في حديث صراع الأجيال
ثمة مراحل يحتدّ فيها الصراع في ما بين أجيال الحزب الواحد أو التيار الواحد أو نظام بعينه أو ثورة بذاتها.
وينشأ في الغالب تيار ينحاز للأجيال الأصغر فيطالب الشيوخ بالتقاعد أو الرحيل لإفساح المجال للجيل الجديد والأفكار الجديدة. وهو يفعل ذلك لو افترضنا، حسن النية والقصد، من دون أن يناقش بالعمق الكافي، ويُقيم البرهان بأن ما يطرحه الجيل الأصغر هو الأصوَب والأكثر مطابقة للوقائع الجديدة والزمن الجديد.
بداية يجب عدم الخلط عند الحديث عن الأجيال بين جيل تقادَمَ عهده والجيل الذي يليه، وقل يصغره بعشر سنوات أو خمسة عشر عاماً من جهة، وبين الجيلين المذكورين والجيل الصاعد الذي لم يغادر العشرينيات من العمر.
فالبنسبة إلى ما يحمله الجيل الشاب الفتي الذي لم يتمرّس بعد بالسياسة ولم يطل به الزمان في النضال، فإنه لا بد من أن يحمل رؤى أكثر ثورية وجذرية وأكثر تطابقاً مع الزمن الجديد. وهذا الجيل في العادة يكون خارج الأحزاب والتيارات التي تقادَم عهدها، أو يكون بعضه قد انفصل، أو فُصِل من الحزب، أو التيار. لأن هذا الجيل في العادة مكانه في الشارع، أو خارج اللعبة التقليدية. ومن ثم فهو لا يُحسِن اللعب داخل الحزب، أو التيار، كما يفعل الجيل الذي هو في الصف الثاني. وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الجيل الأول. بل ويطمح في أن ينافسه في انتخابات المؤتمر العام حين يُدعى إليه، أو يُطالب بإحداث تغيير على أسس الثلث أو الربع ليصبح شريكاً من خلال ذلك الثلث في القيادة والحلول التدرجي مكانها. وهذا على كلٍ، حاصل بحكم الوفاة والمرض والعجز مع التقدم بالعمر إن لم يرافقه الاستعجال.
ليس صحيحاً عند المقارنة، كما تدل التجربة في عشرات الأمثلة، أن الجيل الثاني/ جيل الصف الثاني يكون أكثر شباباً في صفاء الرؤية والطرح أو أكثر ثورية وجذرية. فالأمثلة التي خرج فيها من الصف الثاني قيادات أكثر مساومة وتهافتاً على التخلي عن المبادئ الأساسية، وأكثر تطلعاً إلى السلطة وأكثر واقعية (بالمعنى البراغماتي المبتذل) من الجيل الأول.
وهذه تجربة أعرق حزب شيوعي أي حزب البلاشفة الروس حين تقارن قياداته في عهد لينين وقيادته في عهد ستالين (علماً أن ستالين من الرعيل الأول). وتبدأ الكارثة بوضوح أكبر حين تقارن قيادتيه الأولى والثانية، بقيادة خروتشوف وبريجنيف، ويا للهول عندما تصل إلى غورباتشوف فيالتسين. وذلك قياساً بمشروع البداية والمبادئ، أو الروح الثورية أو التجديد الثوري. وبالطبع دعك من الإدعاءات.
مشكلة الأجيال داخل الأحزاب والتيارات تختلف جوهرياً عن مشكلة الأجيال في المجتمع، ولا سيما عند المقارنة بالجيل الشاب بين 15 – 30 عاماً. وهو الجيل الذي يكون أكثر تحرّراً واستقلالية من أقرانه الذين ينضمون إلى الأحزاب بسن مبكرة. وإذا بعملية الصوْغ وغسل الدماغ والتثقيف تفعل فعلها في مصادرة كل جذوة غير معهودة، وكل فكرة مبتكرة.. الأمر الذي يجعل التجديد داخل الأحزاب والتيارات لا سيما عند الحديث عن الصف الأول فالثاني فالثالث حيث تصبح الفروق، في الجوهر، ضئيلة، مع ربما ميل للأسوأ فالأسوأ، قياساً بالمنطلقات والمبادئ الأولى. وحتى قياساً بالمستوى الخلقي والقيمي وصولاً إلى الترف والفساد وحتى الاستبداد أو نزعة التفرد.
من يراجع الأحزاب الرئيسة في التجربة الديمقراطية الغربية وفي جناحيها المحافظ والديمقراطي، أو اليميني واليساري، أو الرجعي والتقدمي يلحظ كم راحت القيادات الجديدة الأكثر "شباباً" تنحط وتصبح هزيلة، أو فاسدة، مقارنة بالقيادات التقليدية التي عرفتها التجربة الغربية. فمن يقارن، وبأي مقياس: أجمهوري أم ديمقراطي، أمحافظ أم عمالي، من حيث تسلسل تيارات كل اتجاه سيجد أن السابقين الأولين في كل من الاتجاهين، وبمعايير كل منهما، أفضل بما لا يقبل الشك والتشكيك من القيادات الحالية أمثال كلينتون وجورج دبليو بوش وأوباما حين يُقارَنون بروزفلت وكينيدي وأيزنهاور وكلما رجعت إلى الوراء زادت الهوّة. وكذلك الحال بالنسبة إلى أمثال طوني بلير وكاميرون حين يقارَنان بأتلي وتشرتشل. وعلى هذه الأمثلة قس.
ولهذا لا بد من الحذر حين يقارَن بين أجيال على مستوى الصف الأول والثاني بالنسبة إلى الحزب الواحد والتيار الواحد. ومن ثم من الخطأ الشديد التعامل مع الموضوع انطلاقاً من التدقيق العميق والدقيق لما يطرحه كل جيل، وما يمثله من أخلاقية وقيمية. وذلك بمعيار الأصول والثوابت الذي قام على أساسها الحزب المعني أو التيار المعني.
بل يجب أن تحضر في الذهن دائماً التجربة التاريخية للكثير من الأحزاب والتيارات في هذا المضمار، وعلى مستوى هذا الموضوع. ومن ثم استحضار النتائج. فمسار الأحزاب والتيارات الشيخوخة الشاملة لكل أجيالها، فهي لا تتجدد عموماً، ولا يأتي الجديد إلاّ من خارجها أو من الخروج عليها.
هنا قد ينبري رأي متسرّع ليقول أن هذا يعني إبقاء القديم على قدمه وعدم التجديد. ومن ثم نترك الجيل الأول الشائخ يتربع على صدر الحركة والحزب إلى الأبد. طبعاً لا يُقصد هذا وإنما التحذير من "الهروب من تحت الدلف إلى تحت المزراب".
هذا الرأي متسرّع، ويريد مصادرة الموضوع، بنوع من الإرهاب الفكري لأنه لم يدحض الموضوعة السابقة القائمة على عدة تجارب تاريخية وعلى وقائع المقارنة بين الصف الأول والصف الثاني ومن ثم ملاحظة ما يكون قد أصاب الصف الثاني من أمراض لا تجعله تلقائياً، وبلا مناقشة وتدقيق، أفضل من سابقه بدعوى الحاجة إلى التجديد وتجديد الدماء.
فإذا جئت بصف ثانٍ ليذهب إلى المساومة والتفريط أكثر، والغرق بالفساد مثلاً، فهل تكون قد جدّدت ونضحت دماء جديدة، أم تكون قد زدت الوضع الشائخ بسلبيات لم تكن منه. فالمشكل في الصف الثاني الذي ذهب زمانه وشبابه أيضاً ولم يحمل مشروعاً تجديدياً حقاً. ودعك من ادّعائه بما ليس فيه.
فمشروع التجديد وضخ دماء جديدة يجب أن يناقشا من حيث محتواهما وليس انطلاقاً من مقولة الأجيال في طرحها المبتذل حين تفرق بين الصف الأول والصف الثاني باعتبارهما جيلين متباعدين فيما الفاصل بينهما ليس فاصلاً وإنما هو تداخل يكاد يجعلهما جيلاً واحداً ولو كان الفارق عشر سنين أو خمسة عشر سنة.
وبالمناسبة الصفوف الثالثة والرابعة والخامسة حيث الفارق الشبابي أكثر بروزاً فهي غير مقصودة بالتجديد وضخ الدماء الجديدة بل حتى هذه في الأحزاب تكون أقل فتوة وشباباً من مجايليها في المجتمع بسبب ما يحاصرها منذ دروسها الأولى في الخلية إعادة صوْغ أفكارها ومسلكها وفقاً لما تأسّس عليه الحزب أو وفقاً لما هو قائم فيه في حينه.
فمن يبحث عن الجديد الشاب والذي يمكن أن يحمل مشروعاً جديداً بأفكار جديدة وباستراتيجية جديدة فهي في المجتمع وفي الظاهرات الشابة ومن يتبعها من كهول وشيوخ تخطوا، بالرغم من قلتهم، زمانهم ولحقوا بالزمن الجديد.