مقالات

الوضع الشبابي بالمغرب .. أرقام صادمة ومستقبل مقلق(2)

مقدمة:
تم التطرق في الجزء الأول من هذا المقال إلى واقع الشبابي المغربي المأساوي في تقرير رصدي مسنود بأرقام صادمة ومعطيات رسمية مقلقة، تؤشر على مخططات تدمير مقومات الشباب وضرب هويتهم وإفساد أخلاقهم وجعلهم كما مهملا ورصيدا معطلا، مهمشا، مجهلا، مفقرا، تائها في متاهات الإدمان والانحراف أو هاربا مغامرا نحو “جنة موعودة” لا يعبر إليها إلا عبر قوارب الموت التي تحصد أرواح العشرات من خيرة شباب الوطن، وسط سياسة ممنهجة من التيئيس وإفقاد الثقة واللامبالاة لدى الشباب المغربي وقتل كل محاولات الصمود والإقدام لديه لدفعه إلى الاستقالة من كل المهام المنوطة به وجعله رافضا لكل أشكال الشأن العام، كله هذه المآسي يقابلها واقع سياسي يزين ألعوبة الاستبداد والفساد ويصادر أحلام الشباب وطموحاته وتطلعاته في مستقبل أفضل بالمغرب.
ولأن الأمر مخالفا لسنة الله عز وجل، ولطبيعة الشباب العصي على التهجين، فإن الشباب المغربي لم يقبل سياسة الهامش هذه، فاستجمع قواه ونفض غبار الخمول واليأس وواكب مسار تجدد وعي الشباب وإعادة الاعتبار لذاته، ليرسم انجازات جديدة لواقع شبابي آخر جديد قوامه الوعي بالحق والقيام بواجب الدفاع عن قضايا الشعب المغربي العادلة.
▪ دينامية الاحتجاج الشبابي: صرخات ضد “الحكرة”.. نضال واعي ومنظم
1. حراك 20 فبراير محطة فاصلة في تاريخ الاحتجاج الشبابي المعاصر بالمغرب:
من المؤكد أن ذاكرة الاحتجاج الشعبي المغربي مليئة بالمحطات النضالية التي تستوجب منا الدراسة والقراءة في دروسها ومآلاتها، والتي سجل فيها الشباب المغربي بطولات وأمجاد محفورة في الذاكرة منذ مقاومة المستعمر والمطالبة باستكمال الاستقلال الحقيقي، وما تلا ذلك من انتفاضات مطالبة بالكرامة الشعبية المغربية، لكن يبقى حراك 20 فبراير محطة فاصلة في تاريخ الاحتجاج الشبابي المعاصر بالمغرب، ومنعطفا تاريخيا مهما من منعطفات الاحتجاج الديمقراطي المغربي، بما راكمه من تجارب عملية وزخم نضالي غير مسبوق بالنظر لمدته ووحدويته وما حققه من مكاسب، تمثلت أساسا في كسر حاجز الخوف وإعادة الثقة للشباب المغربي ووعيه بحقوقه المشروعة، وإسقاط كل التصورات والأحكام حول سلبية الشباب المغربي، ورد الاعتبار لقيم وثقافة الاحتجاج السلمي، كما انتصر فيه العمل المشترك وأمل التغيير على خنادق التفرقة المخزنية. فكانت صرخات الشباب والشابات في شهور الحراك الفبرايري مدوية من أجل تأمين الاستقرار الحقيقي والأمن الاجتماعي للشعب المغربي، بضمان الحقوق وترسيخها كاملة غير منقوصة، لا مصادرتها والتضييق عليها لحساب جهات أخرى تنعم بوافر العيش والترف.
في دراسة بحثية بعنوان قراءة في التجربة الدستورية والسياسية بعد خمس سنوات على الحراك، يورد الباحث في العلوم السياسية الدكتور محمد باسك منار مبحثا معنونا ب “حركة 20 فبراير والتميز على مستوى السياق” يقول فيه: ” لم تؤسس حركة 20 فبراير للاحتجاج بالمغرب، إذ لوحظ تنامي الاحتجاج بشكل غير مسبوق منذ المنتصف الثاني من العقد الأول من الألفية الثالثة (كان أبرز تلك الاحتجاجات ما عرفته مدينة صفرو في شهر شتنبر 2007 ومدينة سيدي إفتي شهر ماي وبداية شهر يونيو 2008، بحيث خلفت هذه الأحداث العديد من الضحايا والمعتقلين، كان معظمهم من الشباب…) لكن تحقق بفضلها تحول نوعي في مظاهر الاحتجاج، بحيث تم الانتقال من احتجاجات تلقائية في الغالب إلى احتجاج منظم، والانتقال من احتجاج تغلب عليه مطالب اجتماعية وتحكمه مصالح فئوية أو مناطقية إلى احتجاج شعبي عام تؤطره في المقام الأول شعارات دستورية وسياسية. وقد تشكلت النواة الأولى لحركة 20 فبراير من الشباب…” .
وحين عجز النظام المغربي المخزني عن إيقاف مد الحركة بترسانته القمعية التي خلفت العديد من الشهداء والجرحى في الشهور الأولى من الحراك والزج بالعديد من النشطاء الشباب بالمعتقلات بتهم وقضايا ملفقة هدفها الأساس كسر عزيمة مواصلة السير في درب الحرية والنضال، حاول بإيعاز وإسناد وإملاءات غرفة عمليات الاستكبار العالمي أن يعيد عجلة مسار التغيير للوراء، بعدما نفذ عملية الالتفاف والتمويه والمناورة بدستوره الممنوح، وألعوباته الانتخابية المطبوخة، التي لم تصمد أمام وقائع الاحتقان الاجتماعي اليومي واشتداد الأزمة على جميع المستويات، وعدم سقوط الشعب المغربي ضحية بيع حقوقه مقابل استقرار وهمي في عملية نصب مكتملة الأوصاف.
واستحال بعدها شعار وهم “الإصلاح في ظل الاستقرار” الذي طبل له المخزن ومن دار في فلكه إلى واقع “الاستمرار في ظل الاستبداد” الذي نبهت له صرخات الأحرار، وبقي شعار الشعب: ” فين وصل نضال شعبنا .. هاهو غادي كيتنما” خالدا، توالت تجلياته على شكل تنسيقيات احتجاجية شبابية وشعبية، تراكمت نضالاتها النوعية في مختلف الملفات العادلة، السياسية والاجتماعية، مطالبة بحقوقها بطرق حضارية سلمية أحرجت القمع المخزني وسحبت منه مبررات تدخلاته العنيفة، وفضحت عنفه ووحشيته أمام مستوى النضال الحضاري الراقي الذي بات شباب الوطن ينقشونه على صفحات تاريخ الأحرار.
2. ملف التنسيقية الوطنية لطلبة الطب بالمغرب: خدمة إجبارية دون ضمان التشغيل
ترجع بواكير نضال التنسيقية الوطنية للطلبة الأطباء إلى سنة 2004 إبان تأسيس التنسيقية الوطنية للأطباء الداخليين والمقيمين مرورا ب 2005 و2008 و 2011، لتتواصل حلقات سلسلة نضال الجسم الطبي موسم 2015/2016 بعد شهور من الإضرابات والمسيرات احتجاجا على مسودة قانون الخدمة الصحية الإجبارية القاضي بإلزام الطلبة الأطباء تكاليف سنتين من العمل في المناطق القروية المعزولة والمصنفة كمناطق نائية دون ضمان تشغيلهم في الوظيفة العمومية ودون احتساب السنتين من الخدمة في الأقدمية والتقاعد لتتضخم سنوات الدراسة لدى الطلبة وتصل ل 10 سنوات بالنسبة لأطباء الطب العام و15 سنة بالنسبة للأطباء المتخصصين، وكان ذلك هو جوهر المطالب بالإضافة لمطالب أخرى في الملف المطلبي.
ليتوج مسار التنسيقية النضالي الحواري الذي لم يسلم من القمع المخزني، بحذف وزارة الصحة لقانون الخدمة الإجبارية وإعادة الاعتبار للطلبة الأطباء.
3. ملف الأساتذة المتدربين بين الاحتجاج السلمي النوعي والجدل القانوني والتضامن الجمعي:
قد يطول بنا الحديث عن السياق الكرونولوجي لمعركة الأساتذة المتدربين بالنظر لزخمها النضالي غير المسبوق شكلا ومضمونا ونفسها الاحتجاجي المتفرد، لكن حسبنا أن نقف عند خلاصات وقائع الملف.
