مهلا يا حامل القرآن (رسالة إلى الشيخ العفاسي)
لما قُتل زيد بن الخطاب في معركة اليمامة، وسقطت منه الراية، أخذها سالم مولى أبي حذيفة، أحد الأربعة من حملة القرآن الذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، فقيل له: يا سالم إنا نخاف أن نُؤتى من قِبَلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أُتيتم من قبلي.
إنها روعة استشعار المسؤولية لحامل القرآن، الذي وعى بين جنبيه كلام الله، وتمثَّلَهُ منهجا واقعيا، يُترجم تعاليمه، وينطلق بحيويته لحراسة الدين، فيرى أن حامل القرآن لا ينبغي له أن يكون ثغرة تنفذ من خلالها المكارِهُ إلى الأمة.
فمن كان من أهل القرآن فقد ازدادت أعباؤه تجاه الدين، لأنه ليس مع غيره في الأجر والمثوبة سواء، ولذا كان لزاما عليه أن يترجم آيات القرآن إلى سلوك واعٍ، وتلك نصيحة أبي حذيفة الذهبية: “يا أهل القرآن، زيِّنوا القرآن بالفعال”.
الشيخ مشاري بن راشد العفاسي، أحد حملة القرآن في عصرنا الذين بلغت شهرتهم الآفاق، تربى على تلاوته جيل من النشء والبالغين، وأتْبع جهوده في خدمة القرآن بجهود أخرى تتعلق بالإنشاد الديني المؤثر.
ولكن مالي أرى حامل القرآن بدلا من سد الثغرة يُحدِثُها؟ وبدلا من وأْد الفتنة يُوقظها؟
ولأننا نُجلّ حَمَلة كتاب الله، فقد آثرنا لين الخطاب، فإما أن يصله القول فيراجع نفسه، أو على الأقل تكون الكلمات بيانا للحق.
فجأة وبدون مقدمات تُذكر، تطوّع الشيخ العفاسي لأن يحمل على عاتقه مهمة الهجوم على حماس والإخوان وما يعرف بتيار السروريين.
الشيخ قد صرح بأنه لن يسكت على جرائم الإخوان، وتحت لواء “جهاد الكلمة”، طالَبَ شباب العقيدة بفضح أم الجماعات الضالة (الإخوان).
والله لا أجد ما أرد به على ذلك غير قول إياس بن معاوية لمن ذكر أخاه بسوء: “أغزوت الروم؟ قال: لا. قال: فالسند والهند والترك؟ قال: لا. قال: أفَسلِم منك الروم والسند والهند والترْك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟”.
وبدوري أسأل الشيخ: هل رفعت لواء جهاد الكلمة ضد العلمانية؟ ضد الليبرالية؟ ضد الشيعة؟ ضد الرأسمالية؟ ضد الإمبريالية الأمريكية؟ ضد الأنظمة الجائرة المستبدة؟
سلم منك هؤلاء الذين اتفقت عليهم الكلمة في ضلالهم، ولم يسلم منك إخوانك الذين لهم حسناتهم وسيئاتهم ورفعوا راية الدفاع عن الدين وأرض المسلمين؟!
ومن جهة أخرى أسأله: لو كان هجومك على حماس والإخوان مسألة شرعية، لماذا تأخرت في الرد عليهم طيلة هذه السنوات؟ أما علمت يا حامل القرآن أن القاعدة الأصولية تقول: “لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة”؟
إني أعظك يا شيخ أن تكون طرفًا في معارك الاستقطابات، أو تُستغل لصالح أنظمة وحكومات تُحركها هواجس الانقضاض الإخواني على عروشهم.
أطابت نفسك أن تهاجم الفئة الوحيدة التي توجه الصواريخ ناحية الصهاينة في العالم؟ عن حركة حماس أتحدث، تلك الحركة المجاهدة التي كان نضالها هو الضامن الوحيد للجلوس على مائدة المفاوضات مع الاحتلال، الذي لم يكن ليعبأ بالتفاوض إلا تحت ضغط الصواريخ.
وصفتَها بأنها حركة إيرانية وسلبْتها خصوصيتها في العمل في الإطار الفلسطيني لتحرير الأقصى، كان الأولى بك أن تنتقد الدول العربية التي تخلت عن حماس بل وناصبتْها العداء، وألجأتها إلى توطيد العلاقات مع العدو الإيراني للحصول على الدعم والمساعدات، بعد أن تقطّعت بها السبل.
لم تتحدث عن الأنظمة التي طبّعت العلاقات مع الصهاينة واعترفت بحقها في التعايش بسلام على الأرض التي اغتصبتها من الفلسطينيين، وكِلْت الاتهامات إلى حماس لتقاربها مع إيران.
نعم حماس أراها قد أخطأت التقدير، ولكن ألا يصلح أن نضع الحركة في ميزان النقد السليم؟ هل نهدم جهود تلك الحركة عبر عقود ضد المحتل الصهيوني لمجرد أنها أخطأت التقدير في إحدى القضايا؟
رأيتك تهاجم بضراوة حركة حماس لأنها ندّدت بالضربات الأمريكية البريطانية الفرنسية على مواقع عسكرية تابعة لنظام بشار، فلماذا لم تتبع المسلك نفسه مع الموقف المصري؟ ألم تر تلك الحملة التي شنها الإعلام الموالي للنظام ضد الهجمات؟ ألم تر تلميعه وإبرازه للصمود المزعوم لدفاعات نظام الأسد؟ مع الفارق أن النظام المصري ليس مضطرا لذلك كما هو الحال في شأن حماس التي تنظر إلى مجريات الأمور الإقليمية والعالمية من منظور الصراع مع الصهاينة.
ألْفَيْتُك يا شيخ في تغريداتك تتحدث عن أدب الحوار والنقد والنصح، لكنك وقعت في التناقض حينما أكثرت من إعادة تغريدات السباب والشتم والسخرية من حماس والإخوان، وأنت تعلم يقينا أن إعادتك لتلك التغريدات المسيئة غير المهذبة إقرار منك لها، ولن يعفيك ذلك من تهمة الإساءة واتباع أسلوب التجريح والتشويه والخروج عن إطار النقد البناء.
تقول إن الإخوان يسيئون لعلماء السنة وكبار العلماء، ثم تقع أنت في أعراض علماء السنة أمثال الشيخ القرضاوي، وتتهمه بالتلون والبيع والشراء بدين الله، فهل المبادئ تتجزأ يا حامل القرآن؟ هل الوقوع في أعراض العلماء يمنعه أو يسوغه انتماؤهم لجماعة الإخوان أو عدمه؟
وهالَنِي أنْ رأيتك تسلك مسلك من يلوي أعناق النصوص، اقتبستَ من رسائل حسن البنا ما تستدل به على أن الجماعة تكفيرية، تكفِّر كل من لا ينضوي تحت لوائها، وأعني قول البنا: “كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظَّ له في الإسلام”.
ولو أن أي طويلب علم قرأها دون خلفية الكراهية، لقطع بأن البنا يقصد المنهج الإسلامي والفكرة الإسلامية التي لا يسع أحد الخروج عنها أو عليها، ولذا لم يتناول كبار أهل العلم كلمات البنا بنحو ما ذكر الشيخ العفاسي.
وهل من الإنصاف تعيين منهج شخص من خلال كلمتين دون جمع أطراف نصوص مؤلفاته بعضها إلى بعض حتى نحدد هل كان تكفيرا أم لا؟
يا حامل القرآن، الإخوان أبعد الجماعات عن التكفير، بل إن التيار السلفي بالأساس دائما يتهمهم بتمييع العقيدة والتهاون في أحكام الإيمان والكفر، وإن جماعات التشدد والتطرف والتفكير إنما خرجت من عباءة التيار السلفي لا الإخوان، وحتى جماعة التكفير والهجرة التي نشأت في سجون عبد الناصر أسسها بعض الإخوان الذين فقدوا صوابهم تحت وطأة التعذيب البشع، ثم تراجعوا عن تلك المبادئ، غير أن شابا واحدا ظل على هذا الفكر، وجمع حوله بعض الأنصار بعد خروجه من السجن، ولم يبق لهذا الجماعة أثر يُذكر في مصر بعد أن واجهها الإسلاميون ومن بينهم الإخوان الذين ألّف أحد مرشديهم كتاب “دعاة لا قضاة”.
لقد خضتَ في سيد قطب الذي لا تخلو مكتبة إسلامية من كتابه “في ظلال القرآن”، ولم تفرّق بين ما كتب قبل توجهه الإسلامي وبين ما كتب بعده، واتبعتَ غيرك في بتر نصوص كلامه عن سياقها، فأظهرتَهُ مارقا عدوا للعقيدة، وأوردتَ آراء بعض العلماء فيه، وأعرضتَ عن بعض، فهل هذا منهج الحكم على الآخرين يا حامل القرآن.
ولم يسلم منك حتى سلمان العودة الذي سُجن بغير ذنب سوى أنه دعا للإصلاح بين الأشقاء الخليجيين، ولم يركب موجة التطبيل، فسلطتَ عليه سيف قلمك لأنك تصنفه سروريا، وهو الرجل- الذي قضى سنوات عمره في الحديث إلى المجتمع والشباب خاصة، بأمور جامعة ومشتركات يجتمع عليها الكل، ولم يتطرق إلى الواقع السياسي للأنظمة لعلمه أن إصلاح القاعدة الجماهيرية أولى- ، يستحق هذا منك؟!
تُهاجم حماس والإخوان والسروريين، سيرا على نفس النمط الذي يسير عليه بعض حكام المنطقة، الذين ينطلقون من نفس المنطلقات: معاداة التيار الإسلامي خوفا على العروش، وحفاظا على العلاقات مع العدو الصهيوني.
يا حامل القرآن، الإخوان ليسوا ملائكة، ولكنهم ليسوا كذلك شياطين، أولى لك أن ترفع لواء جهاد الكلمة ضد أعداء الأمة الحقيقيين.
وإني أُشهد الله الذي لا إله سواه، بأنني لا أنتمي إلى أي فصيل فكريا كان أو تنظيميا، لا الإخوان ولا غيرهم، وكل ما يشغلني هو إحقاق الحق، ونصرة المظلوم، والدفاع عن قضايا أُمّة محمد صلى الله عليه وسلّم.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.