والاحتقان والنكوص ، وبات المجتمع نهبا للآفات والأمراض الخطيرة التي أوشكت أن تاتي على الأخضر واليابس ..وفي هذه اللحظة بالذات تذكرت نهاية الخليفة العباسي ” أبو جعفر المنصور” مؤسس الدولة العباسية المترامية الأطراف في مشارق الأرض ومغاربها ، وكانت بغداد عاصمة لها.
وقد عرف عن هذا الخليفة حزمه وهيبته وقوته وسيطرته على مقاليد الحكم ودواليب الدولة ، وعرفت الدوله في عهده إنجازات عظيمة على جميع المستويات ، فمن رخاء اقتصادي إلى رفاه اجتماعي إلى نشاط الحركة العلمية والثقافية ، لكن بالمقابل عرف باستبداده في الرأي واستئثاره بكثير من الصلاحيات والامتيازات ، وهو الأمر الذي ألب عليه الناس واستثار خصومه ومعارضيه فثاروا وانقلبوا عليه ، فكانت نهايته مأساوية ، وهكذا تصدق مقولة : إنً التاريخ يعيد نفسه ، والأحمق هو من لا يتعظ بتجارب الآخرين ، ولا يعتبر بدروس الحياة …ذلك ان المقياس الذي يتفاضل به الناس ليس خلو المرء من العيوب والنقائص ، إذ ليس هناك نموذج كامل ، لأن الكمال لله ، ولكن العبرة بمن تكثر حسناته ومزاياه وتقل عيوبه ، وهذا النموذج الأصلح للقيادة ، في حين أن كثرة العيوب والمثالب تغطي على قلة المزايا والحسنات …وهذا بشار بن برد يقول في تهديد أبي جعفر المنصور وقد اندلعت الثورة ضده: أبا جعفر ما طول عيش بدائم …ولا سالم عما قليل بسالم
على الملك الجبار يقتحم….الردى ويصرعه في المأزق المتلاحم
إلى قوله: فرم وزرا ينجيك يا ابن سلامة…فلست بناج من مضيم وضائم…
والعبرة دائما بالخواتيم.