فبعد اجتياز الأساتذة المتدربين للانتقاء الأولي والامتحان الكتابي والشفوي يوم 5 أكتوبر 2015 والتسجيل بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين يومي 7 و 8 أكتوبر 2015 ستفاجئ الدولة الأساتذة المتدربين بإصدار مرسومين، المرسوم رقم 2.15588 القاضي بفصل التكوين عن التوظيف والمرسوم رقم 2.15589 القاضي بتقليص المنحة إلى أكثر من النصف، لتجهز على حق التشغيل وتعمق من أزمة البطالة وتزيد من أفواج المعطلين.
وأصرت الدولة في مخالفة تامة لصريح القانون على تنزيل القانون بأثر رجعي على أساتذة مراكز التكوين، كما أنها لم تحترم مبدأ تراتبية القوانين، وغيرت قانون الوظيفة العمومية بمراسيم وزارية. ومع ذلك تطالب الدولة الأساتذة المتدربين باحترام القانون وبأن مسيراتهم غير مرخصة وغير قانونية. أليس عبثا أن تخرق الدولة القانون، وتحاضر في تطبيقه؟!
ومن الغرائب أن الوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة، عقب على مسألة الخلل القانوني، بكون المرسومين نُشرا في الجريدة الرسمية في 31 غشت 2015، وتناسى أن تاريخ الإعلان عن المباراة كان هو 29 يوليوز 2015. والعبرة بإعلان المباراة وليس بتاريخ إجرائها. كما أن المذكرة التي ورد فيها الإعلان تحيل على المراسيم والقوانين القديمة، ولا إشارة واحدة فيها للمراسيم الجديدة التي لم تنشر إلا فيما بعد. أما بلاغ المجلس الحكومي المنعقد يوم الخميس 23 يوليوز 2015، والذي أشار إلى المرسوم الجديد، فهو يبقى بدون حجّية قانونية ما لم يصدر المرسوم في الجريدة الرسمية. لأن الدستور نص على النشر وليس فقط الإصدار أو المصادقة أو الإعلان الحكومي، ولم يتم توقيع المرسومين من طرف الوزراء المعنيين بهذين المرسومين إلا يوم 10 غشت.
كما أن التظاهر والاحتجاج السلمي للأساتذة المتدربين منضبط للمعايير الدولية، فهو منظم وليس عفوي، مؤطر وليس فوضوي، له سياق معروف وسقف محدد ومطالب واضحة وآنية مستعجلة تمثلت في مطلب واحد واضح هو: إسقاط المرسومين 2.15588 و2.15589، في ظل خصاص كبير في أطر التعليم يقدر بالآلاف سنويا، واكتظاظ مهول يصل أحيانا إلى أزيد من 50 تلميذ في الفصل الواحد.
وقد تميز مسار احتجاج الأستاذة المتدربين برقي وإبداع وسلمية أشكال الاحتجاجات، مما وفر لها إجماعا وطنيا وتضامنا شعبيا واسعا واعيا بعدالة القضية، باعتبارها قضية تؤطرها قيم الحق والواجب والكرامة والعدالة والمواساة، رغم التشويه المتكرر للآلة الدعائية المخزنية التي تجندت لتسفيه قضيتهم وتخوينها.
وبعد صمود الأساتذة المتدربين المنقطع النظير ستضطر الدولة إلى التفاوض مع التنسيقية ليس من خلال وزارة التربية الوطنية المفترض أنها المحاور الأول في الملف، بل عن طريق والي جهة الرباط سلا القنيطرة الرجل النافذ في وزارة الداخلية، بوساطة النقابات التعليمية والمبادرة المدنية ليتم توقيع اتفاق 13 أبريل 2016 القاضي بتوظيف الفوج كاملا وتعليق الاحتجاجات واستئناف التكوين وإعادة النظر في المرسومين.
