النعيمي.. حمان الفوطواكي مسؤول خلايا الفداء بمراكش الحمراء (ج 1 )
على الطريق الوطنية رقم 8 وبينما تلك الطريق تحاذي الساحل رويدا رويدا مقتربة من مدينة الجديدة تتراءى أمامك على الجانب الأيسر بناية عالية مهيبة بمنظرها وشكل سورها العالي،أمامها شيد نصب تذكاري بالجبص الأبيض مكتوب عليه :
-“هنا يرقد شهداء المقاومة”.
لوحة تذكر كل المارين والمقيمين على سواء أن حمان الفوطواكي كان من هؤلاء الشهداء،الذين ضحوا بالغالي والنفيس استرخاصا لوطن، وتضحية في سبيل استرجاع الكرامة والتحرر من ربقة الاستعمار الغاشم.
ولا يجد الملاحظ لهذا النصب إلا الوقوف اجلالا واحتراما للشهداء الثلاثة عشر الذي نفذت فيهم الآلة الاستعمارية حكم الاعدام قبيل تحقيق المغرب لاستقلاله بأشهر قليلة.ومنهم الرفاق الثلاثة لحمان.حمان الذي أريد له أن ينقل على جناح السرعة من المحكمة العسكرية بمراكش إلى سجن العاذر بالجديدة وينفذ في حقه الحكم بأمر من طاغية المدينة الحمراء الباشا التهامي الكلاوي.
*الابن يتذكر الوالد الشهيد:
حمان الابن الثاني للفوطواكي والذي اختير له نفس اسم والده بعدما لم تجد عليه الأيام برؤية أبيه إذ كانت الأم حاملا به لما نفذ حكم الإعدام بالرصاص على الشهيد حمان صباح يوم سبت مشهود في 19 من نيسان/أبريل من العام 1955م.يخبرنا حمان الابن عن حمان الأب قائلا:
-“والدي من مواليد 1912(هذا الذي يصادف تاريخ توقيع الحماية الفرنسية على المغرب) واسمه الحقيقي بريك بن ابراهيم،يحكى أنه كان إنسانا متخلقا يخاف الله،وطنيا،غيورا على بلده ودينه وملكه.”
وهكذا قدر لحمان الفوطواكي وكان هذا اسمه الحركي الذي أطلقته عليه المقاومة،وهو مشتق من اسم قريته النائية “فوطواكة” التي تنتصب عند سفوح جبال الأطلس الكبير وسط أشجار الزيتون،بسان معظمهم فلاحين ومربي ماشية أمازيغ،في حين كانت تحتكر التجارة والحرف اليدوية من طرف جالية يهودية تتكلم العربية،هناك على مقربة من دمنات وغير بعيد عن “كلاوة” تلك القبيلة التي تنمرت على أهالي المنطقة حتلى سامتهم أنواع العذاب والسخرة بقبضة حديدية من الكلاوي التهامي.
ولعل “الكلفة” وهي تلك السخرة التي كان يتوجب على الأهالي أداءها للاستعمار وأتباعه من القواد والأعيان صارت أكثر ثقلا،بل وازدادت بحمل آخر أكثر شرا،حينما نودي ب:
-“التجنيد الإجباري علىأبناء القرويين بعدما نشبت الحرب العظمى في العام 1914م،وكان على المغاربة أن يضحوا بأبناءهم في سبيل حرب لا نافقة لهم فيها ولا جكل،اللهم تزامن اندلاعها مع حثوم الاستعمار على صدورهم،هذا الاستعمار الذي جيش المقدمين والشيوخ لفرض التجنيد ومصادرة ممتلكات من رفض أن يسلم ابنه للموت.”
*الهجرة إلى الشمال:
في هاته الظروف الحالكة اختار حمان الشاب الرافض للذل والمهانة أن يترك فوطواكة ويهاجر شمالا،لعل في الهجرة واقعا خيرا مما يعاينه ولا يستطيع تغييره،فاختار مجالا حيث تغيب فيه القبضة الفرنسية التي يمقتها ويحضر فيها الوجود الإسباني الأقل تشددا،وذلك على غرار العديد من الوطنيين الذين اتخذوا من “الهجرة للشمال طريق الألف ميل الذي يبدأ بخطوة هناك وينتهي بالاستقلال والتخلص من الاستعمارين معا.
وقد شاءت الظروف أن يتوقف مسار حمان في تطوان،وهو يعلم أن الإسبان لن يجبروه على المشاركة في الحرب بعدما فضل قادتهم أن يتخذوا الحياد سبيلا،فاستقر الشاب الفوطواكي بالمدينة وصار يعمل في معمل يمتلكه أحد المعمرين الإصبنيول.
في تطوان استقر المقام إلى حين،وما لبث أن التحق به أربعة شبان من فوطواكة،فاتفقوا جميعا على أن ينخرطوا في صفوف الجيش الإسباني،حيث أثبت الجندي حمان عن شجاعته ورباطة جأشه وأنه مقدام لا يهاب الموت،كان ذلك حينما حوصرت الفرقة العسكرية التي يعمل فيها،وقد استتب بهم العطش وكادوا يهلكون لولى أن حمان تسلل ليلا بقوارير للماء من أجل ملئها من نقطة الماء الوحيدة التي كانت فرقته قد فقدت السيطرة عليها،فانتظر حتى هدأت الحركة واستغل الليل الحالك وصار يملأ القوارير غير أن إحداها اصطدمت مع الأخرى لكونها كانت مصنوعة من الألمينيوم،فأحدثتا صوتا سمعه الحراس فسارعوا إلى إطلاق النار في اتجاه الصوت.
حينها التجأ حمان إلى ربوة قريبة واحتمى فيها،وانتظر حتى هدأ أزيز الرصاص وملأ المكان نقيق الضفادع،فخرج من المكان وهو يزحف على بطنه مصحوبا بقوارير الماء،هذا الذي جعل رفاقه يثنون عليه بعد أن أنقذهم من موت محتم بكوب من الماء روى ظمأهم،وبتلكم التضحية رقي حمان البطل الشجاع إلى مرتبة”قائد مائة”.
غير أن أوضاع الريف تغيرت لما أعلن سيدي عبد الكريم ثورته الكبرى على الإسبان،وبدأت ضربات أمير الريف تقض مضجع الاستعمار الإسباني،وتناهت الأخبار إلى حمان الذي سارع إلى استغلال رتبته كملازم ليضع خدماته بين يدي ثوار سيدي عبد الكريم،مقدما لهم كل ما يستطيعه من أخبار وخطط للعدو،مضحيا بذلك بعمله ورتبته في سبيل نصرة إخوانه من المقاومين.
وما لبثت المخابرات الإسبانية أن كشفت تورطه مع ثوار الريف،فاستغل اندحار جيش الإسبان في أنوال الخالدة التي دمر فيها الأمير المجاهد جيش الإسبان بكامله مرغما قائدا دون سيلفيستري على إفراغ مسدسه في رأسه تجنبا لعار الهزيمة الماحقة التي تكبدتها قواته يوم 21 من يوليوز من العام 1921م.أما حمان فسارع متسللا إلى مدينة طنجة التي كانت تحت حكم القناصل الدوليين بمساعدة امرأة اسمها”ارحيمو” شرط أن يتزوجها.
وفي طنجة الدولية نجى حمان من عيون الإسبان،ونفذ الشرط وتزوج بالمرأة الطنجاوية حيث مكث بضع شهور قبل أن يقرر العودة إلى فوطواكة برفقة ارحيمو التي كانت تخفي له مسدسه عند كل نقطة تفتيش.
*موعد مع المقاومة:
في بلدته قضى حمان ثلاثين سنة من حياته فلاحا ومزارعا كأهل قريته،كان يشعر بالتعسف والجور الذي يطأ الأهالي من طرف أعوان وأذناب الاستعمار،ويصله عن قرب صدى وجبروت باشا مراكش التهامي الكلاوي،ومن حين لآخر كان يزور مراكش فيقف عن قرب على مجريات الأحداث التي خلقتها ظروف الحرب العالمية الثانية،وتأثيرها الكارثي على الأوضاع الاقتصادية للمغاربة بعدما مسهم الجوع وهددهم الجفاف من كل حدب وصوب.
ثم أطلت الخمسينيات على وضع ساخن بمراكش الحمراء،بعدما تزعم الباشا الكلاوي جبهة الصراع مع السلطان محمد بن يوسف والتي انتهت فصولها بمؤامرة 20 غشت 1953م،حينما عزل السلطان الشرعي ثم نفي من طرف الإقامة العامة نحو مجاهل إفريقيا،بل وتزعم الكلاوي مراسيم تنصيب ابن عرفة سلطانا جديدا.
حينها تحرك حمان نحو مراكش وجدد اللقاء مع رفاق له سبق وأن راودتهم معا فكرة المقاومة،وكان على رأسهم الفقيه البصري،وما لبث محمد الزرقطوني أن التحق هو كذلك بمراكش ومعه حسن الصغير وعبد العزيز الماسي وذلك بهدف عرقلة مخطط تنصيب ابن عرفة بمراكش الذي كان مقررا في مسجد الكتبية.وحينها أطلق الزرقطوني صفارة وسط الحشود نتج عنها ذعر كبير وفرار للمصلين وحالة هلع أربكت الإقامة العامة وأتباع الباشا الكلاوي.
*خلية حمان الفوطواكي.
يشار إلى ها الخلية تأسست بعد تأسيس خلية الدار البيضاء وأعضاءها ممن نجوا من بطش الكلاوي على طلبة كلية بن يوسف ومنهم الحسين البزيوي ومحمد السوسي ومولاي مبارك وبوجمعة الفرملي وعمر السفاج …تلك الخلية التي باشرت إلى حمل السلاح في وجه الاستعمار وأعوانه بتنسيق مع خلية البيضاء،وكان مسدس حمان الذي استقدمه من تطوان أولى الأسلحة التي حصلت عليها خلية مراكش.
وقد تطلب الأمر من حمان السفر نحو البيضاء لاستقدام الذخيرة وتجريب السلاح بعدما اتصل بالمقاوم أيت القايد النشاشبي والذي بواسطته تعرف الفوطواكي على الزرقطوني واختارا معا درب الفداء بكل من مراكش والبيضاء.حيث كان اللقاء بحضور مولاي عبدالسلام الجبلي بالمدينة القديمة ونال حمان ما كان يرجوه من الإخوان.
بقلم إدريس نعيمي