هل الاستبداد اختصاص ديني
تعقيب على مقال للأستاذ عز الدين العلام
ينطلق عز الدين العلام في مقالة له بعنوان مستفز: “مااجتمع الدين بالدولة إلا وكان الاستبداد ثالثهما”من فرضية مؤداها أن الجمع بين الدين والدولة لا ينتج إلا الاستبداد، لكنه لايوضح قصده من عبارة “الجمع” ولا يعرف به، لينطلق في سرد وقائع تنتهي بتكريس نتيجة واحدة أن الدين هو مصدر الشر في العالم، وأن الدين والاستبداد ملازمان لحد التطابق، وكأن الاستبداد اختصاص ديني،وهوما يذكرنا بخطابات التعميم والمصادرات،ذات المنزع الإديولوجي الاستهدافي، البعيد عن روح البحث العلمي وضوابطه التي تقوم على التدقيق العلمي في الجزئيات، فما بالك بالقضايا الكلية العابرة للاختصاصات، وذلك ما كان سببا فيالوقوع في عيوب منهجية وأخطاء معرفية، يمكن إجمالها ما يلي:
– يُستنتَج منالأمثلة التي ساقها أنه يعتبر الأديان كلها ذات طبيعة واحدة، ويحكمها منطق واحد، فلم يفرق بين الدين الوثني والدين والتوحيدي، ولم يفرق بين الدين المحرف والدين الخاتم، وهي فروق لايمكن أن يتجاوزها باحث في علم الأديان، وأتذكر محاضرة لخزعل الماجدي العراقي بالمحمدية تحدث فيها عن مقارنة الأديان ووضعها في سلة واحدة، معتبرا أن التفريق بين الأديان من الناحية العلمية عمل غير أخلاقي، فكان تعقيبي عليه بكونه يستند لمنهج مادي أصم يجعله يساوي بين الدين السماوي المنزل وبين الدين الوثني الذي هو من صنع البشر، فكيف يعقل أن نسوي بين من يعبد إلها متعاليا منزها بحيث يحتاج إيمانه لمستويات ليست باليسيرة من التجريد العقلي، وبين من يعبد صنما أو حجرا أو نجما أو حيوانا أو ظاهرة كونية، مستندا في ذلك لغير حجة أو برهان أو أثارة من علم غير تقليد الآباء.
–يعبر الكاتب عن عدم إدراك لموقع الدين في السياق الحضاري الغربي، وموقعه في السياق الحضاري الإسلامي، ومن ثم من الصعب أن نقنعه بحقيقة تاريخية ناتجة عن الاستقراء أن الدين شكل في الحضارة الإسلامية مصدرا للتحرر والتقدم وأن كل المعارضات التي كانت تقوم ضد الحكومات الجائرة كانت تنطلق من مبادئ الدين، بخلاف ما حدث في السياق المسيحي حيث ارتبطت الكنيسة بالجمود الفكري ومحاربة العلم والعلماء واستعباد الناس وسلبهم أرزاقهم بالاحتيال والتدليس باسم الدين.
-أن الدين في الإسلام يرتب علاقة عمودية بين الإنسان وخالقه، وعلاقة أفقية بين الإنسان وأخيه الإنسان،وهو بذلك غير قابل للاحتكار من قبل أي سلطة سياسية نظرا لعدم وجود سلطة كهنوتية تمنح الخلاص الدينيأوتتوسط بين الخالق والمخلوق، ولذلك قامت المعارضة حتى ضد الخلفاء الراشدون أنفسهم بحق وبغير وجه، لأن الإسلام لا يمنح أحدا حصانة مطلقة.
–أن الباحث -ربما لضعف اطلاعه- لا يميز بين أطوار التاريخ الإسلامي المتعاقبة، وأن هناك مرحلة الخلافة الراشدة ومرحلة التحول نحو الملك العضوض والجبري، وهو أمر لايمكنك أن تجدا باحثا جادا في قضايا التراث لايستحضره،وإغفاله عادة ما يوقع في التخليط والتعميم.
–أن الكاتب عبر عن نكوص معرفي وعدم اتساق أطروحته حين وصل للحالة المغربية، حيث نزهها عن الكثير من المثالب التي افترض وقوع سائر أمم الأرض فيها بسبب ما أسماه “الجمع بين الدين والدولة”، واستنكف عن تعميم حكمه عليها، وهذا ما يقدح في مسعاه ويجعله يكر عليه بالهدم.
–أن الكاتب غير مطلع كفاية على المقاربات الإسلامية المتنوعة في تصورها لعلاقة الدين بالإنسان وبالحياة العامة ومن ضمنها الدولة،ومنتهى اطلاعه في ذلك على الأحكام السلطانيةالمتقادمة التي أفرد لها دراسات مستقلة،والتي تعتبر تصوراتها نموذجا تحريفيا للنظرية السياسية الإسلامية، بل إن الكثير من الدارسين يعتبرونها مدونات تعكس عصور الانحطاط والتخلف السياسي، لاسيما بعد تحول الممارسة السياسية من النموذج الخلافي الراشدي الذي كانت السلطة فيه تبنى على قاعدة الاختيار، مع ما يمكن أن يوجه لطرق الاختيار المعتمدة من النقد والتقويم، لكن تم التحول بعد ذلكصوب النموذج الامبراطوري الذي تبنى فيه السلطة على شرعية التوريث كما نظرت له وخلدته الأحكام السلطانية. وبخلاف ذلك ظهرت في السياق الإسلامي المعاصر العيديد من المقاربات في هذا الشأن، وأغلبها تجنح نحو التمييز بين الوظيفة الدعوية والوظيفة السياسية،وليس الفصل بين الدين والحياة الذي يعد خطة لادينية متقادمة لإقصاء الدين من حياة الإنسان، وحرمان الإنسان من الاتصال بالمطلق ومن معرفة الحقيقة الوجودية التي يعجز العقل عن معرفها بمعزل عن الوحي، والتي تعتبر من أعظم حقوق الإنسان التي ينبغي أن يمكن منها الإنسان باختياره الحر لا بالإكراه.
كان ينبغي أن يتحلى الباحث بالصدق العلمي والنسبية المعرفية،وألا يطلق الأحكام على طريقة العوام والدهماء، لاسيما حين يقول: “كلّ الوقائع، قديما وحديثا، تثبت أنّه ما اجتمع الدين بالدولة إلاّ وكان الاستبداد ثالثهما”، وكأنه يحاكي حديث “ما اجتمع رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما”، وهو ادعاء لا يؤكده استقراء علمي، بل إنالمؤرخين يؤكدون أن هناك أمراء وخلفاء جسدوا قيم العدل والمحبة والخير وتمثلوا مبدأ الشورى في فترة حكمهم رغم أن ثقافتهم السياسية كان مصدرها الوحيد هو الدين بمصادره المعتبرة (القرآن والسنة) من أمثال: أبوبكر وعمر وعثمان وعي وعمر بن عبد العزيز ويوسف بن تاشفين وصلاح الدين… ولم تكن فترة حكمهم توصم بالاستبداد والجور، اللهم إن كان السيد العلام يريد إيهامنا بأن كل من قال “باسم الله” أو شارك في أداء شعيرة دينية أمام عدسات الكاميرا فهو يحكم باسم الدين.
إن الاستبداد نزعة بشرية مركوزة في الإنسان، وهي فرع عن غريزة حب التملك، تفتقر إلى ما يشرعنها سياسيا، فتبحث عن شرعية معينة، قد تكون تجد مداها في الإديولوجيا، مثلما قد تجد مداها في الدين المزيف كما في حالة فرعون، فيأتي الدين الحق (مع موسى عليه السلام) فيحقق الله به التحرر العظيم من أعتى أنواع الطغيان التي عرفها التاريخ البشري، وهو تماما الدور الذي اضطلع به الأنبياء القائمون في وجه الظلم والجور واللاعقلانية الجاهلية، بدء بنوح العظيم ومرورا بهود وصالح وإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، وعيسى ومحمد خاتمة العقد، عليهم السلام أجمعين، كل هؤلاء حققوا الخلاص لشعوبهم عبر الاتصال بالوحي ومن خلال الاصطفاء الإلهي لهم، وبعضهم جمعوا بين السلطة الزمنية والروحية فلم يوصموا بالاستبداد والظلم، لكن تاريخ البشرية طافح بالنماذج الأليمة للاستبداد اللاديني المتوحش عند الإغريق والرومان وعند الأوربيين أنفسهم، وأيضا في الفضاء العربي، فحكومات ما بعد الاستعمار جلها تتميز بطابها الاستبدادي والعلماني الفج وغير الأخلاقي، ولا أحتاج للتذكير بنماذج بورقيبة وبن علي وسياد بري وعبد الناصر ومبارك وآل الأسد المجرمون، وسائر حكومات البعث في العراق وسوريا وحكومات المغرب والجزائر، وغيرهم… أليست هذه نماذج دالة على أن فرضية “الاستبداد اختصاص ديني” فرضية متهافتة وساقطة وتفتقر للسند العلمي، وأليس في بروز المعارضة الإسلامية ضد أنماط الحكم التي توظف الدين لخدمة مصالحها وتكريس مشروعيتها السياسية في كل من المغرب والسودان والسعودية وضد نموذج داعش ونموذج ولاية الفقيه، أليس ذلك دليلا على أن الدين الإسلامي غير قابل للتوظيف والاحتكار السياسي من قبل أي سلطة كائنة من تكون؟ وأن له مزايا وخصائص تميزه عن سائر الأديان الأخرى، وأنه من التدليس على القارئ عدم استحضار هذه الفروق والمزايا في مناقشة علاقة الدين بالدولة أو المجتمع أو عند مقارنته بالأديان الأخرى؟