• ترسيب 150 أستاذ وأستاذة عقابا لهم على “تحريض” الشباب على النضال:
في خطوة انتقامية حاقدة وبعد سنة من النضال البطولي للتنسيقية الوطنية للأساتذة المتدربين بالمغرب دفاعا عن المدرسة العمومية وعن حق الشباب في التشغيل، وبعد الالتزام الأخلاقي للأساتذة المتدربين بكل بنود محضري 13 و 21 أبريل 2016، تفاجأت التنسيقية وباقي الأطراف الموقعة على الاتفاق، بترسيب 150 أستاذ وأستاذة، رغم تفوقهم في كل مراحل مباراة الأساتذة المتدربين ومسارات التكوين والتدريب والتقويم، وحيازتهم على درجات تقدير عالية من المشرفين والمفتشين وتنويهات الأساتذة المؤطرين، بل منهم من احتلوا المراتب الأولى على مستوى الجهة بشهادات المفتشين وبعض أعضاء لجان الاختبارات، ورغم ذلك وجدوا أسماءهم في لائحة المرسبين، وحرموا جميعا من حقهم القانوني في الاطلاع على نتائجهم.
والمعلوم الذي يراد إخفاؤه في قضية الترسيب هذه، هو أن هذه القيادات الشابة تقدمت وقادت صفوف النضال مكشوفة الوجوه، دفاعا عن حق الشباب المغربي في الشغل والعيش الكريم ومجانية التعليم، فكان لابد من الانتقام من التنسيقية الوطنية وإقبار تجربتها النضالية المتميزة التي مست “هيبة” الدولة وأرغمتها على التنازل، فعمدت الدولة في خطوة غادرة إلى ترسيب هؤلاء الشباب عقابا لهم حتى لا يكونوا مثال وقدوة لفئات اجتماعية أخرى في وطن يراد له أن يكون ضيعة للفساد والاستبداد.
• بعض الأرقام الناطقة والأحداث الصادمة حول الانتهاكات الحقوقية التي تعرض لها الأستاذات والأساتذة المتدربون بشكل شبه يومي خلال معركتهم الاحتجاجية:
– مئات الإصابات متفاوتة الخطورة، جزء منها استهدف الرأس، تنوعت بين كسور على مستوى الوجه والكتف والذراع والركبة، الاختناقات… كان أخطرها في الأحداث التي أطلق عليها وصف “مجزرة الخميس الأسود” بمركزي إنزكان ومراكش و “مجزرة القنيطرة” و “سلخة البيضاء الكبرى”…
– الإصابة بنزيف بالنسبة لأستاذات حاملات وفقدان أستاذة مرسبة لجنينها.
– عشرات المعتقلين (الموقوفين) المفرج عنهم بعد التهديد والترهيب.
– تسخير البلطجية لسرقة وتهديد الأستاذات والأساتذة في 4 مدن. (إصابة أستاذة).
– تسخير الآلة الدعائية الإعلامية المخزنية لتشويه وتسفيه معركة الأساتذة. (الإشاعة، الكذب، التخوين…).
– مصادرة اللافتات ومكبرات الصوت والملصقات والعديد من “اللوجستيك” الذي ينجزه الأساتذة من جيوبهم.
– قمع وتهديد الحقوقيين والسياسيين وكل من تضامن ميدانيا مع قضية الأساتذة المتدربين.
ما تقدم من معطيات حول الانتهاكات الحقوقية التي تعرض لها الأستاذات والأساتذة المتدربون لا تعكس بشكل كامل حجم وحقيقة ما وقع نظرا لغياب التقارير الحقوقية الدقيقة المواكبة.
4. ملف الأساتذة المتعاقدين: عقود إذعان وشروط حرمان.
بعد عزمها فصل التكوين عن التوظيف، وفي محاولة لسد الخصاص المهول في أطر المدرسة العمومية، فرضت الدولة على الراغبين في التدريس توقيع عقود توظيف محدودة المدة وبشروط مجحفة وبمصاحبة تكوينية ضعيفة وتأخر مرتجل لصرف الأجور، مما راكم أفواجا من الأساتذة المتعاقدين بلغ عددهم 55 ألف أستاذ متعاقد يعيشون وضعية تمييزية دونية وسط مقرات عملهم، في استهداف صارخ للاستقرار المهني والاجتماعي لرجال ونساء التعليم، الشيء الذي جعلهم ينتظمون في تنسيقيات جهوية تضم الآلاف من الأستاذة المتعاقدين، تنظم العديد من الأشكال الاحتجاجية دفاعا عن حقوقهم المهضومة، خاصة بعد عمليات طرد بعض الأكاديميات لمجموعة من الأساتذة المتعاقدين في محاولة لترهيب المتعاقدين والسعي لتكميم أفواههم وإجبارهم على الرضوخ لمزاجية عقود الإذعان الموقعة.
وبعد سلسلة من المقاطعات الإنذارية للتكوينات الحضورية، وتعنت الدولة ورفضها التجاوب الإيجابي مع ملفهم المطلبي، أعلن الأساتذة المتعاقدون فوجي 2016/2017 و 2017/2018 عن تنظيم مسيرة وطنية يوم الأحد 6 ماي 2018 تحت شعار”مسيرة الكرامة” من أجل إسقاط التعاقد والمطالبة بالإدماج، في أول احتجاج وطني لهم بعد تمرير نظام التعاقد في مهنة التدريس سنة 2016.
أوردنا ثلاث نماذج فقط من نماذج التنسيقيات الشبابية وإلا فملف الشهيد عبد الوهاب زيدون والشهيد إبراهيم صيكا رحمهما الله وغيرهم من شهداء الحرية والكرامة، وتنسيقية 25 ألف إطار خريجي البرنامج التأهيلي الحكومي وتنسيقيات المكفوفين والفراشة ومجموعات أفواج المعطلين من مختلف المستويات التي تحتج منذ سنين بالعاصمة الرباط وبمختلف المدن، هي ملفات شاهدة على الإجهاز على الحق في التشغيل وتأمين لقمة عيش بعد سنوات من التحصيل الدراسي والتكوين البيداغوجي ومراكمة العديد من الشواهد العليا.
5. الشباب وقيادة الاحتجاج الشعبي الاجتماعي : سلمية الاحتجاج وعنف الدولة
يشهد المغرب خلال السنوات الأخيرة موجة احتجاج شعبي سلمي ذو مطالب اجتماعية واضحة، تتمثل أساسا في الاحتجاج على مظاهر “الحكرة” والمطالبة بتحقيق مقومات الحياة الكريمة، حيث تعرف العديد من المدن والقرى والهوامش العديد من الوقفات والاعتصامات والمسيرات وصلت إلى حدود 11 ألف وقفة أو مسيرة احتجاجية، حسب تصريحات رسمية للدولة تحاول من خلالها تسويق وهم هامش الحريات الممنوح للمواطنين والحقيقة أن الرقم المصرح به يساءل مخرجات مشاريع النموذج التنموي المغربي الذي أغدق عليه ملايير الدراهم، ويلخص حجم الاحتقان الاجتماعي نتيجة الفقر وغياب العدالة الاجتماعية.
والملاحظ أن الشباب يقود ميدانيا وإعلاميا أغلب هذه الاحتجاجات الاجتماعية في أشكال احتجاجية حاشدة سلاحها السلمية التي حرص عليها الجميع، جسدتها صور سلسلات الشباب والشبات وهم يحمون منشآت الوطن، مشاهد سلمية حضارية عكست معاني النبل والشرف والوطنية الحقيقية، وأظهرت المعدن الأصيل للشباب المغربي الذي لم يفقد حبه لوطنه رغم قساوة عقود من الاستبداد والفساد.
كما يلاحظ أن الشباب لا يحتج فقط دفاعا عن الحق في التشغيل، بل يطالب بتنمية حقيقية شاملة للوطن، ففي حراك الريف المطالب بالتنمية المحلية، قاد الشباب صفوف المحتجين بعد طحن الشهيد محسن فكري رحمه الله يوم 28 أكتوبر2016 في شاحنة أزبال حين دفاعه عن مصادرة سمك كان يريد بيعه ليوفر لقمة عيش كريمة في منطقة مهمشة منهوبة، والأمر نفسه في ثورة “العطش” بزاكورة ومعتصم منجم إيمضر وجبل العوام، وحراك “الرغيف الأسود” بجرادة وحركة “الصحة للجميع” ببويزكارن” وتيزنيت وطانطان…
يشير الباحث في علم الاجتماع السياسي الأستاذ منير الجوري في دراسة له بعنوان “الخطاب السياسي والفضاء العمومي في زمنية الاحتجاج” إلى أن معضلة الشباب المغربي ليست متعلقة فقط بمعضلة التشغيل: ” يبدو أننا للوهلة الأولى أمام أزمة إدماج اجتماعي وسياسي للشباب، فالمغرب ضمن المجتمعات التي “ما تزال دون مستوى ما وصلته المجتمعات الغربية في سيرورة احتواء عناصرها الشابة، ومعرفة مشاكلها، وتأهيلها وتوجيهها في إطار سياسة تربوية وتكوينية فعالة وهادفة.
