إدريس النعيمي..علال بن عبد الله..الغضب الآتي من الشرق-الجزء الثاني-
بعد شهر على حادث النفي غادر علال بن عبد الله بيته المتواضع وهو يدرك أنه لن يعود ، ودع زوجته الحامل ولم يخبرها عن وجهته ولا عن نيته التي بيتها في ليلته الأخيرة:
-“اغتيال هذا السلطان المزعوم”.
لم يخبر فتى الشرق أحدا، يعتقد أن في سريته قد يتحقق أمران :
-ألا يشيع أمر الاغتيال حتى لا تفشل ضربته الكبرى.
-وألا يثنيه أحد عن هذا الأمر لو أخبر به أحد ما.
وكمن يتزين للقاء ربه في أعظم أيام الله “يوم الجمعة” لبس علال أجمل ثيابه التي تعبر عن أصالته:
-الجلباب الأبيض المغربي.
-والطربوش الأحمر القاني.
حتى الألوان كانت معبرة لدى علال،هي بالنسبة له تحمل مغزى ما:
-فالأبيض كان كفنه الذي يحمله معه.
-والأحمر كان لون الدم فداء لوطنه.
كان وهو يسير رويدا رويدا على سيارته الرمادية اللون من نوع فورد، يدنو من “مسجد أهل فاس” بعد أن علم أن “السلطان المزعوم” سيؤدي فيه صلاة الجمعة،لذا ترصد موكبه بعناية،كان يردد آيات كريمة علها تثبت قلبه في هكذا موقف ،يلتفت يمنة ويسرة لعله يترصد عينا تترصده، ولما يطمئن فؤاده ،يدخل يده قرب صدره يتحسس بها تلك السكين التي ربطها بإحكام حتى تؤدي جسيم المهام.
على بعد خطوات من موكب ابن عرفة انقض أسد الشرق على صنيعة الاستعمار،وثب إلى العربة السلطانية في سرعة البرق وقفز كالنمور الهائجة ،استل سكينه الحاد،وفي لحظة ما تهاوى السلطان العجوز أرضا،ربما صدمته قوة علال،فتبعه ابن عبد الله وطعنه ثلاث طعنات ،لكن الأقدار لم تكتب لابن عرفة النهاية،بل جرح جروحا بليغة نجا بعدها ليكمل حكمه الصوري في خوف دائم من مصير قد يعتريه في كل لحظة وحين.
أما النهاية فقد كتبت للفتى علال، كان ذلك حينما ارتمى البوليس الفرنسي السري على ابن عبد الله فأسقطوه أرضا ثم ما لبث أن أفرغوا في جسده الممدد ثماني رصاصات حية اخترقت صدره ورأسه،وكان الضابط الفرنسي “كويزا لاسورطي” هو من أجهز على ما تبقى من رمق في روح علال الذي سقط شهيدا للواجب والوطن مدرجا وسط بركة من الدماء.
لاحقا سيلقى جلاد علال نفس المصير،ولن يعيش طويلا ضابط البوليس السري منعما في أرض أجداد علال،كان ذاك حينما تقفى أثره مقاوم فذ لا يقل شجاعة عن ابن جرسيف الراحل،شيخ العرب “سعيد بونعيلات” هذا الذي سيطارد القاتل حتى يخمد أنفاسه الاستعمارية في غفلة من الأمن الفرنسي الذي توالت عليه الضربات من كل جانب بعد مؤامرة النفي.
أمام هول مشهد الاغتيال الشبيه إلى حد كبير بمقتل ولي عهد النمسا “فرانسوا فردناند” ذاك الحادث الشهير المؤدي إلى قيام الحرب العظمى،الفرق الوحيد أن علال ما استطاع أن يحوز سلاحا ناريا كما حصل عليه جوزيف برينسيب القومي الصربي وإلا كان “السلطان المزعوم” قد لفظ أنفاسه وسط ساحة المشور.كما أن كلا الحادثين قد أعطى الانطلاقة السريعة لشرارة أحداث قلبت الموازين.
تلك الساحة التي ظلت فيها جثة الشهيد علال مرمية لم يقربها أحد،ولم تدري الإقامة العامة ما تفعل بها، بل تعالت الأصوات متنازعة أمرها بين قادة الشرطة والجيش الاستعماري :
-هل يدفن هذا الثائر في مقبرة مدنية أم عسكرية؟
-أم تقذف جثة هذا الفدائي الشبح في قبر منسي،هذاالذي لم يعرفوا من أين خرج عليهم ليرعبهم بعدما توهموا أنهم غدوا آمنين؟
وحده قائد هضبة زعير،كبير المتعاونين مع الاستعمار “القائد امحمد الزعري” كان قد وجد خطة شيطانية أخرجتها نفسه الخبيثة من عقله الذي لا يفكر إلا في كيفية التذلل لأسياده الفرنسيين،فصاح القائد قائلا:
-أقترح يا سادة أن يدفن في قبر مجهول وسط ضيعتي بزعير،لا يعرف حتى الجني الأزرق مكانه.
وهكذا حمل علال البطل في سيارة القائد المتجبر ونقل بعيدا وسط منطقة زعير الشاسعة المساحة،لينتهي به المطاف قرب مدينة الرماني حيث أمر القائد امحمد رجاله بأن يستعجلوا في حفر حفرة عميقة في أحد حقول الذرة التي حازها القائد من أهلها ظلما وعدوانا.
سرعان ما طرحت جثة الشهيد علال،لم يغسل كما يفعل بجثث المسلمين ، ولم يكفن كما هي العادة،بل كان كفنه هو جلبابه الأبيض الذي ارتداه ساعة خروجه الأخير، كما كان طربوشه الأحمر هو رمز وطنيته الصادقة، لقد اختار علال كفنه من قبل،ربما كان حدسه قد أخبره أنه سينتهي به المطاف بين يدي الفرنسيين الذي كانوا على الأقل سيدفنونه في مقبرة ما، لا يهم إن كانت عسكرية أو مدنية..لكن أن ينتهي به المطاف عند قائد لا يحمل من الإسلام إلا الإسم.فيعامل جثمانه بتلك الوقاحة السادية فهذا الذي لم يكن يتصوره علال ولا غير علال.
-أحقا كان هؤلاء القواد أكثر جشعا من أسيادهم المعمرين؟؟
-لقد تشابه امحمد هذا مع الباشا الكلاوي والمتوكي والعيادي وعيسى بن عمر وبوحافة في جبروتهم على أبناء جلدتهم بالشكل الذي هانت عندهم كرامة المغاربة أبناء وطنهم.
وحدها الأيام ستكشف قبر علال، ومعها ستكشف خسة ولؤم القائد الزعري الخبيث،كان ذاك حينما هيأ القدر لعلال البطل رجلا صادق الوطنية كريم النفس، شيخ في التسعين كان شاهدا على حادث الدفن المأساوي،واعترف بقصة الدفن بعد أن لاحت رياح الاستقلال وعاد السلطان الشرعي من المنفى البعيد بجزيرة مدغشقر في العام 1955 للميلاد.
فقد كشف الشيخ الموقر عن علاقة القائد الخسيس بجثمان علال،وعلم هذا الأخير بأمر السلطان الذي كانت من أولى أوامره :
-“أن يكشف قبر الفدائي علال بن عبد الله”.
فلم يجد سبيلا بعد أن كشف أمره إلا أن يأتي القصر ذليلا حقيرا معترفا بما اقترفت يداه ومستنجدا العفو وإن كان لا يستحق كغيره من القواد الكبار،ثم اعترف بمكان دفن الشهيد علال وطريقة الدفن دون مراسيم تذكر،فأودي امحمد السجن وإن كان يستحق قطع الرقبة على ما فعل.
حمل جثمان علال إلى ساحة المشور في المكان الذي نفذ فيه عمليته البطولية،وأقيمت له مراسيم دفن رسمية تليق بما قدمه من تضحيات ، أقيمت عليه الصلاة،غسل وكفنت عظامه أو ما تبقى منها بعد سنتين قضاها جثمانه في طي المجهول.
رصعت كلمات السلطان محمد بن يوسف ذكرى علال بكلمات من ذهب رثى بها الملك العائد هذا الفدائي العظيم قائلا :
-“لقد أبينا إلا نظهر اليوم عنايتنا بإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية المقامة في المكان الذي سقط فيه علال بن عبد الله،ذلك البطل الصنديد الذي برهن على أن العرش منبعث من صميم الشعب المغربي…حتى سقط في ميدان الشرف صريعا،مخلفا للأجيال أعظم الأمثلة على التضحية والغيرة وحسن الوفاء”.
كانت يحق مراسيم مهيبة استحضر فيها المغاربة ملكا وشعبا شهداءهم الكثر،ومعاناتهم المريرة مع القواد الذي كانوا فرنسيين أكثر من فرنسا،كانوا كسرطان جثم على نفوسهم حد التكبيل،لقد كان علال شمعة حرقت نفسها لتنير دربا مظلما أدى في نهاية المطاف إلى حلم الاستقلال.
بدا الموكب الجنائزي بطيئ الخطى،تتقدمه الفرقة العسكرية في مشهد علاه الوقار،متجهين نحو “مقبرة الشهداء بالعاصمة الرباط،حيث ووري علال الثرى كخير ما يوارى الأبطال.
بعدها بعام سيقام نصب تذكاري لعلال الشهيد في المكان الذي سقط فيه قتيلا،كان ذاك تذكار يحمل معاني شتى:
-هي رسالة مشفرة إلى جلادي علال ” كويزا” و”امحمد” مفادها أن دوام الحال من المحال،وأن ذكرى الشهيد تظل حية راسخة،يعلوا بها شأنه ولو بعد حين.
– وفي النصب أيضا رسالة أخرى تخبر “صنيعة الاستعمار” السلطان المزعوم ابن عرفة الذي عاش بقية عمره الطويل شاردا في طنجة ثم لاجئا في نيس الفرنسية تخبره أن “العمر الطويل لا يخلد مجد الإنسان ما لم يترك أثرا يذكر به”.
كان الركب المودع لجثمان الشهيد ينصت للموسيقى العسكرية التي أدت التحية الأخيرة لعلال،وهم يسترجعون قصة “علال وابن عرفة “وكيف انقلبت فيها الأحداث رأسا على عقب، ربما كان طيف علال يهمس لهم من أسفل الحجارة وهو يرتجز:
-أنظر إليك يا ابن عرفة،لقد عمرت طويلا طريدا شريدا،ولما عدت للوطن بعد حين دفنت جثتك بقبر مجهول لا يحمل أي لقب ولا إشارة في سرية تامة؟
-أليس ذلك من عجيب الأقدار،وانقلاب الأدوار !!
بقلم إدريس النعيمي