رحال المسكيني: علم من ذاكرة المقاومة
–القبيلة: حيث المولد والنشأة.
“فزالت الشمس ومالت،ثم انهالت وانهارت،في حجر المغيب وانهالت…ونزلنا بإزاء خيام، استدارت في سنام،قد اشتبكت حبالها،وتراصت جبالها،مدائن دورها شعر،ووقودها بعر،وسورها صدر،قد جاورت بركا ريانة،ومنازل بالأمم ملآنة..وبادر الشيخ فرحب..ولم يقاصر عن طعام نظيف،واحتفال مضيف” .
بهاته العبارات البديعة وضعنا الرحالة والأديب الشهير لسان الدين ابن الخطيب في مجال بني مسكين،ذاك المجال الذي يجاور نهر أم الربيع،وهو النهر الذي لطالما اعتبر حدا طبيعيا فاصلا بين بلاد الشاوية وغيرها من البلاد المجاورة لها.كما شكل عبوره على الدوام حدثا مؤثرا في “حرْكاتْ ” المخزن المغربي لإخضاع القبائل الثائرة،وبسط سيطرته على تلك البلاد النائية.
أما ابن الخطيب، فقد سر بحفاوة الترحيب،وكرم الضيافة التي ما فتئت عادة جبلت عليها ساكنة بني مسكين منذ عهود قديمة،حتى اشتهرت المنطقة بإيواء “المْحضْرة طلبة العلم وحملة القرآن” يقدم لهم المأكل والمشرب والمبيت على نفقة أهل الدوار الذي ينتمي له المسجد،مكان العبادة ومربط تسيير شؤون القبيلة.
تلكم هي بني مسكين،قبيلة واسعة المجال،أهلها دائموا الترحال،منذ أن قدموا من المشرق مع القبائل العربية التي ظلت تزحف ببطئ حتى دخلت المغرب الأقصى،ثم استوطنت سهول تادلة، قبل أن تتحرك خيامها المتنقلة لتحط الرحال مجاورة لنهر أم الربيع،جاعلة من النهر المتموج سندا لأمنها،وموردا لشرب ماشيتها التي طافت بشهرتها الآفاق،حيث لا سلالة تسمو على “سلالة الصردي”،ذاك هو قطيع بني مسكين الناصع البياض،إلا من سواد الفم والعينين.
ولعل تلك الماشية الأصيلة ظلت على الدوام أعز ما تهديه القبيلة لضيوفها،وقد طبعت ذاكرتنا ونحن بعد صبيان،عديد الخرفان التي كانت تذبح على شرف الأعيان،أو زوار القبيلة كشرفاء”ولاد سيدي علي” ،حيث تقدم الأكباش هدية محبة واحترام،وجلبا لبركات الدعاء التي كان “الشريف الناصري” يتمتم بها كل موسم وعام.
وحتى السلاطين والملوك،نالوا حصتهم من مواشي بني مسكين،على مر السنين،ذاك ما أخبرتنا به الباحث حاتم الفساحي في أطروحته الجامعية حول”التنقيب الأثري في بني مسكين” بحيث زودنا بوثيقة نادرة هي عبارة عن رسالة من قائد القبيلة”أحمد بن الشافعي” مرفوعة إلى السلطان العلوي عبد العزيز بتاريخ 27 من ذي القعدة 1319ه(1902م).قبيل أيام على حلول عيد ا لأضحى حينما سير حاكم قصبة دار الشافعي هديته إلى مراكش قائلا:
-“أدام الله العز والتمكين،والنصر والفتح المبين،لسيدنا أمير المؤمنين…وبعد فيوافي حضرة مولانا الشريفة مائتا كبش بالتثنية معلوفة سمينة..معلما عليها بالحناء من جبهها وأعلى رؤوسها..ذلك لأعتاب مولانا الشريفة بحضرة مراكش المحروسة..”
تلك فقط عربون محبة وولاء ظلت تتمسك به القبيلة في فترات طويلة من تاريخها،حتى أن بني مسكين كانت تعد من قبائل المخزن،واستمر أهلها مجددين الطاعة والوفاء،ربما كانت غاياتهم عدم إثارة القلاقل،وركوب الفتن،التي كانت تركبها قبائل كثيرة في زمن أطلق عليه المؤرخون: “زمن السيبة”.
ربما هو الولاء الذي جعل السلطان عبد العزيز نفسه يوجه رسالة نصح وتحذير لما علم بالزحف الفرنسي على مجال بني مسكين ،ونية القبيلة في صد العدوان الاستعماري،وفيها يقول”وعلى كل حال فلا يأخذكم هول،ولا يوعكم تشويش فإننا بحول الله…لا نألوا جهدا في صيانتكم والدفاع عنكم..”
-بني مسكين تحت سلطة الغزاة وجبروة القياد:
غير أن رياح الغزو الفرنسي سرعان ما ستعصف بالحامي والمحمي،والاضطرابات التي هزت المغرب مطلع القرن العشرين لم يسلم منها حتى عبد العزيز الذي فقد عرشه لصالح أخيه عبد الحفيظ،هذا الذي لم يحفظ شروط البيعة التي قيدته بها القبائل الثائرة،فوقع على عقد الحماية،تاركا بني مسكين وغيرها من القبائل تحت رحمة الغزاة وسطوة المحتلين.
إنها الفترة الحالكة من تاريخ المغرب قد أطلت،ومعها فقدت بني مسكين عصرا طويلا من الحرية التي ظلت تتمتع بها،لكن رجال القبيلة وشجعانها لن يرضخوا بسهولة لهذا الأجنبي/النصراني الذي اقتحم عليهم أرضهم،وسلبهم حقولهم،وصادر مواشيهم”رمز فخرهم وافتخارهم”،فكانت قصبة دار الشافعي أولى القلاع التي استشعرت خطر التغيير القادم،فأعلن قائدها “حسن بن الشافعي” أنه لن يعلن الطاعة إلا للمخزن الذي نصبه حاكما كما نصب أجداده.
غير أن سلطة المخزن كانت قد تلاشت،وآلات الغزو الفرنسي في تراب القبيلة قد سادت،فلما حل العام 1914م حتى دخلت الجيوش الفرنسية “القصبة المسكينية” .فلم تمهل القائد “المتمرد” حتى اقتحمت عليه أسوار قلعته،و صادرت أمواله،ونفته إلى مراكش حيث ظل هناك حتى وفاته بعد سنتين من احتلال بني مسكين.
حينها ستبدأ مرحلة أشد سواد من تاريخ القبيلة،لما سلط الغزاة على الأهالي أحد أعوان الاستعمار،الذي فاق جبروته على المستضعفين أسياده الفرنسيين،ولا تكاد الأدبيات الشعبية والرواية الشفوية تخلوا من ذكر أصناف العذاب،وألوان الخسف التي كال بها “القايد بوحافة” أهل القبيلة حتى أضحى السكان يهمسون سرا أن:
-“دار الحكم بالبروج-التي جعلها القايد مقر حكمه وعز سطوته- تمتلئ جدرانها بجثت المتمردين من بني مسكين”.
يحكي أحمد بن الجيلالي أحد رجالات القبيلة عن تلك الحقبة المشؤومة قائلا:”وكا القايد بوحافة يجبرنا على حصاد أرضه(الأرض التي استولى عليها بتواطئ مع الفرنسيين) في عز الظهيرة الحارقة شمسها فصل الصيف،والذي تزامن مع صيام رمضان..وكثيرا ما اضطر أحدنا لشرب الماء خوفا على حياته،وتجنبا للعطش القاتل”.
أما جدي محمد بن العوني فقد حدثت له قصة مع أعوان القايد المذكور،لما مر عليه بعض النصارى وهو في حقله وبجانبه بعض البقرات وثور سمين،أعجب به أحد المعمرين،وما هو إلا زمن يسير حتى حل الأعوان وصادروا الثور من الحظيرة،ولما عاد محمد –وكان في رحلة قنص كعادته- وعلم بالخبر استشاط غضبا،وتعقب الأعوان حتى استرد ماشيته منهم.
كانت تلك البطولة بالنسبة له،أقصى ما مكنته شجاعته من أن يدافع عن عرضه وماله،ومعها وطنه والذي يختزل في مفهوم القرية ،أو أرضه المستباحة،غير أنه كان يدرك أن لبطولته تلك ضريبة غالية قد تعصف بحياته إن وصل الخبر للقائد الطاغية..فكانت تلك الحادثة إيذانا خروج الجد العوني مدة من الزمن نحو أرض العونات بدكالة فرارا من مصير تعس قد يسلطه عليه القايد بعد تمرد ابنه –الطائش -محمد.
هكذا كانت الأوضاع بالقبيلة،لا صوت يعلو على صوت القايد،إنه صوت القياد الذين سلطتهم فرنسا على كل قبائل المغرب بعد أن خولتهم سلطات واسعة،ومنحتهم حق مصادرة أراضي الثوار،أو كل من دافع عن أرضه من الأحرار،إنه زمن القياد الكبار،ذاك الزمن الذي ضربت في رقاب كثيرة،وماتت في سجون قياده أرواح غفيرة،بأحكام تصدر حتما عن مزاج القائد ومصالح بطانته القاسية.
– ميلاد فتى الأقدار بأولاد عامر:
في ذلك الزمن الرتيب،والحكم الرهيب،وبعد مرور اثنا عشر سنة على الوجود الفرنسي وبالضبط في ربيع العام 1926م،ولد بطلنا رحال،فتى جميل المحيا،نحيف الجسم،عالي الهمم،في قبيلة أولاد عامر المحاذية لمقر سكنى القايد بوحافة ومجال سطوته.
شب الفتى المسكيني –الذي سيلازمه هذا اللقب في حياته ومماته- في ظل ظروف الاحتلال،وإن كان يلمح وهو بعد شاب أن النصارى قلة قليلة،لكن سطوتهم مؤثرة على الأهالي،لأن القايد لا يحكم إلا باسمهم،وما تجبره ذاك إلا بفضل حمايتهم له..هذا الذي طبع مخيلته وهو بعد فتى،فنشأ شديد البغض على عملاء الاستعمار،حريصا على الانتقام منهم حيثما حلت فرصة سانحة.
غير أن قبضة الغزاة وأذنابهم كانت شديدة على القبيلة،بحيث ضاقت على الفتى رحال الأرض بما رحبت،كان يرى الظلام حالكا لا نهار بعده،وروح النضال التي يمتلكها قلبه الصغير قد تودي به،فالأفق مسدود،وضوء التغيير غير موجود،فقررت نفسه الأبية الهجرة إلى أرض قد تنعم عليه بالحرية،لكن أين يجد تلك الأرض والاستعمار قبض البلاد بقبضة حديدية.
-موعد مع الكفاح :
على أن رحال المسكيني كان يدرك أن ظروف المدينة قد تكون أفضل من البادية،فعزم على شد الرحال نحو مدينة القنيطرة وهو بعد في سن الواحد والعشرين من عمره،كان ذلك على الأرجح في العام 1947 للميلاد.
وصل رحال إلى “بور ليوطي” هكذا كانت تسمى القنيطرة حينها،مرفأ تجاري يعج بالحركة،أوجدته سلطات الحماية كميناء حديث تصدر فيه خيرات المغرب نحو الميتروبول،بعدما صدرت منه آلاف المغاربة الذي زج بهم في جبهات القتال الوحشية ضد النازية،هناك في جبال الألب ومنخفضات الراين..كان ذاك قبل ست سنوات من وصول رحال للميناء لما كانت الحرب العاليمة الثانية تعصف بأبناء المستعمرات أكثر من الأوربيين أهل الحرب ومفجريها.
وحتى لما وجد الفتى المسكيني مستقرا له بالقنيطرة،جمعه القدر برفيق سلاح من نوع نادر،إنه الشهيد إبراهيم الروداني ،وقد أسس الرفيقان خلية للمقاومة أسموها”المنظمة السرية” التي سترعب الوجود الفرنسي منذ تأسيسها حتى خروج المعمر من أرض المغرب أواخر 1955 للميلاد..كما تزامن وجود رحال المسكيني مع حدث كبير سيربط حياته بالهدف الذي ربما هاجر بسببه قبيلته البعيدة،كان ذاك :
-“زيارة السلطان ابن يوسف لطنجة”.
إنها الرحلة التي أراد لها السلطان أن تكون برية وبالقطار،حتى يكسر ولو رمزيا تقسيم بلده إلى ثلاث مناطق استعمار،وفيها أيضا سيلقي خطابه الذي سيرمي به الإقامة العامة بوابل من النبال المسمومة أصابتها بالجنون،فعملت على تدبير مؤامرة دنيئة في حق الأبرياء من ساكنة البيضاء.. الحادثة التي صارت تعرف في الأدبيات الشعبية ب”ضربة ساليغان”.
في هذا الجو المشحون،تلقت مسامع الفتى المسكيني أحاديثا عن نشاط خلايا حزب الاستقلال فسارع غلى الانخراط في صفوف الحزب الذي طفقت شهرته الآفاق منذ تقديمه لعريضة المطالبة بلاستقلال في العام 1944م.وقد كانت لروحه الثائرة،وسجيته السليمة التي تتغنى بحب الوطن،وتدين بالطاعة للسلطان –كما هي عادة قبيلته من غابر الأزمان..كما أن حماس الشباب كانت تدلل له طرق الصعاب.فكلف رحال بالسهر على تنظيم العمل النقابي بين مدينتي القنيطرة والبيضاء،حيث ظل يتنقل بينهما،يوحد صفوف المناضلين وينظم وحدات الفداء.
بعد حادث اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد،ثارت شمال إفريقيا،ومعها خرجت جحاف العمال في عديد المدن،كانت أهمها المدينة العمالية”الدار البيضاء” تلك المدينة المقاومة والتي انتقل إليها بطلنا رحال المسكيني في نفس العام الذي شهد اغتيال الفرنسيين لفرحات،وهكذا وجد المسكيني نفسه في العام 1952 للميلاد مدعوا للجهاد.
إنها الفترة التي سيسطع فيها نجم فدائيين أبطال،سخروا حياتهم لركوب الأهوال،وسقط العديد منهم شهداء بعدما طالتهم يد الغزاة أو وشت بهم عين من أعين الخزنة الجبناء:
-فهذا علال يحاول في عملية بطولية اغتيال ابن عرفة صنيعة الاحتلال.
-وذاك حسن الصغير ينفذ عملياته الفدائية ثم يقضي شهيدا بعد أن حاصرته الأغلال.
-أما الزرقطوني فاختار ابتلاع السم كرفيقه حسن،حتى يقد للفرنسيين كنزا من” اعترافات وأقوال”.
حينها أدرك رحال المسكيني أن قيادات خلايا الفداء تتساقط تباعا في يد المستعمر،وأن سبب ذلك يعود بالأساس لتعامل الخونة المغاربة،فأعلنها عليهم حربا شعواء،وقرر نقل ساحة حربه معهم إلى المجال الذي يعرفه جيدا:”البادية”.
وهكذا عمل المسكيني بمعية رفاقه على نقل العمليات الفدائية نحو الشاوية موطن قبيلته،التي ظل من حين لآخر يختبئ في حضنها لما تشتد عليه مطاردة البوليس الفرنسي عقب كل عملية ناجحة يدبرها بالخصوص في “المذاكرة” التي اتخذا مقرا لهجماته البطولية حيث شن عشرات المداهمات لضيعات المعمرين والمغاربة الخونة،يضرم فيها النار حينا،ويطلق الرصاص على رؤوس الاستعمار وأذنابهم حينا آخر.
كان رحال المسكيني رجل سلاح بامتياز،لا يكاد يفارقه مسدسه،وحيثما سنحت الفرصة انقض على الأعداء كنسر كاسر في جو السماء،إنه أضحى كأحمد الحنصالي يقتنص المعمرين والمتهاونين على حد سواء،حتى زعزع أركان الاستعمار،وأضحى المطلوب الرئيسي في المذاكرة وأولاد حريز وعموم الشاوية،وسرعان ما ستجمع عنه سلطات الاحتلال ما يلزمها من أخبار،قصد القبض على هذا الثائر الجبار.
-قصة فرار تتكرر:
ذلك ما حدث بالفعل في ربيع 1954م لما ألقي القبض على الفتى رحال،بمجال المذاكرة رفقة أحد رفاقه،حيث اعتقل بدار الأمن مدة أرعين يوما،تخللتها جلسات تعذيب مطولة،غير أن رحال كان من طينة حمان،فلم يعترف للجلادين بأسماء رفاقه،ولم يطلعهم على أسراره،بل إن رحال “رجل الأقدار”سيكتب صفحات مشرقة مع الفرار:
-ففي الوقت الذي كان يموه البوليس الفرنسي بأنه يعترف لهم بمكان تنفيذ عملية من عملياته الفدائية،كان يرتب هروبه من سيارة الجيب التي كانت تقله بمعية قاضي التحقيق،فما هي إلا غافل رجال الأمن وأطلق ساقيه للريح،مختبئا في أكمات الضيعة التي يعرف مسالكها أكثر من غيره.
-معركة جاقمة:حكاية فارسين نبيلين.
إنها تلك المعركة التي لا تشبه كل المعارك،هي أشبه بعملية مطاردة رهيبة نفذها البوليس الفرنسي على رحال المسكيني ورفيق دربه العربي المزمزي،يوم الثامن من يناير 1955م،حيث انطلقت المطاردة من رأس العين إثر عملية فدائية استهدفت خلية المركز الأمني للقيادة،والتي على إثرها أصيب رحال،فعملت وحدات البوليس الفرنسي على قطع الطريق عن المجاهدين حتى لا يصلا للبيضاء،بعد أن عملت أن العربي ورحال حصلا على فرسين قد يفران بهما نحو وجهة مجهولة لا تعلمها عيون المخبرين ولا إدارة المحتلين.. ألم نقل إنها معركة لا كباقي المعارك؟؟
تخيل سيارة تجيب عصرية،يركبها رجال أمن مسلحون بعيارات نارية حديثة،تطارد رجلين على صهوتي جوادهما،كأنهما فارسين عادا لتوهما من زمن القرون الوسطى،بدا الفارسان وهما يسابقان الريح على جواديهما الأصيلين،كأن الزمن توقف بهما وهما يلمحان من بعيد سيارة المطاردة،بينما يحثان الفرسين على التقدم بأقصى سرعة ممكنة،حتى يفلتا من المطاردة..غير أن وحدات قياس الزمن وكذلك السرعة بدت مختلة تماما،بين مركبة عصرية وفرسين –قرووسطيين-إنها الملحمة التي شهدتها سهول الشاوية،وأضحت حكايات عجائب مروية.
تصل حكاية “الفارسيين العربي ورحال” نهايتها بمشهد بطولي سوريالي،حينما تاها البطلين عن وجهتما المقصودة”ضيعة الحاج العربي ولد الحكيم” وحينها حاصرهم درك ابن احمد والكارة وبرشيد.ترجل الفارسان وأخرج العربي مسدسه وطلب من رفيقه رحال أن يقوم كل واحد بإطلاق النار على صاحبه حتى ينجوا من التعذيب المميت،غير أن رحال لم يقبل بمقترح صديقه،وهان عليه إطلاق الرصاص على رأس من جمعته به أروع أيام البطولة،تلك هي حقا شيم الفارس النبيل.. لكن العربي أسر على موقفه،وفي غفلة من رحال أفرغ المزمزي رصاصته في رأسه،ليسقط حينها شهيد الواجب.
أسدل الستار على مشهد الفارسين النبيلين،العربي والذي بدا أنه اختار ميتة “فرسان الساموراي اليابانية الشهيرة” ،صريعا مدرجا في دماءه بجانبه حصانه الذي فضل الوقوف شامخا بجانبه،أما الفارس المسكيني فقد استوى واقفا ممسكا عنان فرسه،وهو ينظر بأسى على فقد رفيق عزيز،بينما سيارات التجيب المطاردة تطلق صفاراتها المرعبة وهي تستعد لتطوق مسرح المعركة غير المتكافئة الأطراف.
باغتت الصدمة رحال الذي ظل مشدوها لهول مارأى،وظل كذلك إلى أن ألقى عليه البوليس الفرنسي القبض،واقتيد مكبلا إلى السجن الرهيب ،بعدما ظل يمثل تهديدا حقيقيا لكل متعاون، تمكنت سلطات الحماية من اعتقاله ،حيث نقل على جناح السرعة إلى سجن القنيطرة تمهيدا لتنفيذ حكم سريع بالموت على هذا الفدائي الشجاع الذي روع الغزاة كما روع أذنابهم.بعدما أحصت الإقامة العامة أكثر من سبعة عشر عملية فدائية في حياة هذا البطل القصيرة..
-ومرة أخرى يدبر رحال المسكيني عملية فرار ناجحة من السجن الرهيب،في منتصف العام 1955م بعد قضائه مدة حبس قاسية،ولما فر من أسوار السجن العالية اختار الهجرة نحو الصحراء، بعدما أضحى رأسه مطلوبا ودمه مهدورا في منطقة الحماية الفرنسية،ثم إن القبضة الإسبانية في الجنوب البعيد كانت متراخية نسبيا،جعلت العديد من الفدائيين يختارونها وجهة للاختباء،كشأن سعيد بونعيلات وغيره كثير…
وقد كتب لرحال عمر جديد،سيهبه في سبيل غايته القصوى:”رؤية بلده وقد حقق حريته واستقلاله،وعودة السلطان الشرعي من منفاه بمجاهل إفريقيا”،لذا سرعان ما التقى برفاق الفداء وساهم في تأسيس جيش التحرير الوطني الذي سيكبد المعمرين الفرنسي والإسبان أشد الخسائر الفادحة ،وستعلن عملياته النوعية عن رضوخ الغزاة لمطالب الوطنيين وانتصار الفدائيين.
–يد الغدر تحيك في الظلام:
غير أن المقاوم المسكيني لم يكن ليشهد على رؤية مغرب الحرية التي وهب حياته وشبابه من أجلها،بعدما تقدمت له يد الغدر الممزوجة بروح الانتقام والثأر،لا لشيء إلا لكون رحال كان ذا نفس أبية،لا ترضى برؤية الخونة وأذناب الاستعمار وقد أضحت لهم حظوة في مغرب الاستقلال،كتلك التي كانت لهم عهد أسيادهم الفرنسيين.
أبت نفسية رحال السكوت عن تطاول هؤلاء الأذناب،وكان على رأسهم المدعو”أحمد الطويل” هذا الذي انتحل بطاقة تضمنت حصوله على صفة”مقاوم” وهو الخائن الذي قضى عللى عشرات الفدائيين في دائرة الأمن بالبيضاء.فترصد له رحال بشارع عبد المومن وما لبث أن أفرغ في رأسه ما تبقى من رصاصات مسدسه الذي يكاد لا يفارقه.
بعد أيام على هذا الحادث ترصدت فرقة من الهلال الأسود التي أرادت الانتقام للطويل الهالك
لتندلع عملية إطلاق النار على الفدائي رحال،هذا الذي لم يستسلم كعادته،بل دافع عن نفسه وقضى على المامون أخ الطويل،وجرح مسلحا آخر،غير أن رصاصة مصوبة من المعتدين لم تكن لتخطئه ها المرة ،فسقط شهيدا فوق تراب المدينة التي دافع عنها وهو بعد حي،ليقابله سكانها بالحزن والأسى وهو يشيعون بالآلاف جثمان هذا البطل في موكب جنازة مهيب،في يومه السادس عشر من فبراير من العام 1956م.
أخيرا آن لك أن تترجل عن صهوة الحياة يا رحال.
فدائي امتلك قلبا شجاعا شبيها بأسد الجبال.
ووطني مخلص،لم تضعف عزيمته قبضة الاحتلال.
غادر رحال المسكيني،شهيدا كما يغادر أروع الأبطال.
رحل الفدائي،لتروى حكايته سيرة عطرة للأجيال.
وإننا لنفخر بشرف الانتماء معك يا سيد الرجال.
(الحكاية مهداة لبني مسكين وفدائييها)
الحكاية بقلم إدريس النعيمي