الخطايا السبع لحكومة العثماني
قد يبدو أي تقييم لعمل حكومة العثماني في هذا التوقيت محاكمة سابقة لأوانها، والحقيقة أن بعضا من أصدقائي المثقفين ممن لا انتماء سياسي لهم يقولون لي أنه يجب إعطاء الفريق الحكومي الجديد الفرصة الكافية وعدم تقييم أدائه إلا في الوقت المناسب بناء على أعماله ونتائجه. وحتى لو كان الأمر كذلك فإن بعض الإشارات الواردة قبل الأوان تحيل على نوع من الإفلاس السياسي والاقتصادي في المستقبل فالطريقة التي دبرت بها الحكومة ملف الريف إضافة إلى الفراغ الحاصل على مستوى قانون المالية لسنة 2017 تظهر من الآن ضعف وغياب الاحترافية عن بعض كبار المسؤولين الحكوميين.
هذا التمرين التقييمي السابق لأوانه هو تعبير عن آراء شخصية رغم كوني أنتمي إلى عائلة سياسية تعرضت للإقصاء التعسفي من المشاركة في التحالف الحكومي تحت ذرائع واهية كما أعلن عن ذلك من خلال خطاب مؤسف لأمينه العام (موضع الخلاف)، وذلك على الرغم من كونه (الحزب) كان مستعدا بشكل طبيعي للانضمام إلى الفريق الحكومي وكونه يتوفر على كفاءات تسييرية ظلت تميزه دوما بفضل تجربته الكبيرة في مجال تسيير شؤون الدولة وارتباطه الدائم بالمؤسسة الملكية. بعبارة أخرى، لقد كان نوعا من الطلاق أحادي الجانب والعنيف ذاك الذي خبرته النخبة الاستقلالية بكل ألم، مما قد يجعل البعض يعتقد أن هذا المقال هو نوع من التعبير عن طعم المرارة وخيبة الأمل من جراء هذا الإقصاء. الحقيقة أن هذا استنتاج خاطئ، وواهم من يعتقد هذا، فكاتب هذه السطور يرفض الخضوع إلى أي نوع من الرقابة الذاتية بسبب انتمائه الحزبي وهمي هو إيصال رأيي كما وقر في عقلي، وهو رأي بأفكار سلسة ومبنية على حقائق مؤكدة طبعت ثلاث أشهر مضت من العمل الحكومي وعلى أدلة ذات أساس. ناهيك عن كون كل الذين تعودوا قراءة مقالاتي أو الاستماع إلى مداخلاتي سيجدون في هذا المقال نفس النبض المعتاد الذي يطبع “خطي التفكيري والتحريري”..
الخطيئة الأصلية
طوال فترة ولايتها، أو مدة استمرارها ستظل حكومة العثماني موشومة دوما بخطيئة أصلية على جبينها، إنها تلك المتعلقة بظروف ولادتها. دنس الخطيئة كان جليا ولكن السيد سعد الدين العثماني أراد أن يغطيها بالقول إن لديه قناعة راسخة بكون حكومته “قوية”، وذلك خلال خطاب تنصيبه. بدون شك فالسيد عثماني كان، ولا زال الوحيد في المغرب ربما الذي اختار أن يصدق خرافة كهذه. لا يوجد مراقب ومهتم واحد خبير بشؤون الحياة السياسية المغربية بوسعه إنكار حقيقة كون تأكيد العثماني على قوة حكومته ما هو إلا مظهر من مظاهر ارتباكه بسبب كم الثعابين التي اضطر لابتلاعها من أجل تكوين فريقه، مما أجج معارضة كبيرة حتى من داخل صفوف العدالة والتنمية الذي يقوده بدهاء أمينه العام الحالي دون الحديث عن أجواء التشكيك التي وسمت جزءاً هاما من الرأي العام الوطني. لقد كان على حزب العدالة والتنمية بعد أن عاش ستة أشهر من “البلوكاج المؤسساتي” وامتناع الفرقاء السياسيين الرئيسيين، بقيادة التجمع الوطني للأحرار، عن توفير النصاب العددي المطلوب لتشكيل الحكومة، وغياب التوافق حول “عقد حكومي” و”مشاريع مشتركة”، كان عليه أن ينسحب من سباق قيادة الحكومة، حفاظا على وضوح الممارسة السياسة في المغرب ومصداقية الفاعلين السياسيين، وأن يفسح المجال أمام أغلبية بديلة تقودها شخصية من الدولة، أو أغلبية حكومة وطنية تتشكل من مكونات ذات مصداقية من الأحزاب الكبرى وقادة الرأي من المجتمع المدني. للأسف، ليس هذا ما حصل وكان على الواقعية السياسية أن تسير في طريقها المعهود.
برنامج حكومي باستمرارية محدودة..
البرنامج الحكومي الذي يفترض فيه أنه خلاصة برامج ست أحزاب سياسية وخياراتها المتباعدة ليست سوى تجميع لتناقضات كثيرة تمت صياغتها على عجل أياما بعد تنصيب الحكومة والتصويت عليها بأغلبية ضئيلة بلغت 208 صوتا. ومما لا شك فيه أن مرور البرنامج الحكومي بالبرلمان لم يكن ليتأتى لولا أن الأطراف الحكومية سعت إلى التوفيق بين برنامجها وبرنامج وخيارات المؤسسة الحاكمة، ومن خلال وزاراتها القوية ووزراء السيادة الدائمين. بيد أن المزعج في هذه القصة ليس هو هذا البرنامج، بل حقيقة كونه مجرد استمرار لسياسات الحكومة الفارطة وكل الحكومات التي سبقتها، فالبرنامج لا علاقة له بالتوجه الإصلاحي، أي أنه ليس برنامجا يحدد بسلاسة مواطن الضعف البنيوية في الاقتصاد المغربي، ويؤسس لنموذجه الخاص في التنمية ويقوم بالإصلاحات اللازمة بكل شجاعة، حتى لو كانت إصلاحات مؤلمة وغير شعبية أو ضد المصالح الفئوية ومصالح المتنفذين والمتملقين من المستفيدين من اقتصاد الريع. كما أنه ليس برنامجا تقدميا يسعى إلى إعطاء الأمل للمواطنين من خلال تخويلهم “سلطة أكبر” وتكافؤا في الفرص والموارد المالية الخاصة بالمقاولات الصغرى، وحقوقا للعمال وسلطة أكبر للمؤسسات المعارضة. في الحقيقة يمكن اعتبار البرنامج الحكومي برنامجا “نيو-ليبراليا” يعتمد على تكريس وضعية الاحتكار ويقوم على “دوغما” الصراع ضد الاختلالات الماكرو-اقتصادية، ويختبئ خلف بعض التدابير الاجتماعية البسيطة ويقترح أجوبة تصب في مصلحة ومطالب الباطرونا، حتى الأجوبة الأكثر غرابة منها، كما هو الحال مثلا مع الإعفاءات الضريبية التي حصلت عليها (تلك الباطرونا) وبشكل دائم لأن الدولة تنتظر منها الاستثمار داخل التراب الوطني.
فريق حكومي هش
مباشرة بعد اختيار رئيس الحكومة توافقا مع روح ومضامين الدستور تم تشكيل الفريق الحكومي بسرعة كبيرة. وقد لاحظ الجميع أن هذه الحكومة، وعلى غرار سابقاتها تعاني من التضخم العددي، بـ39 وزيرا ووزيرا منتدبا وكتاب الدولة.. كان من الواضح للأسف أن الفريق الحكومي يفتقر إلى الانسجام بين مكوناته الكبرى، ويفتقد إلى الفاعلية المطلوبة والقدرة على التسيير المعقلن باستثناء وزارة واحدة فوق العادة مكلفة بالمعرفة والثقافة (التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي)، التي منحت إلى وزير الداخلية التكنوقراطي السابق. العديد من الوزراء الذين خرجوا مع الحكومة المنتهية ولايتها عادوا إلى نفس المهام السابقة والبعض منهم حصل على مهام جديدة على الرغم من نتائج مخيبة ضعيفة مما يطرح مرة أخرى التساؤل حول المعانى التي يمكن وصمها بمبادئ “الجدارة” والمساءلة بناء على الحكامة العامة. كثيرون هم الملتحقون الجدد، ولكنهم غير معروفين لدى الرأي العام، وأقل خبرة ومفتقدون لكل الأسلحة اللازمة في ميادين مسؤوليتهم وأحيانا لا يفقهون حرفا في اللغة الرسمية للبلد. هذا دون الحديث عن حالات الوزراء الذين تم تجديد مهامهم أو تعيينهم للمرة الأولى رغم الضجة التي أثيرت حولهم لدى الرأي العام بخصوص تورطهم المزعوم في قضايا أخلاقية، وتقصير قد تصل حد الشبهة الإجرامية (سوء تسيير جماعي، وتعديلات ضريبية جسيمة، وتعدد الزوجات، وفضائح خدام الدولة). وعلى الرغم من كوننا نعترف بكون البراءة هي الأصل في الادعاء فإنه بوسعنا القول أن بعض التعيينات بالفريق الحكومي من شأنها أن تنفر المواطنين المغاربة وأن تعطيهم الانطباع بأن العلاقات الحكومية في بلدنا لا تعتمد على تلك “المبادئ الأخلاقية السمحاء البالية” التي يجب أن تطبع الحياة السياسية الوطنية.
بنية حكومية مختلة وغير متوازنة..
تحليل المكونات المتحالفة في الحكومة حسب معيار المخصصات المتعلقة بالميزانية يبين وجود اختلال واضح في تقاسم المسؤوليات، ذلك أن الحزب الذي حاز المرتبة الأولى من حيث الأصوات والمقاعد لا يلعب إلا دورا محدودا في قيادة الحكومة وسن سياساتها. في الواقع، حزب العدالة والتنمية الذي يتفوق عدديا من حيث المناصب الوزارية على الأحزاب الأخرى بأحد عشر وزيرا لا يحظي من حيث المخصصات المالية للميزانية إلا بأهمية نسبية (باستثناء وزارة التجهيز والنقل بدون النقل الجوي واللوجستيك والماء والتي تصل ميزانيتها السنوية إلى 11,1 مليار درهم). العدالة والتنمية لا يشرف إلا على ميزانية بـ15 مليار درهم، أي أقل من 6 بالمائة من الميزانية العامة للدولة، أما مراكز القرار الرئيسة من حيث الميزانية فهي بأيدي وزارات ووزراء السيادة برقم يبلغ 119,6 مليار درهم سنويا، أي حوالي 48 بالمائة من الميزانية العامة (من بينها 54,4 مليار درهم مخصصة للتعليم الوطني، و33,8 مليار مخصصة لوزارة الدفاع الوطني، و23,9 مليار مخصصة لوزارة الداخلية)، هذا دون الحديث عن الميزانية المخصصة للوزراء المنتمين لحزب التجمع الوطني للأحرار والتي تصل إلى 26,1 مليار درهم، منها 12,5 مليار درهم مخصصة لوزارة الفلاحة والصيد البحري، دون حسبان مبلغ الـ36,8 مليار درهم المخصصة للتكاليف المشتركة للتسيير والـ27,4 مليار درهم المخصصة لمصاريف وفوائد الاقتراض ضمن الدين العمومي والتي تقع تحت مسؤولية وزير الاقتصاد والمالية المحسوب على حزب التجمع الوطني للأحرار. بل إن حزبا متواضعا كحزب التقدم والاشتراكية يحظى بوزن مالي أكبر من حزب العدالة والتنمية بميزانية تصل إلى 16,1 مليار درهم مخصصة لحزب بوزيرين وكاتب دولة و12 نائبا، منها ميزانية وزارة الصحة التي تبلغ 14,3 مليار درهم.
طريقة حساب “الوزن المالي” للأحزاب السياسية:
– المنجزات الخاصة بالميزانية برسم سنة 2016 لم تؤخذ بعين الاعتبار لأنها لا تخص عملية بناء الحكومة الحالية، وبالتالي فإن الأرقام الخاصة بميزانية 2017 هي التي تم أخذها بعين الاعتبار كمرجع.
– لم يتم الأخذ بعين الاعتبار سوى بالمصاريف الخاصة بالتوظيف والاستثمار بالميزانية العامة للدولة، ولهذا لا تظهر المصاريف المبينة في الحسابات الخاصة للخزينة، وحسابات التعيينات الخاصة وكذا “خدمات الدولة” (سيجما)، حيث يكون التتبع والتعيين حسب القطاعات الحكومية أكثر حساسية.
– مجموع ميزانية كتابة الدولة ووزارة الدولة المنتدبة تعود إلى الوزارة الوصية لأنه من المستحيل القيام بتوزيع ثابت ومنسجم بين حاملي هذه المستويات الثلاث من المسؤولية. الحاصل المالي الخاص بالميزانية يعود إلى الوزير لأنه المسؤول الأول عن المهام المنوطة.
– مبدئيا لا يمكن اعتبار رئيس الوزراء وزارة لأنه معني بالتنسيق بين مختلف مكونات الحكومة. ولهذا لا يمكن التعامل مع مؤسسة رئاسة الحكومة باعتبارها وزارة إضافية. بناء على هذا لا يتوفر حزب العدالة والتنمية، عمليا، إلا على 11 وزيرا، وعليه فإن رئيس الحكومة الذي يسهر على ميزانية تقدر بألف ومائة وتسعة مليار درهم لا يحق له احتساب الميزانية باعتبارها جزء من مسؤوليته لأنها مقسمة على 39 وزيرا ووزيرا منتدبا وكاتبا دولة، حسب مفاتيح معينة جديرة بالتعريف. ولكن، وتوخيا للتبسيط، وتسهيل الأمور على القراء يمكن القول إن ميزانية رئيس الحكومة مخصصة كليا بنسبة مائة بالمائة لحزب العدالة والتنمية.
– الميزانية المدارة من قبل العدالة والتنمية:
سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة: 1109,6 مليون (م) درهم.
مصطفى الرميد: وزير الدولة مكلف بحقوق الإنسان. 35,7 م درهم.
عزيز الرباح: وزير الطاقة، والمعادن والتنمية المستدامة: 1536,5 م درهم.
عبد القادر عمارة، وزير التجهيز والنقل واللوجستيك والماء: 11050.9 م درهم.
بسيمة الحقاوي: وزيرة الأسرة والتضامن : 637.8 م درهم.
محمد يتيم، وزير التشغيل: 524.4 م درهم.
لحسن الداودي: الوزير المنتدب المكلف بالشؤون العامة والحكامة: 60.1 م درهم.
مصطفى الخلفي، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني: 38 م درهم.
نجيب بوليف، كاتب الدولة لدى وزير التجهيز مكلف بالنقل: 0.
جميلة المصلي، كاتبة الدولة لدى وزير السياحة مكلفة بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي: 0.
نزهة الوافي، كاتبة الدولة لدى وزير الطاقة مكلفة بالتنمية المستدامة: 0.
خالد الصمدي، كاتب الدولة لدى وزير التربية مكلف بالتعليم: 0.
هذا يعني أن ميزانية وزراء حزب العدالة والتنمية تبلغ 14993 م درهم، أي ما يوازي 5.97 بالمائة من الميزانية العامة للدولة، أما فيما يخص الميزانيات المدارة من قبل حزب التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري فهي على الشكل التالي:
محمد أوجار، وزير العدل: 4200,2 م درهم.
محمد بوسعيد، وزير الاقتصاد والمالية: 2726.3 م درهم.
عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات: 12511.2 م درهم.
محمد ساجد، وزير السياحة والنقل الجوي والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي: 1317.2 م درهم.
مولاي حفيظ العلمي، وزير الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي: 2714.7 م درهم.
رشيد الطالبي العلمي، وزير الشباب والرياضة: 2607.3 م درهم.
مباركة بوعايدة، كاتبة الدولة لدى وزير الفلاحة مكلفة بالصيد البحري: 0.
لمياء بوطالب، كاتبة الدولة لدى وزير السياحة، مكلفة بالسياحة: 0.
عثمان الفردوس، كاتب الدولة لدى وزير التجارة والصناعة مكلف بالاستثمار: 0.
هذا يعني أن ميزانية حزب التجمع الوطني للاحرار هي 26077 م درهم، أي ما يعادل 10.38 بالمائة من الميزانية العامة للدولة. أما بخصوص الميزانية المدارة من قبل وزراء السيادة فهي كالتالي:
ناصر بوريطة، وزير الخارجية والتعاون الدولي: 3558.2 م درهم.
عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية: 23855.5 م درهم.
محمد حصاد، وزير التعليم الوطني، والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي: 54407.6 م درهم.
محمد الحجوي، الكاتب العام للحكومة: 79.9 م درهم.
أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية: 3948.9 م درهم.
عبد اللطيف لوديي، الوزير المنتدب المكلف بإدارة الدفاع الوطني: 33845.2 م درهم.
وهو ما يعني أن مجموع ميزانية وزارات السيادة يصل إلى 119695 م درهم، أي ما يعادل 47.63 بالمائة من الميزانية العامة للدولة.
إنكار الحقيقة:
البرنامج الحكومي الحالي في بعده الاقتصادي يقوم في ظل صمت تام بما يشبه “عملية الجرد” (الخاصة بالمخزون)، ويريد أن يعطي الانطباع بأن الاقتصاد المغربي على أحسن ما يرام ويشتغل بطريقة طبيعية وأنه يكفي الاستمرار في إنجاز الأوراش المفتوحة أصلا حتى يتم تجاوز العقبات وهزيمة التحديات وبلوغ الأهداف ومرحلة “الإقلاع الاقتصادي”. كل هذا لا أساس له من الصحة، وهذا ما يظهر جليا من خلال المذكرة الصادرة عن البنك الدولي سنة 2017 حول المغرب بالإضافة إلى مختلف التقارير الواردة عن صندوق النقد الدولي، دون الحديث بالأساس عن تلك التقارير التي تصدرها مؤسساتنا الرسمية المختصة بالتقييم والتحليل كـ”بنك المغرب” والمندوبية السامية للتخطيط والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. هكذا تتبدى لنا المقاربة السياسية لهذه الحكومة كنوع من محاولة يائسة لتحوير الحقيقة، إن لم نقل تزويرها، حتى يتم تحويل نظر الرأي العام عن المشاكل الاقتصادية الكبرى التي عنوانها الفشل في مجال التدبير المعقلن والحكامة الجيدة. لقد عمت القناعة لدى الكل بكون المغرب في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى حكومة تكون قادرة على مواجهة المشاكل بشجاعة والاعتراف بالواقع كما هو عوض إنكاره، حكومة تعترف أن اقتصاد المغرب هش وأن سبب هشاشته يكمن في إيقاع النمو، الذي يتسبب في هشاشة جلية تسم الاقتصاد المغربي وتقلباته المتطرفة إزاء التوازنات الماكرو-اقتصادية، إضافة إلى الارتفاع الخطير في نسب البطالة، خصوصا في صفوف حاملي الشهادات، مع تسجيل ضعف شديد في معدل مشاركة المستخدمين في النشاط الاقتصادي بالموازاة مع توسيع الهوة بين الطبقات الاجتماعية وتدهور المخاطر البنكية وفشل المقاولات سواء كانت صغرى، أم متوسطة. نحن في حاجة إلى حكومة تعي وتفهم أنَّ تدخل الدولة في الاستثمار وإعادة توزيع المال للتعويض عن القصور المسجل في نظام السوق الحر وتسوية التأثيرات السلبية تبقى سياسة ذات تأثير محدود في ظل تأخر هام مسجل على مستوى إصلاحات الدولة التي تهم بالأساس محاربة الفساد، وضعف الأداء والمردودية المحدودة للضرائب رغم نسبة الضغط الضريبي المرتفع. نحن في حاجة إلى حكومة تستطيع أن تقيس بروح المسؤولية المخاطر المرتبطة بوزن “الدين العمومي”، والذي بلغ سقفا لا يمكن تحمله دون أن ينعكس ذلك على مسلسل إصلاح الهوة الاجتماعية وتحضير المغرب للتحديات التكنولوجية والبيئية في المستقبل. نحن في حاجة إلى حكومة تملك الشجاعة لمواجهة 13 مليون مغربي غير نشيط وتقترح الحلول والبدائل المناسبة لهم، في حاجة لحكومة تواجه وتجد حلولا لمليون و300 ألف عاطل ومليون و600 ألف من الذين يعيشون تحت حافة الفقر، وحوالي 4 ملايين و200 ألف مغربي في وضعية هشة، وكذا حوالي مليوني و400 ألف مغربي يعملون في ظل اقتصاد غير رسمي غير مهيكل (النوار) بدون أي حماية اجتماعية، بالإضافة إلى مليون و700 ألف مغربي تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة وليس لهم سبيل إلى التمدرس ولا إلى العمل ولا حتى إلى فرص للتكوين.
سمفونية النوايا الطيبة
المشروع الاقتصادي للحكومة يقدم نفسه باعتباره سلسلة من الإجراءات وأشباه الإجراءات يتوالى بعضها تلو الآخر في سلسلة مملة لا تنتهي من الأماني التقوية التي تفتقد الحد الأدنى من الجدولة العملية وفق تناغم عام وخيط نابض، ولا حتى رقمنة أساسية بسيطة تتيح إمكانية تتبع تنفيذ كل إجراء من الإجراءات المعلنة.. يتعلق الأمر أكثر بـ”كاتالوغ” يتيح للجميع إمكانية اختيار ما يناسبه وفق مصالحه وطبيعة اشتغاله. في الحقيقة، كل هذا خال من الصحة، فتلك الـ450 إجراء أو، بالأحرى، 450 شبهة إجراء، لا تعدو أن تكون في كنهها سوى مجموعة من الأماني الطيبة والنوايا الحسنة والتوجيهات العامة وبرامج وخطط توضع في الحسبان حين يحين المستقبل. وعلى غير غرار الأماني والنوايا لا يرد في برنامج الحكومة الاقتصادي أية أرقام وإحصاءات دقيقة حول المشاريع المختلفة والتكلفة المرصودة وغيرها من التفاصيل، لا نجد أيضا برنامجا للتمويل وإمكانية التنفيذ تنبني على الشك مما يضرب بالتالي مصداقية البرنامج الحكومي في الصميم. يظهر في البرنامج أيضا خلط مريع ومقصود بين المشاريع التي كانت قد بدأ العمل فيها خلال فترة ولاية السيد عبد الإله بنكيران وبين مشاريع الحكومة الحالية بحيث تضعها كلها في “سلة كلام واحدة”، فالمطالبة باستكمال المشاريع لا يعفي الوزراء من المجهود اللازم للمصارحة وقول الحقيقة في إطار الشفافية وفي أفق المحاسبة حين يحين موعدها. المواطن، بنهاية المطاف، من حقه أن يعرف تلك المشاريع التي تعود للحكومة السابقة والتي تواصل الحكومة الحالية الاشتغال عليها وتلك الجديدة حتى تتبين له القيمة المضافة التي أتى بها الفريق الجديد. لقد تجنب السيد سعد الدين العثماني في الإعلان الحكومي الحديث بدقة والغوص في المشاكل الأكثر تعقيدا ولم يحمل على أي نوع من أنواع تحمل المسؤولية في الإعلان عن الخيارات التي تبنتها الحكومة ذلك أن القضية الأهم بالنسبة لأية حكومة ليس هي تلك الإجراءات المعلنة، بقدر ما هي مسألة ترتيب تلك الإجراءات حسب الأولوية ومدى الترابط بينها والتمويل والآجال الزمنية المعلنة.
أهداف اقتصادية واجتماعية خجولة
قدمت حكومة العثماني بعض الأهداف المنشودة التي تعطي الانطباع بالأهمية من الوهلة الأولى. يتعلق الأمر مثلا بنسبة النمو الاقتصادي التي حددتها الحكومة بين رقمين، 4.5 بالمائة، و5.5 بالمائة، ونسبة عجز الميزانية العمومية التي قالت أنها لن تتجاوز عتبة الـ3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، ونسبة 60 بالمائة فيما يخص تخفيض ديون الخزينة العامة من الناتج الداخلي الخام. أما بخصوص نسبة التضخم والبطالة فقد وعدت الحكومة في إبقائها بحدود 2 بالمائة و8.5 بالمائة على التوالي. هذا عن الأرقام بالنوايا الجيدة أما الواقع فيقول شيئا آخرَ تماما ذلك أن هذه المؤشرات خادعة ومسألة تثبيت المؤشر الخاص بالأهداف المُسطرة لا يرقى إلى مطمح جعل حياة المغاربة أفضل، فأن تقوم بتثبيت المؤشر الخاص بالنمو الاقتصادي لا معنى له في ظل اقتصاد كاقتصاد المغرب حيث ترتفع نسبة تقلبات الإنتاج الفلاحي بسبب عدم استقرار التساقطات المطرية وتقلباتها من سنة لأخرى. برنامج المغرب الأخضر الذي يهدف إلى عصرنة وتحديث القطاع الفلاحي والتخفيض من حدة “اتكالية الاقتصاد الوطني” على التساقطات المطرية عجز بدوره عن وضع حد لهذه التقلبات.
لقد كان الأجدر بالحكومة، عوضا عن تحديد مؤشرات عامة من قبيل مؤشر النمو الاقتصادي، أن تقوم بتحديد مؤشرات مدققة وطموحة تخص القطاعات غير الفلاحية حيث تستثمر الدولة مبالغ خيالية لتنزيل الاستراتيجيات القطاعية كما هو الشأن مع برنامج التنمية والإقلاع الاقتصادي ومشروع الطاقة الشمسية والمشروع المدمج حول الطاقة الريحية، واستراتيجية “هاليوتيس”، “ورؤية 2020 للسياحة” ومشروع “رواج”، والإستراتيجية الوطنية لت