إن هذه المجتمعات الثالثية تحت وطأة ما تعانيه الآن من تبعية للخارج وخضوع فكري وسياسي لمراكز القرار الغربية المهيمنة على المستوى، العالمي، لم تستطع أن تبلور سياسة شبابية كفيلة باستقطاب ايجابي للفئات الشابة، وتفهم أوضاعها وأزمتها، وبالتالي تسهيل اندماجها في الحياة الاجتماعية العامة بواسطة التعليم والتكوين والتشغيل، وتوفير الخدمات الأولية الميسرة والموسعة لدائرة هذا الاندماج. والحقيقة أن مشاكل الشباب في السياق المغربي ذات أبعاد عميقة ومركبة ولا يمكن اختزالها في معضلة التشغيل رغم أهمية ذلك.
ومن المؤسف أنه رغم مشروعية المطالب وسلمية هذه الاحتجاجات ، قابل المخزن كل ذلك بالتجاهل والتماطل، واعتماد المقاربة القمعية في مواجهة الاحتجاجات المتزايدة والإمعان في الاعتقالات وطبخ الملفات ومراكمة المحاكمات الماراطونية، وما واكب ذلك من أساليب التخوين والتشكيك والتبخيس وجهود وساطة الاحتواء، لتستمر الدولة في تعميق فقدان الثقة الشعبية.
فكان أغلب ضحايا هذه المقاربة الأمنية القمعية شباب بين شهداء ومئات من المعتقلين والموقوفين والمعنفين، عقابا لهم لأنهم صرخوا ضد “الحكرة” والتهميش والتفقير وطالبوا بتأمين عيش كريم لمناطقهم في غياب سياسة شبابية إدماجية.
خاتمة:
أمام هذا الوضع الذي لم نذكر كل تجلياته، ولعها معروفة لدى القاصي والداني، يقف المرء مستغربا أمام عدم اكتراث الدولة وضعف تجاوبها مع كل هذه الأخطار التي تهدد الجسم الشبابي خاصة وكافة فئات الشعب المغربي، كما يقف مستنكرا تشبثها بتكرار نفس الوسائل التي أثبتت فشلها بدعوى التفاعل مع مطالب الشباب، مشاريع متناثرة هنا وهناك، لا شيء يجمع بينها ولا شيء ينتج عنها إلا مزيد من الفشل والضياع.
إن ضمان حق الشباب في التعليم والصحة والسكن والشغل والإبداع والإعلام والتعبير والترفيه والنشاط السياسي والمدني، رهان لا بديل عنه للاستفادة من طاقات الشباب، بل هو حقهم الطبيعي، وإن الوضع لم يعد يحتمل سياسات الترقيع والتسكين. فلا بد من علاج شمولي مدخله بناء وطن المواطنة الحقيقية، وطن يحصل فيه الشعب على حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمدنية كاملة دون تجزيء، لذلك لا حل لكل أزمات المغرب إلا من خلال إرساء دعائم نظام ديمقراطي حقيقي متعاقد مع مجتمع متضامن يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة ومقومات العيش الكريم، دون تمييز أو إقصاء أو تهميش، وذلك يقتضي توفر الإرادة السياسية للحاكمين -الغائبة والمغيبة للأسف- وإلا سنظل ننعي كل يوم شهداء الفقر والبؤس في مختلف ربوع الوطن. فلا يقضي على الفقر والحرمان غير العدالة السياسية والاجتماعية، مع وعي شبابي وشعبي بمكامن الداء ونقط العلل، وعدم الاستسلام لخطابات التيئيس والمقارنة الخطأ والاستدلال الفاسد التي تختزل المستقبل في ثنائية خياري السيئ والأسوأ، إما الاستبداد أو العنف! ! ، هناك دائما خيار ثالث؛ خيار المقاومة والممانعة السلمية من أجل مغرب آخر ممكن، مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى