مقالات

في نظرية التقاطع.. وفي ذكرى ثورتي تونس ومصر

على المرء أن يفرق بين ما هو عمالة وارتباط، وما هو تقاطع في السياسات ضدّ طرف ثالث، لأن القانون الحاكم في الحالة الأولى حالة العمالة والارتباط غير القانون الحاكم في الحالة الثانية، حالة التقاطع بين طرفين قد يكونان حتى أعداء لبعضهما، خارج حالة التقاطع ضدّ طرف ثالث.
الذين لا يفرقون بين هاتين الحالتين، إما لرفضهم منهجيا وجود حالة التقاطع، وهو نكران لواقع في السياسة عليه عشرات الشواهد، وإما عن قصد وعمد من أجل التحريض، وليس تحرّي الحقيقة أو الإنصاف والعدل.
ولكن رؤية الحالة الأولى فقط في واقع يقوم على التقاطع ستكون قصيرة عمر، ولن تعيش طويلا، لأن حالة الانفصال بين المتقاطعين، ولا سيما، إذا كانا في حالة عداوة من حيث الأساس، سرعان ما تتكشف على حقيقتها.
وذلك حين تذهب الأسباب التي أدّت إلى التقاطع. وعندئذ لا تستطيع تهمة العمالة والارتباط الصمود فتسقط صريعة. ولا ينقذها الإدّعاء أن العميل بعد أن تنتهي مهمته يُصار إلى التخلي عنه. وهذا رأي يحاول إنقاذ الموقف من الحرج. ولكنه يشكل نظرية متهافتة تكاد لا تجد دليلا عليها. فضلا عن عدم القدرة على أن يفسّر لماذا التخلي عن العميل ليصبح عدوا. فانقلاب عميل إلى عدو لمُستخدميه، أو مستَعْملِه، أو مُجَنِّدِه، يحتاج إلى تفسير. لا يَسهل الحصول عليه.
لعل الحالة التي تحمل تفسيرا من شواهد تاريخية، هو تغيير العملاء لمُجنِّدهم عندما يضعف ويأتي مُجنِّد آخر أقوى منه. والتخلي هنا عكس النظرية أعلاه. وهي تخلي العميل عن سيده وليس تخلي السيد عن عميله، لأنه أدّى مهمته وكفى.
هذا النمط مشهود في العملاء الذين غيّروا من سيد إمبريالي أخذ يتراجع إلى سيد إمبريالي أخذ يحلّ مكانه. فعلى سبيل المثال الكثيرون، أو في الأصح البعض، من عملاء بريطانيا وفرنسا، أو النازي، أصبحوا عملاء للإمبريالية الأمريكية خلال مرحلة الحرب الباردة.
وهذا التحول يكون عندما تضعف الإمبريالية القديمة وتحل محلها إمبريالية أقوى. وهنا يكون من يتخلى عن الآخر هو العميل عندما لا يعود صاحبه الأول قادرا على استخدامه. وهو يفعل ذلك ضدّ رغبة صاحبه الأول وليس برضاه أو بسبب أنه أدّى خدمته ولم يعد بحاجة إليه.
ولهذا، فإن النظرية التي تفسّر الظاهرة موضوع البحث أعلاه بتخلي السيد عن عبده بعد أن قام بمهمته هي نظرية مستحدثة، ومخترعة لإنقاذ قراءة خاطئة لعلاقة قائمة على التقاطع واعتبارها علاقة عمالة وتنفيذا لأوامر.
فالمطلوب في هذه المرحلة من موازين القوى الجديدة عالميا وإقليميا وعربيا أن تطوّر نظرية التقاطع في قراءة العلاقات بين الدول، بل والأدنى منها بما في ذلك العلاقات داخل المحور الواحد التي أصبح التقاطع يغلب عليها وليس التحالف.
الظاهرة المنهجية الثانية، في قراءة الأوضاع الراهنة، فهي اتهام ثورات شعبية شاركت فيها عشرات الملايين أو عدّة ملايين (حسب حجم البلد) بأنها مُحرَّكة من أمريكا والدوائر الاستخبارية بدليل صدور تصريحات أمريكية “مؤيدة”، أو “محايدة”، أو في الأصح مرتبكة وحائرة، غير قادرة على أخذ قرار حاسم، كما حدث في ثورتي تونس ومصر على سبيل المثال.
هنا لا يُلحَظ أن نزول جماهير غفيرة في البلاد العربية لا يمكن أن يتم بإرادة خارجية حتى لو وُجِدت إرادة خارجية مؤيدة أو داعمة، لأن نزول هذا الحجم من الجماهير وتحدي بطش قوات الأمن، وعدم التراجع أمام سقوط الشهداء، لا يكون إلاّ بنضوج وضع ثوري داخلي وإقليمي ودولي يسمح باقتناع الملايين في إطلاق ثورة منتصرة. فالجماهير دائماً موجودة.
ولكن لا تحدث الثورة إلاّ في لحظة تاريخية معيّنة. وأما ما قبل تلك الثورة فلا بدّ من أن تكون الجماهير قد تركت المحرضين على الثورة أو الانتفاضة أو حتى التظاهرة العادية وحدهم في الشارع يتعرضون لهراوات رجال الأمن وللإعتقالات. وكذلك ثمة وجود دائم لتنظيمات حزبية أو غير حكومية (مشبوهة أو غير مشبوهة) لا تستطيع أن تجمع تظاهرة صغيرة أو متوسطة. الأمر الذي يؤكد أن نضوج شروط اندلاع ثورة مليونية لا يمكن حصرها أو تفسيرها بتدخل خارجي أو بقوى داخلية تتلقى التعليمات والدعم المادي من الخارج. وذلك كما أخطأ البعض في تقويم ثورتي تونس ومصر.
الذي يحدث هو اختلاط الأمر عند نضوج الظروف التي تُنزِل الناس إلى الشوارع فتتدخل قوى خارجية، أو جماعات مشبوهة، لتستغل الثورة أو الانتفاضة فيما الإرادة الشعبية في مكان آخر. هذا الاختلاط يسمح للذين يريدون إنكار قيام ثورة بمستوى ما حدث في تونس ومصر أن يعتبروها حالة مُحرَّكة من الخارج أو من خلال أجهزة الاستخبارات.
ولكن بالتأكيد لا يمكن لهذا الحكم أن يصمد أمام نقاش جاد واحترام جادّ للوقائع، أو مواجهة أسئلة مثل ما دام الأمر يمكن تحريكه بهذه السهولة، فلماذا لم تحدث “الثورة” قبل ذلك أو تؤجَّل إلى ما بعد؟ ثم أنّى لتلك الآراء أن تصمد أمام النقاش إذا ما فتح التفسير الدقيق حول تشكل الوضعية الثورية وموازين القوى المناسبة التي سمحت باندلاع ثورتي مصر وتونس وانتصارهما. وهنا يجب أن يُلاحَظ ما يكون قد حدث من خلل في ميزان القوى المحلي والإقليمي والخارجي، وما حدث من شيخوخة للنظام وتناقضات في رأس السلطة (مع الجيش مثلاً).
وبالمناسبة اتهام ثورتي مصر وتونس بالأمركة ليس بالجديد. فقد تعرضت أغلب الثورات لمثل هذا الاتهام وكانت هنالك دلائل على بعضها تعزّز الاتهام أكثر مما على ثورتي مصر وتونس. فعلى سبيل المثال اتهمت الثورة الأمريكية بأن الفرنسيين كانوا وراءها ضدّ الاستعمار الإنكليزي لأمريكا. بل أن أحد جنرالاتها وهو “لافييت” كان فرنسياً. واتهمت الثورة الروسية 1917 بأن الالمان كانوا وراءها علماً أن انتقال لينين من سويسرا حيث كان منفاه إلى روسيا عبر إلمانيا، تم بتفاهم مع المخابرات الألمانية. وحتى الثورة الإسلامية في إيران وجدت من اعتبر أن أمريكا وفرنسا كانتا وراءها. وكذلك ثورة كاسترو. وعليه قس عشرات الأمثلة لم أراد.
المهم في كل الثورات يحدث التقاطع المباشر، أو غير المباشر، بين حركة الثورة وما هو خارجها، أو من خلال بعض من يشارك فيها وله ارتباطاته الخارجية. وذلك بالرغم من أن دوره يظل ثانوياً أمام دور القوى الكبرى الرئيسية داخلها كما دور العوامل الأساسية.
من هنا لا يجوز أن ينكر، ونحن في شهر كانون الثاني/ يناير، وفي الذكرى السادسة لانتصار ثورتي مصر وتونس عليهما صفة الثورة. وذلك بسبب بعض المواقف الخارجية التي رحبت بهما سواء أكان في أواخر مراحلهما أم بعد الانتصار. هذا ولا يجوز أن يقلّل من كونهما ثورتين شعبيتين بالرغم من الدور الأساسي الذي لعبه الجيشان المصري والتونسي في التسريع بانتصارهما، ولا سيما بعد أن تمت هزيمة الأجهزة الأمنية في التصدي لإرادة جماهيرية مليونية مصممة أعلنت “الشعب يريد إسقاط النظام“.
كان أهم ما أنجزته هاتان الثورتان هو إسقاط نظامين محسوبين على أمريكا وعلى محور الاعتدال العربي فضلاً عن سمتهما الاستبدادية والفاسدة وذات العلاقات المشبوهة بالعدوّ الصهيوني ومعاداة الشعب والمقاومة والمعارضة الوطنية. فهذا الانجاز إلى جانب السمة الجماهيرية المليونية التي اتسمتا بها، هما ما يعطيانهما سمة الثورة الشعبية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهما ما يعطيانهما سمة وضع العلامة الفاصلة في التاريخ المعاصر لكلٍ من تونس ومصر.
إن القانون العام الذي تقوّم على أساسه ثورة ما باعتبارها ثورة، هو ما تقضي عليه من نظام حكم وما تتجاوزه من مرحلة سابقة، وما تفتحه من آفاق لتطوّر إيجابي. ولكن في أغلب الثورات وبعد إنجازها الأول بإسقاط مرحلة سابقة كانت تحدث ثورات مضادة، وانتكاسات، أو حروب أهلية تحرق “الأخضر واليابس” كما يقولون.
فالثورة حتى تصنّف ثورة منتصرة تقلب صفحة قديمة وتفتح صفحة جديدة. ولكن ما سيُكتب في الصفحة الجديدة فليس هنالك من قانون واحد يحكمه فهنالك تنوّع واسع واختلافات واسعة في ما بين الثورات عند الكتابة على الصفحة الجديدة التي فتحتها. ومن ثم فإن ما يُكتب حتى لو كان ثورة مضادة بكل ما تحمل الكلمة لا يلغي ما حدث من ثورة منتصرة وسيبقى انتصارها رمزياً وتاريخياً. بل سيبقى يطارد الثورة المضادة برمزيته وشهدائه وأهدافه.       

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى