السياسة الجهوية بين الخطاب السياسي والهاجس الأمني
يعتبر موضوع “المسألة الجهوية” من المواضيع التي تحظى باهتمام كبير من قبل العديد من الباحثين والغيورين على مفهوم استقلالية الجهة وتدبيرها من قبل منتخبيها، ليس في المغرب فحسب، بل في مختلف التجارب العالمية، كنمط حديث لبلورة استراتيجية جديدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية، من أجل ترسيخ التنمية المحلية والبناء الديمقراطي. فهذه الأخيرة تتحكم فيها معطيات وخصوصيات تختلف حسب الأنظمة السياسية التي تتبناها، حيث تتنوع علاقة تنظيم المجال ومدى استقلاليته عن المركز.
أصبح موضوع “الجهوية والتنمية المحلية” يحظى بعناية واسعة من الباحثين والدارسين وكل الفاعلين في المجتمع ، لارتباطه الوثيق بمفاهيم العولمة والديمقراطية وحقوق المواطنة، التي تأتي في صدارة قائمة القضايا الملحة محليا وإقليميا ودوليا، على اعتبار أنها تشكل الإطار الملائم لبلورة الاستراتيجيات البديلة للتنمية، التي تقوم على تثمين الموارد المحلية ومساهمة السكان في توطيد دولة القانون وإرساء قواعدها.
يرجع الاهتمام الكبير بمفهوم الجهوية في العصر الحاضر بالأساس إلى دورها في التنمية الشاملة للمجتمع، خاصة في ظل مطالبة كل جهة بأن تنظم نفسها وتبتكر حلولا خاصة بها لمواجهة التحولات، وبأن تعمل على الرفع من تنافسية مجالها وتنتج شروط تنميتها المستدامة، وقد اعتبرت الجهوية اليوم خيارا استراتيجيا للدول المتقدمة، لإشراك المواطنين في صناعة القرار المحلي .
ويبقى مفهوم الجهوية في الأنظمة المقارنة متغيرا، إذ يتخذ عدة نماذج حسب التجارب والأشكال، من جهوية سياسية على الطريقة الألمانية إلى مجرد جهوية إدارية كما هو الحال في فرنسا منذ إصلاح 1982، مرورا بجهوية شبه سياسية في حدود ما يسمح به الانتقال الديمقراطي كما تم في إسبانيا…كل ذلك أفضى إلى نقاشات سياسية مهمة حول مفهوم السلطة، ووجه البحث الأكاديمي نحو مزيد من الاهتمام بالمحلي والجهوي، وأحدث قنوات إضافية مهمة، لتدبير الشأن السياسي.
وارتباطا بالحالة المغربية، يحتل تدبير المجال الترابي والفضاء العام للدولة أهمية حيوية، لذلك تلجأ إلى تنويع الاستراتيجيات والمسارات والآليات الساعية إلى ضبطه والتحكم فيه.
عرف المجال السياسي الترابي في المغرب، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا (2015)،مجموعة من المبادرات والأحداث، بحيث أن كل مرحلة من المراحل السياسية للتجربة المغربية، قد خضعت لشروط وخطاب سياسي معين، جعل السلطة تتحكم في توجيه الخطاب نحو شعارات ومفاهيم ، من قبيل : المفهوم الجديد للسلطة، الانتقال الديمقراطي، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الجهوية الموسعة/المتقدمة… مما جعل الباحثين والمختصين يتوقفون عند هذه المفاهيم وقفة تأملية نقدية، وسأحاول التركيز في هذه السطور على مفهوم الجهوية والرهانات المطروحة على العملية الانتخابية في المغرب.
لكنه قبل أن نلامس الموضوع ونحدد إشكالية الخطاب السياسي نحو الجهوية ورهاناتها السياسية بتفصيل، يجدر بنا أن نطرح أسئلة تراودنا لفهم أفق الإشكالية وأبعادها المتنوعة في الأسئلة الآتية:
ترى ما هو السياق الذي تحكم في تبني المغرب لخطاب الجهوية المتقدمة والجهوية الموسعة؟
هل هناك إرادة سياسية للفاعل المركزي للتنازل عن صلاحيات واختصاصات لفائدة الفاعل المحلي؟
ما طبيعة العلاقة الموجودة بين المركزي والمحلي؟
كيف نفسر الإشراف المباشر لوزارة الداخلية في صياغة قوانين الجماعات الترابية والعملية الانتخابية؟
لماذا تم التخلي عن شرط المستوى الدراسي والتعليمي للمنتخب المحلي؟
ما طبيعة قراءة المجلس الدستوري للقرارات المتعلقة بالجماعات الترابية؟
عن أي حكامة جيدة نتحدث في ظل أمية رئيس الجهة والجماعة؟
ماهي الأسباب التي تجعل من العملية الانتخابية في المغرب بدون رهانات سياسية؟
ما دلالات العزوف الانتخابي أو المقاطعة لدى أغلبية صامتة في المغرب؟
نعم،سنحاول في هذا المقال أن نعطي بعض الأمثلة على المظاهر التي تحكمت في ضبط المجال السياسي الترابي المغربي:
سياق عام تراجعي، وخطاب سياسي مُتدنٍّ
صدرت مؤخرا بالجريدة الرسمية، عدد 6380 بتاريخ 23 يوليوز 2015، مجموعة من القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية والعملية الانتخابية، لكن ما ميز هذه المصادقة على هذه القوانين هو الطابع الاستعجالي والسرعة، حيث تم تقديم مشاريع القوانين التنظيمية في فترة سريعة جدا، ومما يضعف مبدأ استقلالية العملية الانتخابية في التجربة المغربية هو هيمنة وزارة الداخلية على كل التغيرات والتعديلات التي عرفتها هذه القوانين رغم وجود لجنة مركزية تجمع بين وزارة الداخلية وزارة العدل. والملاحظ من خلال مضامين القوانين التنظيمية هو وجود سياق تراجعي طبع هذه القوانين مقارنة مع مبادئ دستور 2011 المرتبط بسياق الربيع العربي.
كما أن ضعف النسبة المسجلة في اللوائح الانتخابية والعزوف أو المقاطعة تبرهنان على انعدام الثقة لذا الموطن في المشاركة الانتخابية وفي المنتخبين، وفقدان الثقة والجدوى من العملية الانتخابية أصلا.
ومما يؤجج ذاك العزوف إنما هو تدني الخطاب والسلوك السياسي لدى جل الأحزاب السياسية التي هيمنت عليها صراعات هامشية و تجادبات سياسوية.
قوانين تنظيمية فضفاضة، وهاجس أمني تحكمي
توحي القراءة المتفحصة للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية (111.14 المتعلق بالجهات، و112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، و113.14 المتعلق بالجماعات) عن غموض اللغة القانونية التي طبعت هذه القوانين، حيث يصطدم بلغة قانونية فضفاضة هيمنت عليها الكلمات والعبارات العامة والغامضة، مما يفتح المجال لمجموعة من التأويلات والتفسيرات المتناقضة للسلطة المعينة والمتحكمة في تدبير الشأن العام من قبيل : (المادة 54 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، الفصل 85 والفصل 146 من الدستور..
وبالرجوع إلى الفلسفة التي تحكمت في الإعداد والمصادقة على القوانين التنظيمية للجماعات الترابية نتوقف على هيمنة الهاجس الأمني والتحكمي في ضبط المجال السياسي الترابي، ورسم الخريطة الانتخابية، مما يطرح دائما سؤال الحياد والنزاهة والشفافية، ويجعل السلطة تتحكم في الانتخابات بدءا بإعداد اللوائح والتقطيع الانتخابي واختيار المرشحين وانتهاء بالإعلان عن النتائج.
ولقد جاءت اختصاصات الجماعات الترابية برقابة مشددة لسلطات الوصاية على مقررات المجالس المحلية (الجماعة والعمالات والأقاليم والجهات ) التي لا تكون قابلة للتنفيذ إلا بعد التأشير عليها من طرف سلطات الرقابة (العامل والوالي)، حيث نجد حضوراً قوياً ومشدداً للوالي في بلورة وتنفيذ مقررات المجلس الجهوي الذي يتابع جل القرارات والمداولات للمجلس (ترشيحات الرئاسة (المادة 14 )، والنظام الداخلي (المادة 35)، ودورات المجلس (المادة 36)، وجدول الأعمال (المادة41)، وطلب الاستفسار (المادة 67)، وتوقيف المجلس (المادة 77)، وقرارات الرئيس ومقررات المجلس (112).
لذلك فإننا نعتقد أن تدخلات صاحب شرعية التعيين مقيدة وضابطة بطريقة تحكمية لصاحب شرعية الانتخاب الديمقراطي، هذه التدخلات سوف تحد من قدرات الجماعات الترابية على القيام بوظائفها واختصاصاتها، وهذا يتنافى ومعيار التدبير الحر الذي أقره الفصل 136 من دستور 2011، والاستقلال الحقيقي للمجالس الجهوية.
انتخابات بدون رهانات سياسية
تعتبر الانتخابات في التقاليد الديمقراطية لحظة سياسية مهمة ورهاناً سياسياً حقيقياً للمواطن في تغيير واقعه السياسي والاجتماعي، بل تعد من أهم وسائل المشاركة السياسية بما في ذلك ومساهمة المواطن في صناعة القرار العام، غير أن هناك فرقاً شاسعاً بين الانتخابات في فضاء ديمقراطي برهانات وتنافس سياسي حقيقي مرتبط بتعدد البرامج والرؤى، وبين انتخابات تجرى في فضاء تحكمي و غير ديمقراطي،بل إن الأحزاب السياسية ستصبح مقاولات سياسية تقتسم الريع المادي بمشاركتها في تيه سياسي غير ديمقراطي كآلية لتوزيع الكسب السياسي دون رهانات سياسية .
وما نلاحظه هذه الأيام، مع اقتراب المواعد الانتخابية في شتنبر وأكتوبر 2015 أن الرهان الذي تجتمع عليه الدولة والأحزاب السياسية، هو المشاركة وتفادي استمرار العزوف الانتخابي عن العملية الانتخابية، خصوصا أن هذا العزوف عن المشاركة فضلا عن فقدان الثقة لدى المواطن في العمل السياسي يمس شرعية الدولة والأحزاب معا، ناهيك عن نمط الاقتراع الذي لا ينتج أغلبية منسجمة بل يؤدي إلى مزيد من البلقنة للمشهد السياسي.
هيمنة منطق اللوبيات الانتخابية وسلطة الأعيان
في الوقت الذي كان ينتظر الباحثون والمهتمون،نقاشاً متعلقاً بالتنصيص على المستوى التعليمي لرئاسة الجماعة أو رئاسة الجهة، لكن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية لم تنص على هذا الشرط خاصة أمام الاختصاصات والمهام الموكولة للرئيس لتدبير الشأن العام المحلي، والسؤال الذي يطرح ذاته بوضوح هاهنا هو المتعلق بمهام كبرى واحترافية في التدبير والتسيير الإداري المحلي مرتهنة برئيس أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة …إنه تكريس لمنطق التخلف والإبقاء على ظاهرة الترحال السياسي اغتنت بالريع السياسي المفضي حتما إلى ريع اقتصادي.. وهو ما يؤشر على هيمنة أجندة اللوبيات الانتخابوية وسلطة الأعيان والمال على الخدمة الحقيقية للمواطن. إنه منطق التحكم الغالب على الفعل السياسي للكائنات الانتخابوية التي قامت بتقزيم حالات التنافي وحذف المستوى الثقافي للمنتخب والهيمنة على المجال الترابي.
استمرار منظومة الفساد
من نواقض الفعل الديمقراطي ومعاول تهديمه بالمغرب: استمرار ظاهرة الفساد السياسي والإداري بصوره المتعددة، والتي تأخذ أشكالا مختلفة من قبيل الرشوة أو نهب المال العمومي وظاهرة الريع الاقتصادي بالمغرب. فحسب مجموعة من المؤشرات والإحصاءات الرسمية، فإن تكلفة الفساد بمختلف تجلياته، كالرشوة و استغلال النفوذ، و الإثراء غير المشروع، والاختلاس، و الوساطة،و المحاباة، وتضارب المصالح، و الابتزاز ، وغيرها تفوق اثنين بالمائة من الناتج الوطني الإجمالي.
ومما يؤكد بالملموس اختلال نمط الحكامة الاقتصادية والحكامة السياسية في تدبير المرفق العمومي وخدمة الصالح العام، مع هيمنة و سيادة مفاهيم الريع و الاحتكار و التركيز الاقتصادي وغياب تام لمبادئ الشفافية والمحاسبة ومعظم مبادئ الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، التي تطرقت إليها الوثيقة الدستورية، مع غياب مطبق للمراقبة السياسية والشعبية للمواطن.
قرارات المجلس الدستوري، وسؤال النقاش الدستوري والسياسي
صدر عن المجلس الدستوري، بتاريخ 29/07/2015، ثلاثة قرارات متعلقة بالجماعات الترابية (الجماعات والعمالات والأقاليم والجهات)، قضى بموجبها بأن إيداع مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب مطابق للدستور، بناء على أحكام الفصل 85 من الدستور. كما أن كيفية التصويت على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات وإجراءات التداول والتصويت عليه، مطابقة للقانون بناء على أحكام الفصل 85 من الدستور.
أما في ما يتعلق بالفقرة الأخيرة من المادة 54 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات غير مطابقة للدستور، كما اعتبر المجلس الدستوري البند الأخير من المادة 121 المتعلقة بالشروط التي يجب على الجمعيات استيفاؤها لتقديم العرائض غير مطابقة للدستور.
هذه القرارات الأخيرة للمجلس الدستوري، وغيرها تجعل الوثيقة الدستورية تحمل عدة قراءات وتفسيرات دستورية وسياسية، لذلك فالمشكل يبقى دائما مطروحاً في القرارات التي أصدرها المجلس الدستوري خصوصا مع اللغة الغامضة والعامة والفضفاضة التي صيغت بها القوانين التنظيمية.
أضف إلى ذلك، الإشكال القانوني المتعلق بعدم تطابق إحالة القوانين التنظيمية المتعلقة بالجهات والجماعات الترابية الأخرى مع القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية، ثم خصوصا الإشكال القانوني المتعلقة بالفصل 146 من الدستور،الذي ينص على انه:
“تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية،…“ والواقع أن المشرع نظم الجماعات الترابية في ثلاث قوانين تنظيمية رغم أن النص الدستوري تحدث صراحة عن قانون تنظيمي واحد للجماعات الترابية.
وعلاوة على ما سبق، هناك الإشكال القانوني المتعلق بالفتح الاستثنائي الجديد للتقييد في اللوائح الانتخابية من 10 يوليوز إلى 21 غشت 2015 ودستوريته، خصوصا أن الفتح تم ببلاغ لوزارة الداخلية، مع أن الأجل الاستثنائي الجديد للتقييد في اللوائح الانتخابية العامة يجب أن يتم بمرسوم صادر عن رئيس الحكومة باقتراح من وزير الداخلية.
وعموما، فمفهوم الجهوية والمجال كانا دائما ولا يزالان ولمدة طويلة يمثلان أحد الاهتمامات الكبرى للأجهزة المركزية. ولعل الهاجس السياسي – الأمني هو الذي كان وراء الاهتمام بالمعطى المجالي، بحيث كان يتم الحرص دائما على الخضوع المادي للسلطة.
وبالتالي فالمجال الترابي ظل، ولايزال، رهينة ميزان القوة بين مركز يهيمن عليه الهاجس الأمني والتحكم وضبط المجالات الترابية،وبسط نفوذ سلطة تنفيذية معينة وتجديد شرعيتها السياسية، ومحيط محلي يحاول أن يتخلص من هيمنة المركز عبر التمرد والانتفاضات والحركات الاحتجاجية.
وهكذا، فإن نهج استراتيجية تنظيم المجال السياسي، بصفة متكررة، تحقق مكسبا مهما للسلطة بحيث تؤدي مثل هذه الاستراتيجية إلى تجديد آليات الضبط وإنتاج النخب السياسية، كما أن هذه المنهجية تمكن السلطة السياسية في استبدال الزعامات القديمة بالنخب العصرية الحديثة، مما يمكنها من ممارسة السلطة بشكل عقلاني.
إن أزمة السياسات العمومية في المغرب، تعكسها هيمنة المقاربة الأمنية –السياسية المركزية على حساب البعد التنموي الجهوي، التي تعطي لسلطات الوصايا المعينة (العامل-الوالي …) حكماً حقيقياً على المستوى الجهوي، ومن ثَمّ تُبقي للمجالس المحلية المنتخبة دورا صوريا واستشاريا في تحقيق التنمية المحلية.
ختاما نقول، إنه رغم تضخم الخطابات السياسية حول الجهوية (الجهوية السياسية، الجهوية الموسعة، الجهوية المتقدمة…) فإن السلطة المركزية لا تسمح بوجود فاعلين محليين يناط بهم تفعيل التنمية المحلية للجهة، إذ ليس هناك رغبة للفاعل المركزي في اقتسام السلطة مع المحيط المحلي خوفا من فقدان هيمنته، لتظل السلطة المركزية بعد ذلك فاعلا حقيقيا ومتحكما في كل المبادرات المحلية والوطنية.
جواد الرباع/ باحث في العلوم السياسية