مقالات

قضية الخاشقجي.. إلى أين

قبل الخوض، أو المخاطرة، في التعرض لقضية الخاشقجي، ولا سيما، في الاتجاه أو الاتجاهات التي يمكن أن تتخذه في القابل من الأيام، يجدر المرور سريعاً بإعلان حكومة نتنياهو تأجيل تنفيذ قرار اقتلاع أهالي الخان الأحمر إلى أجل غير مسمى. وهو القرار الذي سبق واتخذته حكومة نتنياهو، ودعمه قرار من المحكمة الصهيونية العليا بتنفيذه.

وبالفعل، حشدت حكومة نتنياهو ما تحتاج إليه من آليات لهدم مساكن أهلنا في الخان الأحمر وإزالتها، لتتم عملية اقتلاعهم بالقوة من المكان ومصادرته لمصلحة ما تسميه القدس الكبرى، أي استيطانه وتهويده، وحشدت كذلك القوات العسكرية التي تهيأت لاقتحام الخان الأحمر وتنفيذ القرار بالقوة الباطشة.

على أن ما حدث من الجانب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية أن تدفق العشرات بل المئات للاعتصام مع الأبطال من أهالي الخان الأحمر، بالرغم من صغر المكان وتواضع عدد أهله. وقد دامت هذه المواجهة بضعة أسابيع، والأهم أن جماهير القدس والضفة الغربية كانت تغلي من الغضب وترسل الإشارات بإطلاق انتفاضة، أو ما يشبهها، إذا ما وقعت المواجهة وطبق العدو تهديده باقتحام الخان الأحمر.

ولهذا، وفضلاً عن انضمام قوى دولية من الرأي العام ضد هذا الإجراء الذي يُعتبر “جريمة حرب”، اضطر العدو أمام الخوف من انتفاضة شعبية وتعاطف عالمي؛ لأن يتراجع عن قراره ويؤجله إلى أجل غير مسمى، مما يؤكد مرة أخرى أن موازين القوى لم تعد في مصلحته إذا ما واجه انتفاضة شعبية شاملة. فقد واجه فشلاً أمام انتفاضة مسيرة العودة الكبرى، وأمام رفع قواعد الاشتباك إلى مستوى صاروخ مقابل صاروخ، والتجرؤ على إطلاق طائرات وبالونات اللهب يومياً على مدى خمسة أشهر ويزيد، كما واجه الفشل في تموز/ يوليو 2017، أمام انتفاضة القدس العظيمة التي أطاحت بمشروع الأبواب الالكترونية خلال 12 يوماً من المواجهات.

فهل من قراءة جديدة لمعادلة الصراع؟

أما قضية جمال خاشقجي الذي دخل إلى القنصلية السعودية في إسطنبول لإجراء “معاملة” شخصية ولم يخرج منها حياً ماشياً على قدميه، مما نجم عن ذلك من حملات عالمية لا مثيل لها، بسبب ما تسرب من أخبار حول قتله وتقطيعه في القنصلية، وإخفاء جثته أو أشلائه. وكان أول دليل على ذلك تصويره داخلاً إلى السفارة، وعدم خروجه منها مصوراً كما دخل. وعندما أعلنت السعودية أنه خرج من السفارة، لم تستطع تقديم أي دليل على ذلك، ولم تعزز ذلك أيضاً آلات التصوير التركية المنصوبة علناً خارج أبواب القنصلية، كما فعلت في أثناء دخوله.

ومن هنا بدأت تكبر الحملات الإعلامية حول قضية جمال خاشقجي الصحفي المعروف، وذي الصلة السابقة بالمخابرات السعودية والداعم للسياسات السعودية في مواقفه ومقالاته، حتى تولي الملك سلمان للسلطة وتعيين محمد بن سلمان ولياً للعرش ووريثاً له.

إن أول ما تتوجب ملاحظته تتمثل في ردود الفعل الإعلامية والسياسية والاهتمام الرسمي والشعبي الإقليميين والدوليين. وقد وصلت ردود الفعل هذه إلى مستويات لم يسبق لها مثيل في حالات مشابهة، من خطف أو قتل أو تعذيب لمعارضين سياسيين، ربما كان بعضهم أهم بكثير من جمال خاشقجي، وذلك باعتبارهم زعماء شعبيين كبار، الأمر الذي يؤكد أن عالمنا الراهن يختلف عما سبقه من عوالم، وذلك بسبب فقدانه لمعادلة سيطرة دولية، كما كان الحال في مرحلة الحرب الباردة أو حتى بعدها بعقدين. فعالم اليوم الذي راحت قضية خاشقجي تسهم في كشف بعض سماته، هو عالم بلا نظام عالمي، متعدد القوى الدولية والإقليمية، وبإعلام منفلت، وبألوان اتصال على الإنترنت في متناول جميع الدول والأحزاب والجماعات والأفراد، وبحالة فوضى عارمة تتجاوز وكالات الأنباء الكبرى المسيطر عليها. لهذا، لا يمكن تفسير ما حظيت به قضية الخاشقجي من إعلام واهتمام دولي وشعبي بوجود “مايسترو” (قائد فرقة موسيقية)، أو مؤامرة دولية مدبرة، أو حالة مسيطراً عليها. إنها قضية أصبحت خارج السيطرة، وخارج اللفلفة، أو تمرير اللفلفة إلاّ بفضائح جديدة متولدة كالفطر.

فكل من حاول إخراجاً للقضية وجد نفسه وسط ورطة جديدة، ومعرضاً لضغوط سياسية تفرض عليه التبرؤ أو التراجع. وقد انطبق هذا مثلاً، وبالدرجة الأولى، على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فمنذ اللحظة الأولى، أو منذ تغريدته الأولى حتى اليوم، راح يتخبط وينتقل من ورطة إلى ورطة. فهو الذي أقنع ولي العهد محمد بن سلمان الممسك بالسلطة في السعودية، أن يعلن بأن القتل حدث عفوياً بسبب مشاجرة، وبأن يتهم ثمانية عشر رجلاً بالحادث دون علمه، ومن ثم يضعهم تحت التحقيق، ومنهم كبير مستشاريه وعدد من قادة الأجهزة الأمنية النافذين، وإذا بترامب الذي اعتبر الخطوة إيجابية جداً، بادئ ذي بدء. عاد ليعتبرها غير كافية، وذلك تحت ضغط الرأي العام الأمريكي المقبل الشهر القادم على انتخابات، كما تحت ضغط الزعماء الجمهوريين في الكونغرس. وقد اتفقوا مع الزعماء الديمقراطيين فيه على الذهاب بالقضية إلى حد التلويح باتهام محمد بن سلمان، وإنزال عقوبات بالسعودية.

فكل حل ينزل عن سقف اتهام محمد بن سلمان سيُصدم بمعارضة الجمهوريين والديمقراطيين المتحدين في الكونغرس، ويُعتبر تغطية له. وهنا لا يستطيع دونالد ترامب إلاّ أن يخضع للطرفين حين يتحدان، كما لا يستطيع أن يذهب إلى الانتخابات ليخسرها الجمهوريون في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. فتغطية القضية أصبحت بسبب ما وصلته من رأي عام أمريكي وعالمي، وبسبب المواقف الرسمية المعلنة أوروبياً، بل بسبب موقف ترامب نفسه الذي ألمح إلى أن ثبوت التهمة على محمد بن سلمان “سيكون الأمر سيئاً للغاية“.

هذا يعني أن محمد بن سلمان ووالده الملك سيواجهان القرار الصعب؛ حين يصبح الإفلات من مسؤولية محمد بن سلمان غير ممكن. ويصبح ترامب مضطراً للجوء إلى العقوبات، ولا سيما إذا لم تستطع تركيا تمديد إعلان نتائج ما قامت به من تحقيق إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية. ولأن لفلفة القضية بالنسبة إلى ترامب والسعودية غير ممكنة ما لم يُكشف عن مكان الجثة، ويا للهول إذا كانت مقطعة فعلاً، فالمتهمون الذين أعلن عنهم في السعودية هم الذين أخفوا الجثة، فلا يمكن الإدعاء بأنهم لا يعلمون.

حقاً لقد “أفلت المدق” كما يقول المثل، بسبب حال الوضع العالمي الراهن، بالنسبة إلى قضية جمال الخاشقجي. وأصبحت لفلفتها الآن في منتهى التعقيد والصعوبة، لا سيما بالنسبة إلى الغرب كله، وفي أخص الخصوص إلى أمريكا نفسها، فالوضع الأمريكي- الغربي، دولاً وإعلاماً ورأياً عاماً وأحزاباً، ذهب بعيداً في التعاطي مع هذه الجريمة، وأصبح أسيراً لما ذهب إليه مدىً ومستوى، مما جعل مستقبل محمد بن سلمان بين يديه، ومن ثم أصبح غير قادر أمام ما ذهب إليه من مدى ومستوى على لفلفة الموضوع دون المساس بولي العهد محمد بن سلمان.

ولهذا، يبدو أن لا إفلات له إلاّ من خلال الانقلاب إلى العالم المقابل، لا سيما روسيا والصين، وحتى تركيا وإيران. وهو العالم الذي تعاطى ساسته مع القضية أصلاً، ومن أساسها، تعاطياً مختلفاً نوعياً عن تعاطي أمريكا والغرب معها، ساسة وإعلاماً وتدخلاً. فمنجاة محمد بن سلمان الوحيدة إن أراد أن “ينجو” هو بإحداث هذا الانقلاب، وثمة إشارات أولية من روسيا والصين وتركيا على انتظار هذا الحدث؛ الحدث البعيد من أي تصور أو توقع بسبب طبيعة النظام السعودي الراهن، وعلاقته بأمريكا، ولا سيما محمد بن سلمان نفسه. إنه القرار الصعب، إما القبول بالتنحي، والله أعلم بالمصير بعده، وإما الذهاب إلى الانقلاب الصعب عليه بالقدر نفسه وأكثر. والتجربة مع الحكام عادة هي الذهاب إلى الخيار الثاني ما دام ممكناً وقائماً، وليس إلى التنحي الذي يعني النهاية. فعلى سبيل المثال، هذا ما فعله السلطان محمود الثاني إذ أدخل الروس إلى الآستانة لحمايته، وكانوا من ألدّ أعدائه، ولم يستسلم لمحمد علي الكبير الذي كان محاصِراً للآستانة، وكانت أوروبا مترددة في نصرته، أو غير جاهزة لردع جيش ابراهيم باشا، كما حدث لاحقاً بعد التدخل الروسي.

طبعاً، ذلكم هو ثمن الارتهان الكامل على أمريكا، ولا سيما على قيادة من نمط قيادة ترامب، ومن دون إبقاء أي طريق للتراجع، وذلك حين يصبح الخيار بين الانتحار والتراجع.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى