العرب والأتراك: إلى أين؟
على أرض «بُخارَى» و»بيكند» من بلاد ما وراء النهر، كانت بداية اللقاء بين العرب والترك مع بدايات النصف الثاني من القرن الأول الهجري، حين عبَر عبد الله بن زياد والي خراسان نهر جيحون لإيصال الإسلام إلى تلك البقاع.
جمَعَهما الإسلام، وعن طريق لُغة القرآن عبَر التركي إلى الشعوب العربية، وفي ظلّه خرج العرب والترك عن دائرة حصار القومية إلى العالمية.
جاءت سلالة «القرة خانيون» التركية التي اعتنقت الإسلام في القرن التاسع الميلادي، لتبدأ مسيرة الألف عام من استبدال كتابة التركية بالأحرف العربية، وربما كان كتاب «ديوان لغات الترك» لمحمود الكاشغري الذي صنفه عام 466 هـ أبرز الموسوعات العلمية التي عرّفت العرب بثقافة الترك، وأبرزت قيمة اللغة العربية في المكون الثقافي للأتراك.
تلمّس العرب في عهود الضعف قوةً إسلامية تجمع شتات الأمة، لذا قوبلت الدولة العثمانية الناشئة بارتياح لدى كثير من العرب، ازدادت بعد تمكُّن السلطان العثماني محمد بن مراد الثاني من تحقيق حلم المسلمين بفتح القسطنطينية عام 1453، وتدل على التفاعل والانصهار بين العرب والأتراك، تلك الرسائل المُتبادلة بين محمد الفاتح وبعض حكام العرب، التي حملت البشارة والتهاني ابتهاجا بالفتح.
وكانت للعثمانيين جهود كبيرة في حماية العرب من الأخطار الصليبية والصفوية، وأصبح اسم العثماني مرادفا لكلمة المسلم في أوروبا، فعندما كان يدخل أحد الأوروبيين في الإسلام قالوا عنه أنه صار عثمانيا. وأحبط العثمانيون محاولات برتغالية لاجتياح جِدّة في الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي، وقاموا بإنقاذ عرب شمال إفريقيا من البرتغاليين والإسبانيين، كما تصدوا للسفن الصليبية التي كانت تُغير على موانئ مصر والشام، وقاموا بتصفية القواعد والجيوب الصليبية، وكسروا شوكة الدولة الصفوية التي كادت تلتهم المنطقة، في معركة جالديران عام 1514.
أوْلت الدولة العثمانية الجزيرة العربية والحرمين اهتماما بالغا، ويذكر أن السلطان سليم الأول لقب نفسه «حامي حمى الحرمين الشريفين»، وكانت فكرة الخلافة الإسلامية قد اكتسبت عند الأتراك مغزىً جديدًا تجلّى في تأمين طرق الحج وحماية الأماكن المقدسة والدفاع عن الإسلام والمسلمين ووضعهم تحت شمسية الحماية، بحسب تعبير أكمل الدين إحسان أوغلي في كتابه «الدولة العثمانية تاريخ وحضارة». انصهار بين العرب والأتراك في ظل الراية الإسلامية على مدى قرون، وتلاحُم تاريخي يُعبّر عنه ما يقرب من خمسة وسبعين مليون وثيقة، هي تقريبا نصف عدد الوثائق الموجودة في الأرشيف العثماني.
ولا داعي لأن نُذكّر بأن الدولة العثمانية شأنها شأن كل الدول والإمبراطوريات كانت لها أخطاؤها ومثالِبُها، لكن في المُجمل كانت دولة تجمع القوميات المختلفة تحت راية جامعة، ولها جهودها التي لا ينكرها إلا مكابر في خدمة الأمة.
لم تحدث هذه القطيعة بين العرب والأتراك إلا في العهود الأخيرة للدولة، حين دبّ فيها الضعف، فتنامت النعرات القومية لدى الأتراك والعرب على السواء، وعمّق من آثارها احتضان الدول الأوروبية لرموز تلك النعرات من العرب، حتى سقطت الخلافة العثمانية.
وجاءت المناهج العلمية لدى الجانبين ناقمة على الطرف الآخر وتُشيْطِنُه، فالعرب صوّروا الأتراك على أنهم غزاة محتلون، والأتراك اتهموا العرب بالخيانة، وأمعن النظام الأتاتوركي في فصل الأتراك عن العرب، حيث رأى أن صياغة الشخصية التركية الجديدة تتطلّب التقارب مع الغرب وقطع الصلة بالعرب.
وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك محاولات تركية جادة لإعادة الجمهورية التركية إلى العالم الإسلامي العربي، كان أبرزها ما قام به نجم الدين أربكان، الذي أدرك أن المجال الحيوي لبلاده ينبغي أن يكون الدول العربية الإسلامية، وبلْور ذلك في تأسيس مجموعة الثماني الإسلامية، فبدأت العلاقة بين العرب والأتراك في الانتعاش. وجاء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في بداية الألفية الجديدة، ليصرّح الزعيم أردوغان بنيَّتِه في إعادة دولته إلى أحضان العرب والمسلمين، وتُرجمت هذه التوجُّهات إلى واقع من العلاقات القوية والجادة على كافة الأصعدة مع عدة دول عربية، ووجّه اهتمامه إلى تصفير النزاعات والتكامل مع الدول العربية.
ربما كانت فرصة مثالية ليتوافق العرب والأتراك، يستطيع بها الجانبان تعزيز مكانتهما في المجتمع الدولي في عصر التكتلات والتحالفات، والخروج بذلك عن التبعية للشرق والغرب، والاستقلالية في القرار السياسي، لكن الواقع حمل لنا اتجاها عربيا صادمًا، يسير في اتجاه القطيعة والتجافي مع تركيا.
دولٌ عربية تُمول الانقلاب الفاشل في تركيا، وتدعم الكيان الموازي والتنظيمات الإرهابية التركية التي تستهدف زعزعة الأمن داخل الجمهورية. ودول تطلق إعلامها للترويج ضد القيادة التركية واتهامها بالفاشية والديكتاتورية، والتضخيم من شأن انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، والدعوة لمقاطعة السياحة في تركيا، وتشويه التاريخ العثماني، واتهام أردوغان بدعم الإرهاب. سلسلة لا تنتهي من التحركات من قِبل بعض الدول العربية للإجهاز على النظام التركي، تنسجم وتتزامن مع جهود غربية للإطاحة بأردوغان وفريقه، تجعلنا نتساءل: لماذا؟
هل حقًا لأن تركيا تدعم الإرهاب؟
كيف وهي التي تكتوي بنيرانه وتحاربه بكل قوة داخل وخارج حدودها؟
هل لأن تركيا تتدخل في شؤون الدول العربية؟
فما صورة هذا التدخل؟ هل وجّهت قوتها العسكرية ضد مصالح الدول العربية؟
لسنا في حاجة للتذكير بأن عملية «غصن الزيتون» التي قام بها الجيش التركي في الشمال السوري حق مشروع لمنع إقامة دولة كردية تهدد الأمن القومي التركي، فتركيا لم تتدخل إلا بإقامة علاقات اقتصادية وعسكرية وتقديم مساعدات لعدة دول عربية منها فلسطين والسودان وتونس والصومال واليمن. هل فعلا يخشى العرب من مشروع تركي يعيد جغرافيا الدولة العثمانية مترامية الأطراف؟
في ظني أنها مجرد فزاعة تختفي وراءها مآرب أخرى، فالقوة الناعمة والتأثير السياسي والاقتصادي أصبح أشد قوة من الاحتلال العسكري.
فمن وجهة نظري لا يخرج تفسير هذه الحرب الضروس على تركيا عن هذه الأسباب:
أولها أن بعض الدول العربية غارقة في التبعية لأمريكا حتى النخاع، وتتحرك نحو تركيا بحسب قوة العلاقات الأمريكية التركية، التي بدأت تتأزّم منذ فترة. والثاني هي تلك النعرات القومية التي لا تزال تسيطر على بعض النخب السياسية والثقافية والإعلامية. والثالث مساندة تركيا لثورات الربيع العربي ضد ديكتاتورية الأنظمة.
الأولى بتلك الأنظمة العربية ومؤسساتها الإعلامية أن تدع تركيا وشأنها إن لم ترغب في الاستفادة من دعم العلاقات معها، ليست تركيا هي الخطر الذي يحيق بالدول العربية، وليس الصهاينة أقرب إليها من تركيا. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.