المرأة

الرضاع الطبيعي بين الطب والشرع

دعت منظمة الأمم المتحدة عبر هيئاتها العاملة كمنظمة الصحة العالمية واليونيسف إلى جعل الأسبوع الماضي أسبوعا للرضاع الطبيعي، وتم برمجة مجموعة من الأنشطة والحملات في العالم خلاله، للتوعية بفوائد ومزايا الرضاع الطبيعي وآثاره الايجابية على صحة الأم والطفل، وكذا إشعار صانعي القرار بأهمية الرضاع الخاصة في حالات الطوارئ وبضرورة حماية الأمهات، وتقديم الدعم لهن ليقمن بإرضاع أطفالهن خلال حالات الطوارئ، وإن كانت هذه الدعوة من الأمم المتحدة تطبعها صفة "الاستعجال والطوارئ" في الدول غير المستقرة سياسيا واجتماعيا بسبب الحروب والمجاعات حيث أن على الأمهات الإرضاع وجوبا واضطرارا بسب انعدام الماء الصالح للشرب والأغذية الكافية لإنقاذ أرواح أطفالهن من سوء التغذية والأمراض فهذا لا يعني أن الرضاع الطبيعي غير ضروي لسائر أطفال العالم أو أقل أهمية، لا سيما وأنه لأسباب متعددة منها ما هو اقتصادي واجتماعي أو ثقافي لا يستفيد ما يقارب 60 بالمائة من أطفال العالم من الرضاع الطبيعي وهو ما صار يشكل خطرا على صحة الأجيال في المستقبل، فالأمهات إما بسب ظروف العمل أو بسبب موضات الحفاظ على الجمال ورشاقة الجسم أو عدم الوعي بأهمية الرضاع الطبيعي الصحية والعاطفية أو الجهل بمخاطر الإرضاع الصناعي أو بسبب المشاكل الصحية أو بسبب التمرد على الفطرة ووظيفة المرأة كأم في بعض المجتمعات والأوساط، أو حتى بداعي الاستسهال والتقليد لسلوك مستورد أو سائد تخلين عن هذه المهمة الجليلة التي أدركت المجمعات البشرية مبكرا ضرورتها الصحية وفوائدها فكان الأطفال لا يحرمون من الرضاع بسبب اليتم أو غيره حيث كان يتم استرضاع النساء له، ويكفي أن نورد حديث السيدة حليمة السعدية مرضعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لندرك حرص العرب على صحة الأبناء وخشيتهم عليهم من الأوباء والأسقام، فعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أو عمّن حدثه عنه قال:"كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته، تُحَدّث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم أخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل على ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل (ممتلئة الضرع من اللبن)، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً فبتنا بخير ليلة" .

حازت والله شرف الدنيا والآخرة هذه السيدة ببركة إرضاعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك تحوز كل أم مرضعة أجر وثواب الدنيا والآخرة وتستحق عن جدارة وصاية أمك ثم أمك ثم أمك، أمك أولا لأنها حملت وهنا على وهن وأمك الثانية لأنها أرضعت وغذت ونمت ورعت البدن وأمك ثالثة لأنها ربت الروح وحافظت على الفطرة وأدت الأمانة.

الفوائد الطبية والصحية للرضاع الطبيعي

في مستهل هذا المقال نلقي بعضا من الضوء على الفوائد الصحية والطبية للرضاع الطبيعي لنجعلها جسر تواصل بيننا وبين بعض من لا يسلك في آذانهم إلا قال الأمريكان وقال الألمان وقالت المنظمة الفلانية والهيئة العلانية، لنسمع بعد ذلك كلام الله ورسوله معا كلام الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لنرى تأكيد الشريعة الغراء على قضية الإرضاع وإلحاحها عليه وعلى بعض من أحكامه.

تجهل فئة عريضة من الأمهات فوائد الإرضاع الطبيعي بسبب انتشار الأمية في أوطاننا وضعف حملات التوعية الصحية والإعلامية، وتسود في أوساطهن بعض السلوكيات والمعتقدات غير الصحيحة نحاول الإشارة إلى بعضها اختصارا ولمن أراد التوسع استشارة أهل الاختصاص.

يقصد بالرضاع الطبيعي عدم إعطاء الطفل حديث الولادة أي غذاء أو سوائل سوى لبن الثدي حتى الشهر السادس، بحيث يشكل لبن الأم العنصر الأساس لغذاء الطفل وبعد ذلك يمكن للطفل أن يشارك الأسرة في غذائها بشكل متدرج ولكن دون الانقطاع عن الرضاعة الطبيعية حتى يبلغ عامين أو أكثر لضمان نموه السليم وحمايته من الأمراض.

ولذلك فوائد جما، هذه بعضها.

– بالنسبة للأم:

• تساعد علي انقباض الرحم مما يوقف نزيف ما بعد الولادة ويسرع استعادة الرحم لحجمه الطبيعي

• تساعد على استعادة الأم لوزنها الطبيعي

• تقلل من الإصابة بالإكتئاب النفسي المعروف بعد الولادة

• تخفف من أعباء الأم فهي سهلة ولا تحتاج إلي عملية تسخين أو تعقيم

• تقوي العلاقة العاطفية بين الأم والطفل

• تساعد على تأخير التبويض ومنع الحمل خاصة في الشهور الستة الأولى

• تقلص من فرص الإصابة بسرطان الثدي والمبيض

– بالنسبة للطفل:

• يغطي الاحتياج الكامل للطفل من الغذاء في الأيام الأولى بالرغم من قلة كميته: السعرات الحرارية، كمية عالية من البروتين، فيتامين (أ)

• يعتبر اللبن الطبيعي عاملا ملينا للطفل ويحتوى على العناصر المناعية ضد الكثير من البكتريا والفيروسات.

• لبن الأم سهل الهضم للطفل وتساعد مكونات لبن الأم من الدهون الحمضية والهرمونات على نمو المخ وبخاصة في الأشهر الستة الأولى.

سكريات لبن الأم –اللاكتوز—تزود الطفل بالطاقة وتدخل في مكونات الجهاز العصبي

• نسبة الحديد في لبن الأم كافية لاحتياجات الطفل في الأشهر الأربعة الأولى

• لبن الأم يحمى من لين العظام لاحتوائه على نسبة كافية من فيتامين (د) والكالسيوم والفسفور ونسبة عالية من فيتامين (ج)

• يقلل من الإصابة بأمراض الضغط العالي وتصلب الشرايين والبول السكري وتسوس الأسنان وأمراض نقص المناعة

مخاطر الرضاع الصناعي

ومادامت قيمة الأشياء تعرف بأضدادها كما يقال نعرض بعضا من مخاطر الرضاع الصناعي وأثاره السلبية على صحة الطفل والأم لعلها تكون رادعا لبعض الأمهات، فهو يؤدى:

• إلى سوء التغذية بسبب أخطاء تحضير"الرضعات" والحفظ مما يؤدى إلي التلوث وخطر الإصابات المرضية المتكررة.

•تضاعف الإصابة بأمراض الإسهال أكثرمن25 مرة أكثر على الإرضاع الطبيعي.

• يرفع نسبة الوفيات حيث تزيد 14 مرة عن الأطفال الذين يرضعون طبيعيا.

•أمراض الجهاز التنفسي أكثر انتشارا ومعدل الوفيات بينهم أربع أضعاف الوفيات في أطفال الرضاع الطبيعي.

•تزايد معدل إصابة المسالك البولية والتهابات الجلد والحساسية.

• خفض مستوى الذكاء وتدني القدرات العقلية والإدراكية.

أفكار خاطئة

ومما ينبغي الانتباه إليه كثيرا من طرف الأمهات أثناء فترتي الحمل والإرضاع عدم تعاطي الأدوية لأي سبب إلا باستشارة المختصين من الأطباء والمعالجين لما في ذلك من خطورة على الجنين والرضيع كما يجب على الأمهات الاستعداد للرضاعة الطبيعية بشكل مبكر أثناء فترة الحمل، وذلك باتباع خطوات مهمة مثل:

• التأكد من سلامة حلمات الثدي ومعالجة أي مرض مثل الحلمة الغائرة أو المتشققة.

•الاهتمام بالتغذية المتكاملة للحامل بحيث تغطى حاجات الأم والرضيع خاصة البروتين والحديد والكالسيوم (الحبوب والبقول والخضراوات الطازجة والفواكه والحليب العسل الأسود والتمر والخضراوات والأسماك.

كما على المرضعات التخلص من بعض الأفكار الخاطئة والشائعات التي لا أصل لها من الصحة حول الرضاع التي تفشو في أوساط النساء -حتى المتعلمات منهن- ونحاول تسليط الضوء على بعضها اختصارا تعميما للفائدة وتقويما لبعض السلوكات وإن كنا ذكرنا بعضها في فوائد الرضاع:

– الإسراف في تنظيف الثدي والحلمة بعد كل رضعة: الغسيل المتكرر للثدي والحلمة بالماء والصابون بعد كل رضعة وخاصة بالصابون يزيل طبقة الزيت الطبيعي الموجودة على الهالة والحلمة، وهي مادة تفرزها الغدد الموجودة على الهالة مما يؤدي إلى جفاف الجلد وتشققه ويسبب الألم للأم عند إرضاع طفلها، وقد يعيق عملية الرضاعة الطبيعية، لذا ينصح بأن تأخذ الأم حماما كل يوم وتنظف الثدي أثناء الاستحمام بيدها بالماء والصابون، دون أن تعاود تنظيف الثدي بعد كل رضعة.

– جر الحلمات يوميا خلال الحمل لإبراز الحلمة: يتحسن بروز الحلمة خلال الحمل وبعد الولادة عندما يبدأ الطفل بالرضاعة، لذا يفضل عدم القيام بهذه التمارين لأنها قد تسبب إفراز هرمون الأوكسيتوسين الذي يسبب انقباض عضلات الرحم خلال الحمل مما قد يتسبب بالولادة المبكرة.

– الرضاعة الطبيعية وزيادة الوزن: الرضاعة الطبيعية تسارع في إنقاص الوزن وإعادته إلى ما كان عليه قبل الحمل، حيث أن المرضعات يستهلكن حوالي 500 سعرة حرارية زيادة عن غيرهم لإنتاج الحليب، وزيادة وزن الأم المرضع تنتج عن تغير طبيعة الأكل خلال فترة الرضاعة للاعتقاد الخاطئ بأنها يجب أن تأكل طعاما ذا سعرات حرارية عالية.

– الرضاعة الطبيعية تشوه الثدي: الرضاعة الطبيعية لا تؤثر على شكل الثدي على المدى البعيد إذا كان وضع الطفل صحيحا مع الثدي، واستخدمت حمالة مناسبة لحجم الثدي، فالممارسات الخاطئة خلال الرضاعة هي التي تسبب ترهل الثدي، لا الرضاعة الطبيعية ذاتها.

– الثدي الصغير وإدرار الحليب: لا علاقة لحجم الثدي بكمية أو نوعية حليب الأم، بل يعتمد مقدار ما ينتج من حليب الأم على تكرار إرضاع الطفل ومكوثه على الثدي حتى ينتهي من الرضعة.

– استخدام (اللهايات) بعد الولادة لتهدئة الطفل: استعمال (اللهاية) لتهدئة الطفل يمكن أن يرهقه ويستنفذ قواه ويؤثر على تعلم وتطور عملية المص عنده، ولا يستطيع الطفل أن يرضع بالشكل الصحيح من أمه، وتقل أيضا جراء استخدام (اللهاية) عدد الرضعات اليومية مما يقلل من إنتاج الحليب ويؤدي إلى التوقف عن الرضاعة نهائيا فيما بعد، هذا بالإضافة إلى أن استعمال (اللهاية) يضر بصحة الفك والأسنان.

– الرضاعة الطبيعية غير كافية للتوأم: حليب الأم يكفي لطفلين أو أكثر، إذ يعتمد إنتاج حليب الأم على تكرار الرضعات؛ فكلما رضع الطفل أكثر زاد إنتاج الحليب ليلبي حاجات التوأم.

– حليب اللبا غير كاف، وغير جيد للأطفال: حليب اللبا هو الحليب الذي تنتجه الأم في الأيام الأولى بعد الولادة، ومن خصائصه أنه كثيف، ويحتوي على نسبة عالية من البروتين، وينتج بكميات قليلة، ولكن هذه الكمية كافية لتغطية احتياجات الوليد الغذائية، وهو غني بعوامل المناعة، ويكون بمثابة الغذاء الأول الذي يعطى للطفل، ويساعد على نضج الأمعاء عند الطفل فيصبح هضم الحليب لديه أسهل وأكثر فاعلية، ويقي من حدوث الحساسية الغذائية، وهو غني بفيتامين (أ)، الذي يحمي من أمراض العيون.

همسة أخيرة في هذا الجزء من المقال لكل أم أغناها الله من فضله ووسع في رزقها ولم تضطرها الحاجة للعمل اضطرارا أن تخصص عامين على الأقل من عمرها لأولادها حتى تفطمهم وهذا ليس منقصة في حقها بل هو أقل ما يجب لحق أداء كلمة "أمي" ولوظيفتها الأولى والكبرى وظيفة الأمومة. والله لا يضيع أجر المحسنين.

أحكام الرضاع في الشريعة الاسلامية

اعتبر الإسلام مسألة إرضاع الأطفال حقا من الحقوق الأساسية للطفل التي لا جدال فيها، وإن اختلف الفقهاء والعلماء على من تجب من الوالدين في تفصيل رائع ومفيد. كما رتب على الإرضاع أحكاما وآدابا شرعية كثيرة، نلمس منها جميعا أن الإرضاع يسمو عن كونه رابطة مادية غذائية إلى كونه رابطة معنوية وروحية لها قدسيتها وحرمتها، حيث أولاها عناية خاصة. فنحن حين نتلو كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم نجد جملة من الآيات والأحاديث التي تحض الأمهات على الإرضاع أو تتضمن أحكاما متعلقة به في تدقيق وتفصيل غريبين يدلان على أهمية الأمر وعظمته، بسبب ما يترتب عن الرضاع من أحكام النّسب و تحريم النّكاح وثبوت الحرمة بين الإخوة من الرجال والنساء المبيحة للنّظر والخلوة، وعدم نقض الطّهارة باللّمس-عند من يرى ذلك من الفقهاء-.وقد جرت العادة بين الأسر والجيران على إرضاع أبناء بعضهم البعض عربون محبة، و تمتينا لروابط القربى والجيرة، أو شفقة على اليتامى و قياما بواجب الرعاية لمن يتعذر على أمهاتهم إرضاعهم. وكانوا لا يجدون غضاضة في ذلك بل كان عرفا عاما مشتهرا بين الناس وهو ما جعل الإسلام يخصه بتشريع نلقي الضوء على بعض من جوانبه:

على من يجب الإرضاع؟

لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجب إرضاع الطّفل ما دام في حاجةٍ إليه، وفي سنّ الرّضاع، واختلفوا في من يجب عليه:

قال الشّافعيّة والحنابلة:يجب على الأب استرضاع ولده، ولا يجب على الأمّ الإرضاع، وليس للزّوج إجبارها عليه، دنيئةً كانت أم شريفةً، [1]في عصمة الأب كانت أم مطلقة منه، إلاّ عند الضرورة، كأن لم يجد الأب من ترضع له غيرها، أو لم يقبل الطّفل ثدي غيرها، أو لم يكن للأب ولا للطّفل مال، فيجب عليها حينئذٍ. ولكن الشّافعيّة قالوا: يجب على الأمّ إرضاع الطّفل اللّبأ وإن وجد غيرها-اللّبأ ما ينزل بعد الولادة من اللّبن- لأنّ الطّفل لا يستغني عنه غالباً، ويرجع في معرفة مدّة بقائه لأهل الخبرة.

قال الأحناف: يجب على الأمّ ديانةً لا قضاءً.

أما الجمهور: فقد استدلّ على وجوب الاسترضاع على الأب بقوله تعالى: "وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى"، وإن اختلفا فقد تعاسرا

قال المالكيّة:يجب الرّضاع على الأمّ بلا أجرةٍ إن كانت ممّن يرضع مثلها، وكانت في عصمة الأب، ولو حكماً كالرّجعيّة، أمّا البائن من الأب، والشّريفة الّتي لا يرضع مثلها فلا يجب عليها الرّضاع إلاّ إذا عند الضرورة كأن لم يوجد غيرها.واستدلّوا بقوله تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ" وقالوا: استثني الّتي لا يرضع مثلها من عموم الآية لأصلٍ من أصول الفقه وهو:العمل بالمصلحة، ولأنّ العرف عدم تكليفها بالرّضاع فهو كالشّرط.و إن رغبت الأمّ في إرضاع ولدها أجيبت وجوباً.سواء أكانت مطلّقةً، أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء، لقوله تعالى: "لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا"

الأجرة على الرضاع

كما أن للأمّ حق طلب أجرة المثل بالإرضاع سواء كانت في عصمة الأب أم لا، لقوله تعالى: "فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ" وإلى هذا ذهب الشّافعيّة والحنابلة. وقال الحنفيّة: إن كانت في عصمة الأب أو في عدّته فليس لها طلب الأجرة، لأنّ اللّه تعالى أوجب عليها الرّضاع ديانةً مقيّداً بإيجاب رزقها على الأب بقوله تعالى: "وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، وهو قائم برزقها حالة بقائها في عصمته أو في عدّته، بخلاف من لم تكن في عصمته ولا في عدّته، فتقوم الأجرة مقام الرّزق، وقال المالكيّة: إن كانت الأمّ ممّن يرضع مثلها وكانت في عصمة الأب فليس لها طلب الأجرة بالإرضاع، لأنّ الشّرع أوجبه عليها فلا تستحقّ بواجبٍ أجرةً. أمّا الشّريفة الّتي لا يرضع مثلها، والمطلّقة من الأب، فلها طلب الأجرة، وإن تعيّنت للرّضاع أو وجد الأب من ترضع له مجّاناً.

ماذا يحرم الرضاع؟

لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحرم على الرّضيع من النّساء من يحرمن عليه من النّسب وهنّ السّبع اللاتي ذكرن في آية: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ" وهنّ الأمّهات والبنات، والأخوات والعمّات، والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وقد ثبت تحريم الأمّ والأخت من الرّضاع بنصّ الكتاب قال تعالى:"وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ"، وتحريم البنت بالتّبعيّة، لأنّه إذا حرّمت الأخت فالبنت أولى. أمّا سائر المحارم فقد ثبت تحريمهنّ بالسّنّة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب " . وثبتت الحرمة لأنّها فرع على التّحريم فتحرّم المرضعة على الرّضيع، لأنّها أمّه، وآباؤها وأمّهاتها من النّسب أو الرّضاع أجداده وجدّاته. فإن كان أنثى حرم على الأجداد نكاحها أو ذكرًا حرم عليه نكاح الجدّات. وفروع المرضعة من الرّضاع كفروعها من النّسب، فأولادها من نسبٍ أو رضاعٍ إخوته وأخواته كما يحرم على المرضعة أبناء رضيعها وأبناء أبنائه وإن سفلوا، ولا يحرم عليها أصوله كأبيه، وجدّه، ولا حواشيه كإخوته وأعمامه وأخواله، فيجوز لهؤلاء أن يتزوّجوا المرضعة أو بناتها أو أخواتها، فالرّضاعة لا تنشر الحرمة إلى أصول الرّضيع وحواشيه.

ولكي يترتب الحرمة من الرضاع ينبغي توفر شروط منها:

شرط خمس رّضعات

لا خلاف بين الفقهاء في أنّ خمس رضعاتٍ فصاعداً يحرّمن. واختلفوا فيما دونها.

فذهب الجمهور ' الحنفيّة والمالكيّة وأحمد في روايةٍ عنه ' وكثير من الصّحابة والتّابعين إلى أنّ قليل الرّضاع وكثيره يحرّم وإن كان مصّةً واحدةً، فالشّرط في التّحريم أن يصل اللّبن إلى جوف الطّفل مهما كان قدره. واحتجّوا بقوله تعالى: "وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ" .وقالوا: إنّ اللّه سبحانه وتعالى علّق التّحريم باسم الرّضاع، فحيث وجد وجد حكمه، وورد الحديث موافقاً للآية :" يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب " حيث أطلق الرّضاع ولم يذكر عدداً، ولحديث "كيف بها وقد زعمت أنّها قد أرضعتكما" ولم يسأل عن عدد الرّضعات.

وذهب الشّافعيّة والحنابلة في القول الصّحيح عندهم إلى أنّ ما دون خمس رضعاتٍ لا يؤثّر في التّحريم. وروي هذا عن عائشة، وابن مسعودٍ وابن الزّبير رضي الله عنهم وبه قال عطاء وطاوس، واستدلّوا بما ورد عن أمنا عائشة قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن ثمّ نسخن بخمسٍ معلوماتٍ فتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن" والمعنى واللّه أعلم: أنّ نسخ تلاوة ذلك تأخّر جدّاً حتّى أنّه توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبعض النّاس لم يبلغه نسخ تلاوته، فلمّا بلغهم نسخ تلاوته تركوه وأجمعوا على أنّه لا يتلى مع بقاء حكمه، وهو من نسخ التّلاوة دون الحكم، وهو أحد أنواع النّسخ.

شرط الحولين

لا خلاف بين الفقهاء في أنّ ارتضاع الطّفل وهو دون الحولين يؤثّر في التّحريم.

فقال الشّافعيّة والحنابلة:وأبو يوسف ومحمّد وهو الأصحّ المفتى به عند الحنفيّة :إنّ مدّة الرّضاع المؤثّر في التّحريم حولان، فلا يحرّم بعد حولين. واستدلّوا بقوله تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ"، وقالوا: جعل اللّه الحولين الكاملين تمام الرّضاعة، وليس وراء تمام الرّضاعة شيء. وقال عزّ من قائلٍ: "وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ" وقال: "وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" وأقلّ الحمل ستّة أشهرٍ فتبقى مدّة الفصال حولين، ولحديث: "لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين " ولحديث أمّ سلمة مرفوعاً: "لا يحرّم من الرّضاعة إلاّ ما فتق الأمعاء في الثّدي وكان قبل الفطام

وقال المالكيّة: يشترط في التّحريم أن يرتضع في حولين أو بزيادة شهرٍ أو شهرين، وألاّ يفطم قبل انتهاء الحولين فطاماً يستغني فيه بالطّعام عن اللّبن، فإن فطم واستغنى بالطّعام عن اللّبن ثمّ رضع في الحولين فلا يحرّم.

وقال أبو حنيفة: مدّة الرّضاع المحرّم حولان ونصف ولا يحرّم بعد هذه المدّة، سواء أفطم في أثناء المدّة أم لم يفطم، واحتجّ بقوله تعالى: "وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ" قال: فأثبت سبحانه الحرمة بالرّضاع مطلقاً عن التّعرّض لزمان الرّضاع، إلاّ أنّه قام الدّليل على أنّ زمان ما بعد الحولين والنّصف ليس بمرادٍ، فيعمل بإطلاقه فيما وراءه.واستدلّوا بقوله تعالى : "وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" أي:ومدّة كلٍّ منهما ثلاثون شهراً.

إرضاع الكبير

وأما إرضاع الكبير الذي حولته الإثارة الإعلامية إلى مادة نكتة وسخرية، وتطاول على العلم وأهله، بل على الدين وأصوله، فقد ناقشه فقهاؤنا الكرام المستوفين لشروط الفتيا وأركانها- رحمهم الله -نقاشا هادئا بغير تعصب ولا تحامل، فحدو له حدودا ووضعوا له شروطا، بل ذهب الكثير منهم إلى عدم القبول به "قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: "ذهب طائفة من السّلف والخلف إلى أنّ إرضاع الكبير يحرّم. واحتجّوا بما في صحيح مسلمٍ وغيره عن زينب بنت أمّ سلمة أنّ أمّ سلمة قالت لعائشة: إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الّذي ما أحبّ أن يدخل عليّ. فقالت عائشة:أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة؟. قالت: إنّ امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول اللّه: إنّ سالماً يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه حتّى يدخل عليك" وفي روايةٍ لمالكٍ في الموطّأ قال: "أرضعيه خمس رضعاتٍ" فكان بمنزلة ولده من الرّضاعة. وهذا الحديث أخذت به عائشة، وأبى غيرها من أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به، مع أنّ عائشة روت عنه قال: "الرّضاعة من المجاعة" لكنّها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعةً أو تغذيةً. فمتى كان المقصود الثّاني لم يحرّم إلاّ ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامّة النّاس. وأمّا الأوّل فيجوز إن احتيج إلى جعل شخص ما محرمٍا. وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا قول متوجّه. وقال: رضاع الكبير تنتشر به الحرمة في حقّ الدّخول والخلوة إذا كان قد تربّى في البيت بحيث لا يحتشمون منه للحاجة، وهو مذهب عائشة وعطاءٍ واللّيث. ولمن يرى غير هذا الرأي فله في قول ابن تيمية"وأبى غيرها من أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به"

لكن عموما قد يقع حول الرضاع نزاع هل كان أم لم يكن؟ وهل أرضعت فلانة فلان؟ وهل فلان أخ فلان من الرضاع؟ لذا كان لابد من الشهود لنفيه أو إثباته ولحسم الشجار بين الناس، خاصة إن وقع الزواج بين الأخوين من الرضاع وهو أمر وارد تشهد له وقائع الحياة الكثيرة.

الإشهاد على الرضاع

اختلف الفقهاء في نصاب الشّهادة على الرّضاع

ذهب الحنفيّة: إلى أنّه يثبت بشهادة العدول، رجلين أو رجلٍ وامرأتين، ولا يقبل أقلّ من ذلك، ولا شهادة النّساء بانفرادهنّ.

وقال المالكيّة: يثبت الرّضاع بشهادة رجلين أو رجلٍ وامرأتين مطلقاً قبل العقد وبعده.

وقال الشّافعيّة: يثبت الرّضاع بشهادة رجلين، وبرجلٍ وامرأتين، وبأربع نسوةٍ، لأنّه ممّا لا يطّلع الرّجال عليه إلاّ نادراً، ولا يثبت بدون أربع نسوةٍ.

وقال الحنابلة : يثبت الرّضاع بشهادة المرأة المرضيّة.

وقد حرص سلفنا الصالح وعلماؤنا الأجلاء رحم الله الجميع على سلامة النسل ونقاء فطرته ودينه، فنهوا عن الارتضاع من الكافرة والفاجرة قال الإمام أحمد بن حنبلٍ: "يكره الارتضاع بلبن الفجور ولبن المشركات، لأنّه ربّما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور، ويجعلها أمّاً لولده فيتعيّر بها، ويتضرّر طبعاً وتعيّراً، والارتضاع من المشركة يجعلها أمّاً لها حرمة الأمّ مع شركها، وربّما مال إليها المرتضع وأحبّ دينها". كما روي عن عمر بن الخطّاب وعمر بن عبد العزيز أنّهما قالا: اللّبن يشتبه، فلا تستق من يهوديّةٍ، ولا نصرانيّةٍ ولا زانيةٍ، ويكره بلبن الحمقاء كي لا يشبهها الطّفل في الحمق.

وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن رعاية الأم المرضعة وإكرامها هي والأب والإخوان فقد روى عمر بن السّائب أنّه بلغه: " أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرّضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثمّ أقبلت أمّه فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة، فقام له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه".

ونحب أن نذكر في الأخير أنه من الواجب على الدول والحكومات –ومنها المغرب-أن تفعل بنود قانون الشغل المتعلقة بحق الأمهات في الإرضاع، من خلال تخصيص أماكن للمرضعات في الإدارات العمومية والشركات الخاصة والمصانع وأيضا بتقديم تسهيلات وتوفير أجواء ملائمة لواجب الإرضاع. كي تتجنب في المستقبل مزيدا من النفقات في القطاع الصحي، يمكن أن تتقلص بالقضاء على العديد من الأمراض التي يسببها عدم الاستفادة من الرضاع الطبيعي. فالوقاية خير من العلاج والدول الرشيدة هي من تخطط للمستقبل وتضع استراتيجات في المجال الصحي وفق رؤى مستقبلية. [2]

لا يفهم منه أنه شكل من أشكال التمييز بل هو مراعاة من الفقهاء رحمهم الله تعالى للعرف السائد بين الناس وقت الإفتاء.والعرف متغير بتغير المجتمعات.

استفدنا المادة الفقهية من الكتب التالية :بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد وموطأ الإمام مالك والموسوعة الفقهية.

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى