أربعة عوامل في تفسير الأزمة الإيرانية
تماما مثلما تقرأ مجتمعاتنا الكثير من أحداث التاريخ على أنها مدبرة من عدو خارجي قد يكون هو عبد الله بن سبأ أو غيره، فإنه يتم استدعاء نظرية المؤامرة على نحو مطرد لتفسير أحداث الحاضر، تم ذلك إبان ما اصطلح عليه بالربيع العربي، ويتم الآن في مستهل سنة 2018 في تفسير الانتفاضة الشعبية بإيران، لكن هل يفترض أن ننكر وجود العامل الخارجي كليا؟ كلا فنحن نعرف من خبرة الماضي والحاضر أن المؤامرة لم تتوقف يوما، لكن التفسير والقراءة المتوازنة للأحداث تفرض علينا أن ندرك الطبيعة المركبة للظاهرة الاجتماعية، فهي لا تشبه الظاهرة الطبيعية في ثبات قواعدها ومتغيراتها الحاكمة، بل تحكمها عوامل داخلية وأخرى خارجية، والعوامل الداخلية هي المتغيرات الأساسية للظاهرة بينما العوامل الخارجية تبقى عوامل ثانوية أو فرعية لاستنادها دائما على العامل الداخلي.
ومن هذا المنطق فإن الحراك السياسي بإيران تحكمه عوامل داخلية أساسا، رغم وجود أجندات خارجية متربصة بسبب خصوصية إيران ضمن نسق السياسة الدولية، إذ تصنف بكونها من بقايا الأنظمة الممانعة للنظام الدولي الجديد شأنها شأن دول أخرى مثل كوريا الشمالية.
فإيران مثل باقي أنظمة الشرق الإسلامي تفتقد لنظام سياسي مستقر رغم أن وضعها أفضل نسبيا من سائر محيطها الإقليمي، بسبب ما وفرته الثورة الإيرانية من حاضنة شعبية،وبالنظرلطبيعتها الطائفية التي تمنحها مشروعية دينية وتاريخية باعتبارها دولة المذهب.
لكن السبب الأساسي في عدم استقرار نظامها يمكن إرجاعه لأربعة عوامل أساسية:
العامل الأول: هو عدم قيام الدولة على أساس ميثاقي تعاقدي بين الشعب الإيراني بمختلف مكوناته. بل تم الاستعاضة عن الشرعية التعاقدية بالشرعية الثورية والشرعية الدينية، يدعمها عامل سيكولوجي تاريخي وهو الولاء للطائفة الشيعية الإثناعشرية الإمامية، التي يشكل المنتسبين إليها حسب إحصائيات محايدة وغير رسمية أكثر من80 بالمائة، لكن ليسوا بالضرورة جميعهم من أنصار نظرية ولاية الفقيه.
العامل الثاني:يتمثل في عدم إقامة التوازن بين السياسات الخارجية المنتهجة من قبل الدولة، والتي لا يتحكم فيها رئيس الجمهورية نفسه، والسياسات الداخلية المتعلقة بالوضع الاجتماعي والاقتصادي، ويمكن التدليل على ذلك من خلال تتبع حجم الإنفاق العسكري التي تضاعف في عهد روحاني ثلاث مرات، وكان بدون شك على حساب الموازنة العامة وتقلص النفقات الاجتماعية، ورفع الدعم عن الكثير من المواد الأساسية والقطاعات الاقتصادية، مما أحدث ضررا اقتصاديا ملحوظا لفئات واسعة من الطبقة الوسطى، فكان دافعالها للانخراط في الحركة الاحتجاجية بشكل واسع.
أما العامل الثالث فهو عامل التآكل الداخلي، وتناقضات النظام السياسي نفسه ساهمت في حفز المجتمع وتشجيعه على الاحتجاج، فليس من السهل مهما كانت المعاناةأن تتشكل الكتلة الاحتجاجية في النظم القمعية دون وجود عوامل محفزة، ففي البلدان العربية المجاورة لإيران أوضاع أكثر تفاقما، دون أن توجد عوامل محفزة على الفعل الاحتجاجي. فإيران تشهد الانتفاضة الشعبية الخامسة لها منذ قيام الثورة، وقد كان انطلاق شرارة الانتفاضة الأخيرة مع قيام مجموعات من داخل النظام نفسه (مجموعات من البسيج، والمرشح الخاسر في الرئاسيات: رئيسي) بالدعوة لشكل احتجاجي ضد التدهور الاقتصادي والخسائر المالية التي تكبدوها من انهيار بعض المؤسسات المالية بمشهد، وكذلك الاحتجاج على الاتفاق النووي الذي لم تستفد منه إيران اقتصاديا، وواضح أن الدولة غضت الطرف عنه بداية لتوظيفه في إطار حيوية النظام السياسي من جهة، ولاستثماره ضد الرئيس روحاني وإضعافه سياسيا في الانتخابات القادمة من جهة ثانية. لكن مالم يكن في الحسبان أن احتجاجات مشهد ستشكل حافزا لتوسع الحراك الشعبي وتمدده لباقي المدن وانضمام قطاعات شعبية عريضة إليه. وهو آخر ما كان يتوقعه قادة السياسة الداخلية بإيران المنشغلين بالجبهات الخارجية، وحروب الاستنزاف المستمرة في العراق واليمن وسوريا.
وهذا العامل الثالث هو الذي يستدعي العامل الرابع المتعلق بحجم ومستوى التدخل الأجنبي في الوضع الداخلي الإيراني. فالولايات المتحدة وإسرائيل وحليفيهما في الخليج (الإمارات والسعودية)، من الأكيد أن لديهم شبكات من المخبرين والمتعاونين أو من تربطهم بهم أشكال معينة من التنسيق السياسي والعسكري واللوجيستي لتسهيل عمليات الاختراق، يتم بخلفيات مختلفة (دينية وثقافية وأكاديمية واعلامية واقتصادية وسياحية…)، وسيكون من غير المنطقي تجاهل دورهم في دعم أي حركة احتجاجية والسعي لاستغلال الوضع الداخلي متى سنحت الفرصة.
غير أنه من الواضح أن العامل الخارجي لا يمكنه أن يكون المحرك الأساسي للثورات والانتفاضات لاسيما في دولة مثل إيران.
كما أنه من المستبعد أن تكون للانتفاضة الحالية القدرة على التحول إلى ثورة حقيقية تغير المشهد السياسي بإيران، لثلاثة أسباب:
1-توفر النظام على حاضنة شعبية واسعة، ولاؤها للنظام شبه مطلق يمتزج فيه الديني بالسياسي (لأن الخامنئي منذ تعيينه مرشدا للجمهورية بات يجمع بين سلطة المرجع الديني والسلطة الزمنية)، كما أن مؤسسات الدولة وخصوصا المؤسسة العسكرية والأمنية لها ولاء عقائدي مطلق للنظام وتشعر بالانتشاء من إنجازات النظام العسكرية خارجيا، ومن المستبعد على محور (أمريكا إسرائيل السعودية الإمارات) اختراق هذه المؤسسة وإحداث انقلاب دموي يغير وجهة التاريخ والأحداث كما حدث في مصر سنة 2012 في انقلاب عبد الفتاح السيسي .
2-عدم وجود مشاريع سياسية ثورية أو رؤية بديلة لدى المعارضة الإيرانية وافتقادها للرموز الفكرية والسياسية المؤثرة، بالنظر لتشتت قواها وتنوعها الى حساسيات عرقية ومذهبية وإديولوجية وثقافية وغياب التنسيق بين مكوناتها.
3-قدرة النظام الإيراني على احتواء وامتصاص أي حركة احتجاجية، إما من خلال إجراءات سياسية مرنة تصل لحد السماح لشخصيات إصلاحية غير محسوبة على النظام بالوصول لرئاسة الدولة (نموذج خاتمي وروحاني)، أو من خلال عمليات القمع والترهيب الواسعة تجاه المعارضين والتشويه الإعلامي لهم عبر ربطهم بالمصالح والاجندات الخارجية. وكلا الأسلوبين (العصا والجزرة) انتهجها النظام الإيراني في ضبط المشهد السياسي منذ قيام نظام الثورة سنة 1979.