الأنتلجنسيا العربية وثورات الربيع العربي
الأنتلجنسيا العربية وثورات الربيع العربي :الملابسات الثقافية والتداعيات الحضارية
_الجزء الأول_
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر… ظل قوم لا يدرون ما الخبر.
بيت شعري على قلة حروفه لكن معانيه تحمل الكثير من الدلالات والسياقات التاريخية والحضارية التي تختزل العديد من الملامح المشكلة لتطور الأمم، لتميط لنا اللثام مبرزة تلك الملامح الكاشفة لبواطن ما اكتنف التاريخ من أحداث وصراعات بشرية، مشكلة بذلك منعرجات حضارية خطيرة رفعت أمما عاليا في السماء وأسقطت أخرى أرضا في حين أخرجت الكثير من سياقها تماما معلنة أن لا مكان لها على الركح الحضاري لتحولات العالم وسياقاته، فالركح يا سادة شعاره كن أو لا تكن حكر على الأقوياء لا مكان فيه للضعفاء والجدير فيه بحمل وسام البطولة الحضاري من يثبت وجوده لا استسلامه.
لطالما عرف عبر التاريخ المشاركة الفاعلة للمثقفين في توجيه الفعل الثقافي والحراك الثوري المسار الصحيح الذي يخدم توجهات حضارتهم، ولعل أبزر مثال على ذلك ثورة الطلاب بفرنسا 1968 التي حمل لواءها مجموعة من الشباب المثقف الواعي، وساعد في ذلك الحراك السياسي والثقافي العديد من الأقطاب الفكرية بفرنسا أمثال جون بول سارتر و موريس بلونشو الذين قاموا بتوجيهها بما يخدم المنظومة الاجتماعية والسياسية …وغيرها من النظم هناك بفرنسا، لتصبح هذه الأحداث بمثابة فتوحات لقرن جديد لتفتح آفاق الثقافة الفرنسية والعالم بأكمله على تيارات فكرية جديدة كان لها الدور الفاعل في تحريك الحراك الثقافي بفرنسا والعالم أجمع.
والمتتبع للحراك الثقافي بوطننا العربي في علاقته بما سمي بثورات الربيع العربي والرؤى الثقافية والفكرية التي استندت عليها هذه الحركات الثورية يقف على أن المثقف العربي أصبح يعيش محنة تاريخية حقيقية وأزمة حضارية شديدة، فهذه الثورات هي منعرج خطير ارتطمنا به في لحظة تاريخية، لتغير العديد من الرؤى والأفكار بالوطن العربي، والملفت للانتباه أن المثقف العربي أصبح يعيش داخل برجه العاجي مفضلا الهروب على المواجهة والسكون على الحراك في أعز حاجة الأمة له، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات التي تبحث في أسباب ودواعي التخلي شبه الكلي للمثقف العربي عن دوره كمثقف عضوي في الحراك السياسي والاجتماعي…إلخ، فهاهو المثقف العضوي الغرامشي في نسخته العربية تتصاعد روحه على أعتاب ثورة الياسمين مستبشرة بتلك الورود، لتهرع مهرولة نحو طرابلس ليبيا لكن أي فجيعة رأتها هناك، لتطل بعدها بخطفة سريعة على ميدان التحرير تنوح نواح من فقد عزه لحظة غدر انقلابي، لتتناثر في ما بعد على أسوار مسجدنا الأموي معلنة الخذلان ورفع الرايات البيضاء وكأن الأمر لا يعنيها بتاتا.
إن المثقف العربي بات اليوم في ظل الهجمات الثقافية الشرسة للأفكار أكثر من ذي قبل مطالبا بالتطوير النوعي في مسيرته، فهناك تخبط كبير لدى مثقفينا بجميع تياراتهم في نظرتهم لأنفسهم فضلا عن الآخر، وهو ما شاهدناه من خلال اعتبار الصهيوني برنارد ليفي عرابا للثورات العربية حيث حمل على الأكتاف، ورحب به وكأنه الفاتح المغوار الذي كانت الأمة العربية تنتظره، فصور الاحتفاء به في طرابلس ليبيا وغيرها توحي للمشاهد وكأن به ذاك السوبرمان النيتشوي المنقذ الذي جاء لأمة العرب هكذا صدفة في لحظة تاريخية ليكون الخلاص لهم من طغيان جثم على قلوبهم لسنوات، في حين نجد مثقفينا مازالوا يتخبطون في حالة الانفعال وردود الأفعال بدل أن تنتج حركتهم عن فعل ذاتي بعيدا عن مكبوتات العلاقات مع أنواع السلط المختلفة، خاصة منها تلك الخطابات الغربية المغرضة.
فالخطابات الثقافية الغربية التي راجت أثناء وبعد ثورات الربيع العربي في كبرى وكالات الأنباء ك CNN وغيرها من وكالات الأنباء العالمية فكبار المفكرين المستقبلون على برامجها الشهيرة تكشف خطاباتهم عن تلك الرسائل التي تمرر من خلالها النظرة الفوقية المشبعة بالمركزية الغربية Central Western التي رسمها الاستشراق التقليدي، ويعمل الاستشراق الجديد على ترسيخها حاليا، وحتى وكالات الأنباء العربية منها نقف في خطاباتها على تلك الانزلاقات التحريضية على العنف والحقد الراسخ على ذوي التوجه السياسي الديني خاصة في الثورة المصرية وكأنهم ليسوا جزءا من المنظومة الاجتماعية والثقافية لهذا المجتمع، إلى جانب صور الاحتفاء بالآخر بدل توجيه هذا الحراك نحو ما يخدم مصالح شعوبنا وحكوماتنا فرحنا نلهث وراء شعارات رنانة دون أي تفعيل لها على أرض الواقع، بل إن البعض من هذه القنوات ذهب إلى الإعلاء من شأن هذا الجنس الغريب عن طبيعة ثقافتنا وتصييرهم إياه بأن أفكاره أفكار نورانية تشبه أفكار عصر الأنوار، متجاهلين بأن السياق التاريخي والحضاري والثقافي يختلف كليا عن عصر أنوارهم، لترتسم في أذهاننا بأن خلاصنا مرتبط ببرنارد ليفي ومن قبله لورنس العرب…وغيرهم الكثير ممن مروا على تاريخنا العربي الزاخر بأمثالهم، وكأن مجتمعاتنا العربية لا تتعلم من التاريخ، أو ليس لها مفكرون يوجهون حراكها التاريخ والحضاري،
وهو ما يستدعي منا التساؤل عن سر هذا التغييب لأمثال مالك بن نبي أو حسن البنا أو البوطي أو الزنداني هناك بيمننا السعيد القريح أهو تغييب متعمد أم ماذا،
أم أن سياسة تكميم الأفواه نسق متأصل في أنظمتنا العربية لا يمكن الخلاص منه…
تبقى الأسئلة مطروحة لعل الإجابة عنها تعجل طريقها إلينا قريبا.
وسط هذا العبث المتزايد يوما بعد يوم يعود بنا التاريخ لحادثة خلق القرآن فأي نوع من المثقف ذاك الشهم أحمد بن حنبل وأي بطن مباركة تلك التي حملته حتى يكتسب تلك القوة الرهيبة للوقوف في وجه السلطان الجائر، هذا النموذج الحضاري الذي سطر اسمه في تاريخنا بماء الذهب ليحفظ في لحظة حضارية معنى أن تكون مثقفا، هذا البطل التاريخي يعود بنا من جديد لحادثة ذاك الإمام المثقف مع بورقيبة عندما خرج لوسائل الإعلام قائلا أن صدق الله وكذب بورقيبة معلنا في السماء عاليا أن الإفطار في رمضان حرام والصيام لن يقلل من الإنتاج، ليحفظ من جديد أركان ديننا ولعل هذا ما جر المفكر الفلسطيني الأمريكي ادوارد سعيد إلى القول في كتابه تمثيلات المثقف من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الانساني وعلى التواصل ما بين البشر1 . فأين هو المثقف العربي الذي عرف مثلا بعد نكسة حزيران 1967 ذاك المثقف الذي كان يهز الجماهير هزا بكلمة أو إشارة منه
أين هو أمثال المثقف الحر خليل حاوي الذي أطلق النار على نفسه نتيجة عدم قدرته على أن يبقى مكتوف اليدين أمام العدوان الصهيوني على بيروت سنة 1982
أين هم علماء الزيتونة ومثقفيها أمام هذه الظواهر الغريبة التي استفحلت بالمجتمع التونسي من مثل دعوة الكثيرات إلى ضرورة تشريع التعدد للمرأة …
ناهيك عن تلك القضية الغريبة العجيبة حول الميراث في دعوتهن الصريحة إلى تحقيق المساواة بينهن وبين الرجال…