مقالات

عن “تناطح” الرابورات.. ومؤشرات البوصلة المغربية

ظاهرة الانتشار السريع والكبير لأغاني الراب التي تطفح بسيل عارم من السبّ والشتم والتشويه والضرب تحت الحزام بين "نجوم الراب" في المغرب، ظاهرة تفصح عن رسائل اجتماعية وثقافية عميقة ينبغي الوقوف عليها من لدن المهتمين، من زوايا فكرية ثقافية، وزوايا سوسيولوجية، وزوايا قِيَمِية وتربوية، للنظر في هذا "الطوفان" الجارف من القبح والعفن والتردّي الهابط الذي يهجم على مسامعنا ومسامع أبنائنا بلا مِحْجَن ولا قِمْعٍ ولا مصفاة، فبقدر ما تعيد تلك "الأغاني" إنتاج ظاهرة الهجاء في الشعر العربي القديم، وتلاسن الجاهلية القَبَلِيَّة الأولى وامتداداتها في الهجاء الذي بلغ ذروته مع جرير والفرزدق بعد ذلك، فهي تستحضر كل قاموس البذاءة في الحط من الكرامة الآدمية والإمعان في الفضح والإهانة والتعييب، بلغة عارية جارحة خادشة للحياء، تعيد إنتاج أسوء ما تعرفه دهاليز الحياة الاجتماعية السوداء، ولغة الحانات والمواخير، وزنازين الجريمة والمخدرات والانحلال التام، في لغة تتوسّل بالفن، لتكرّس الانحطاط الأخلاقي، وتبث الكراهية، وتُشَرْعِن الابتذال والإسفاف.
لقد شكل "الراب" لونا غنائيا جديدا اتخذ منذ البداية بعدا سياسيا واجتماعيا، يعبّر عن القهر الاجتماعي، ويترجم صوت "الهامش"، مستلهما من حساسية النشأة في أمريكا، نضاله ضد العنصرية وإسهامه في تكريس الديمقراطية، بدفاعه عن الأقليات، واهتمامه بالفرد الذي سحقه الإهمال الإمبريالي، ورماه في "هوامش" المدن المتغوّلة، فكان هذا الفن بمثابة ثورة فنية، على الاقل على المستوى الشكلي، كلمات وصيغا إيقاعية، وأداء فرديا أو جماعيا، منسجما مع الحركة، ومعتمدا مفهوم "الغرابة" و"المخالفة" في اللباس والمظهر العام، بغية تكريس الحق في الاختلاف والاختيار الحر للأفراد.
وقد انتقل هذا الفن إلى المغرب مبكرا، وتميّز فيه مجموعة من الأفراد والمجموعات، وأبدعوا في التعبير عن مجموعة من القضايا، وترجموا هموما وهواجس، وشكلوا، طبعا، مجالا للاستقطاب السياسي من هذا المعسكرأو ذاك، في حين ظل آخرون، أوفياء للغة التمرّد السياسي أو الاجتماعي، واختاروا الإمعان في خرق الأنساق القيمية، وانتهاك الأوفاق التعبيرية بشكل كامل أحيانا.
ولسنا هنا بصدد التحامل على الراب وأهله، فإن فيه أصواتا متميزة، وأشاوس استخدموا فنّهم في حمل القيم الجمالية، والدفاع عن الحق، والتعبير عن صوت المقهورين المظلومين، واضطُهِدَ منهم من اضطُهد وحوكم من حوكم وهاجر من هاجر، غير أنني أود الإشارة إلى حجم التقبّل لدى فئة واسعة من شبابنا لهذه الموجة السوداء من الراب الهابط، الراب الذي يحيي "النتانة" الصراعية التي ميّزت التطاحن القبلي، ويزرع فتائل التوتر بين الأفراد والفئات الشبابية المتأثرة، وهو أمر يترجم خواء معرفيا وثقافيا وروحيا كبيرا يعيشه شبابنا اليوم، كما يشكل الانتشار الواسع لهذا الراب الهابط، تعبيرا ساخطا عن زمن الرداءة السياسية والثقافية والفنية التي يعيشها مغرب اليوم، وغياب أفق حضاري واعد، تسنده رؤية متماسكة، وإجراءات واعدة، مع إصرار عنيد على ترك الواقع الاجتماعي يختنق بلا حدود.
نعم، قد يكون في "تناطح" الرابورات، بعض "الفوائد" الجانبية كتسرّب بعض المعلومات والأسرار عن "شخصيات" عمومية تم ترسيمها في هذا الإطار بشكل رسمي، وقد يكون فيه إبداء بعض المواقف التي تظهر جريئة إزاء بعض سياسات النظام، طبعا ما دامت بعيدة عن صناديق الدعم ومنصات التتويج ولم تُمتَحن بنعمة أو نقمة، ولكن يبقى أن وظيفة الفن ليست هي بث الكراهية وتأجيج مشاعر الحقد، والتماس الفضيحة والتشنيع، والهبوط الأخلاقي بتوظيف لغة إباحية ماجنة تجرح مسامع الناس، وتحطّم كل الأعراف الذوقية والجمالية.
أتحدث عمّن يدعّم عفن المجاري، ويرسّم الانحطاط "الفني" والبؤس "الجمالي" في برامج إعلام نموّله من جيوبنا، في حين تتم محاصرة الأصوات الفنية الجادة في مجال الرّاب وغيره، وخنق الأنواع الغنائية الطربية، والتراث الغنائي المحلي.
أما إن كان للفنان وعي سياسي بما يُحاك، وموقف مسؤول ممّا يجري، ورأي يصدع به، وتحرّر شخصي من "الخط المرسوم" يتشبّث به، واستقلالية يحافظ عليها، فالباب موصد دونه، والدعم لن يحلم به يوما ما، وتبقى الهجرة مصيره الأوحد للخروج من "التابوت"..
وكل رقي فني وأنتم بخير.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى