في تحليل أبعاد انتصار “العدالة والتنمية” في اقتراع 4 شتنبر
اهتم العديد من الباحثين والمحليين والفاعلين السياسيين بتحليل مخرجات العملية الانتخابية التي مرت يوم 4 شتنبر الجاري، وفرض الاكتساح الذي حققه حزب العدالة والتنمية للجماعات الحضرية توجيه البوصلة لعناصر قوة هذا الحزب: كاريزما قيادته وقوة خطابها السياسي، والاقتدار التنظيمي للحزب، والديمقراطية الداخلية التي يتمتع بها، والبعض فسر الانتصار بدرجة الإقناع الذي مثلته التجربة الحكومية، فيما أرجع البعض المسألة إلى ضعف المعارضة وقلة مصداقيتها وهشاشة بنيتها التنظيمية وعدم امتلاكها لخطاب سياسي مقنع، هذا فضلا عن الخلافات الداخلية التي أنكهت بعض مكوناتها وأفقدتها القدرة على تملك الجاهزية الضرورية لهذا الاقتراع.
بيد أن المهم في التحليل، ليس هو التعرض فقط للجانب الإيجابي في الصورة، وإنما المهم هو طرح السؤال السلبي (المعاكس) أيضا، وذلك لاختبار كل هذه المقولات من زاوية الضعف، وليس فقط من زاوية القوة، أي ليس السؤال المهم لفهم النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية هو النظر في عناصر قوة الحزب، وعناصر ضعف منافسيه، وإنما السؤال المهم في اعتقادي، هو محاولة البحث عن التفسير من الزاوية المعاكسة، أي من الزاوية التي ظهر فيها ضعف أو عدم نجاح أو عدم تقدم العدالة والتنمية في بعض المناطق.
وبالنظر إلى خارطة هذه المناطق، أي المناطق التي لم يستطع الحزب لحد الآن أن يتمدد فيها أو ظهر فيها ضعف أو تراجع للعدالة والتنمية، يمكن أن نتحدث عن خمس مناطق أساسية:
1- المناطق المعروفة بانتشار زراعة الكيف (منطقة جبالا والريف…)
2- المناطق التي ينشط فيها التهريب( منطقة الشرق، وبالتحديد وجدة، والناظور والحسيمة، المضيق، الفنيدق…. )
3- المناطق التي يحكمها التوازن القبلي المحكوم لمدة طويلة بمنطق الريع. (جهات الصحراء مع تسجيل اختلاف في مستويات حضور الحزب فيها بحسب مستويات الانسجام والتناقض القبلي).
4- المناطق التي تعرف مستويات عالية من الهشاشة والعزلة (مناطق بجهة الشرق ومناطق أزيلال…..)
5- المناطق التي قوي فيها الخلاف التنظيمي داخل العدالة والتنمية (نموذج القصر الكبير، )
فإذا استقرأنا النتائج التفصيلية للانتخابات، سنجد أن العائق الذي يقف أمام العدالة والتنمية سواء في التمدد أو في تحقيق التقدم مرتبط من جهة بتفكيك العلائق البنيوية التي تربط ظاهرة الاتجار في الممنوع بالسلطة والثروة وهو ما سيحل بشكل شبه جدري آفة استعمال المال في الانتخابات، ومرتبط من جهة ثانية بتفكيك ما تبقى من هيمنة البنى القبلية، ومرتبط من جهة ثالثة بترسيخ نموذج تنموي عادل، ومرتبط من جهة رابعة بالقدرة على تحصين التماسك الداخلي للحزب.
وهكذا يبدو أن الأسئلة الأربعة مرتبطة بجوهر الحداثة، بما هي قدرة على خلق واقع سياسي يستمد فيه الواجب سلطته من ضمان الحقوق، حتى يتسنى لسلطة القانون أن تأخذ مداها وتفكك البنى التقليدية التي تبرر وجودها بحالة الفراغ الذي تخلقها الدولة نتيجة لعجزها عن خلف البدائل التنموية.
بمعنى، أن مختلف عناصر الخطاب التي استعملها الحزب في هذه المناطق لم يكن في مستوى التحدي الذي تمثله العلائق التقليدية التي تربط الاتجار في الممنوع بالسلطة والثروة، وأن الفعل الحكومي سيبقى عاجزا عن فرض قوة وسلطة القانون مادامت هذه المناطق تفتقد لخيارات تنموية بديلة.
كما أن هيمنة منطق القبيلة في تدبير التوازنات في منطقة الصحراء، وترسخ منطق الريع بها سيجعل من الصعوبة اليوم أو غدا للحزب أن يتمدد أكثر ما لم يجر تغيير في المقاربة السياسية والاشتغال على نموذج تنموي في جهات الصحراء يجعل من الاستغناء عن التوازنات القبلية أمرا ممكنا.
في حين، لا نحتاج إلى عناء كبير لنفسر محدودية حضور العدالة والتنمية في مناطق الهشاشة والعزلة، بحكم أن التجربة الحكومية في الغالب ما تكون أكثر استهدافا من قبل ساكنة هذه المناطق، لأن مدخل الإقناع لهذه المناطق يكون بفك العزلة وتحقيق كسب ملموس يظهر أثره الفعلي على الساكنة.
أما قضية الخلافات التنظيمية داخل الحزب، فالتجارب الانتخابية السابقة تؤكد هذه الفرضية بشكل كبير.
التركيب، الذي ننتهي إليه من هذا التحليل، هو أن الحزب يجد صداه داخل المدن بقوة، بحكم أنه يمتلك مشروعا تحديثيا لم تكتمل كل عناصره بعد، ولذلك، لم يستطع إلى اليوم أن يتمدد بشكل كاف داخل المجال التقليدي، والتفسير الذي نميل إليه وهو أن نجاحه في المدن يرجع إلى أن نخب المدينة تتعاطف مع الأحزاب الأكثر التزاما بجوهر الحداثة لا مجرد ادعاء الانتظام إليها، وأنها قدرت في هذه المرحلة أن هذا الحزب هو الأكثر تمثيلا لجوهر الحداثة.
ولعل ما يزكي هذا التحليل أن الوسائط التواصلية التي تستعمل في المدينة سمحت للحزب أن يظهر بصورته الحداثية: الحزب الذي يلتزم بالديمقراطية الداخلية، الحزب الذي يخضع وزراءه ومسؤوليه في المناصب السامية لمسطرة صارمة، الحزب الذي يعمل مبدأ محاسبة أعضائه وطرد المتورطين منهم في الفساد، الحزب الذي يتورع عن أكل المال العام، الحزب الذي يستحضر أعلى مستويات الشفافية والنزاهة في تدبير جماعاته، في حين عجز عن التوغل داخل المجال التقليدي لأن النخب التقليدية تهتم أكثر باستدامة شبكات علائقها أكثر من اشتغالها على تفكيكها ما لم تظهر مصلحة كبرى تبرر إحداث القطيعة بين النخب التقليدية وظاهرة الاتجار في الممنوع.
ربما يميل البعض إلى أن التجربة الحكومية كان لها صداها في تفسير السلوك الانتخابي، لكن بالنسبة إلي، ليس المؤثر في اعتقادي هو النجاحات التي حققتها العدالة والتنمية على مستوى ضبط التوازنات المالية الكبرى للدولة ولا إيقاف نزيف الموازنة المالية، فهذه القضايا الإصلاحية الكبرى ليس لها تأثير آني على مستويات عيش المواطنين، بل أحيانا كثيرة ما تكون مكلفة، إنما المؤثر في نظري هو نوع الخطاب الواضح والصريح مع الشعب، والذي أعطى صورة عن حزب آخر أكثر تمثلا لجوهر الحداثة بما هي هذه المرة تقوية للدولة ودفاع عن المصلحة العامة.
الرسالة التي يمكن التقاطها اليوم، من الحزب وخصومه أيضا، أن المضي في مسار التحديث سيكون خادما، بدون شك، لتقدم العدالة والتنمية وليس لخصومها، وأن العودة إلى التقليد وتوسيع مجاله، وإن كان بالإمكان أن يضعف تمدده، إلا أن نتائجه ستكون مدمرة للمصالح العليا للوطن، وأن المنافسة الحقيقية للعدالة والتنمية يلزم أن تكون داخل مربع الحداثة وليس بالاستعانة بالمجال التقليدي.