مواطن مغربي يوجه رسالة عاجلة إلى رئيس الحكومة
بقلم الدكتور رضوان رشدي
إنه يسعدني حقيقة أن أتوجه إليكم برسالتي هاته، راجيا أن تحظى من سيادتكم باهتمام بالغ وتركيز قوي، لاسيما وإنها صادرة من أستاذ باحث على دراية تامة بخبايا القطاع المدرسي، وممارس لمهنة التدريس عقدين من الزمن، فضلا على أن الدافع من وراء هذه الرسالة إنما هو إيضاح حقائق وجلب مصالح وضبط فهوم، مع الابتعاد التام عن إصدار أحكامٍ، أو انتقاصٍ لهيأة، أو الوصولِ إلى أغراض سياسية.
ولكي يكون كلامي على بساط العلمية والتدقيق، فإنني سأقسم رؤيتي هاته إلى محورين رئيسين :
المحور الأول: المعالجة التجزيئية .
غالبا ما تكون تلك المعالجة مبنية على على ما رشح من علل ظاهرية سطحية، ثم الاسراع بمعالجتها دون الإحاطة بشوارد المشكل وحيثياته ومسبباته، وقد كان الأولى عند العقلاء التوجه رأسا إلى مكمن الداء الحقيقي الناخر، ذلك أنه من بين الظواهر المتفشية التي كشفت عنها حصيلة لقاءات الحوار الجهوي لتأهيل منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي أكتوبر 2014، ذاك الخفوت الحقيقي للإرادة الصادقة للتدريس، أو رجحان النزعة المصلحية على الصدق الرسالي فيها من قبل من سطوا عليها دون تشرب للقيم والمبادئ الصادقة التي تكتنفها مهمة التربية والتعليم، أو كما قالوا:" التراجع الذي مس الرسالة التربوية، والحس الوطني للفاعلين التربويين تجاه المدرسة العمومية التي يعملون فيها، بموازاة عدم وجود ميثاق متقاسم لأخلاقيات مهن التربية والتكوين….فضلا عن استفحال تعاطي المدرسين للساعات الإضافية المؤدى عنها على حساب المردودية والجودة في العمل بالمؤسسات العمومية مما يخلق تفاوتا بين التلاميذ ويخل بمبدأ تكافؤ الفرص ويشكل انتهاكا لأخلاقيات المهنة، ثم تمدد ظاهرة التغيبات وما تحدثه من خلل على مستوى إنجاز البرامج والوفاء بالواجبات المهنية."
كل تلك العلل قد تبدو ظاهريا قواصم للمنظومة، لأن الأستاذ المنوط به تنزيل المنهاج واقعا هو منخرم من حيث الكفاءة العلمية والحس الرسالي، ومن ثم فمنهج سد الذرائع يبدو هاهنا راجحا، وذلك بافتحاص القادم لمهنة التربية والتعليم علما وأخلاقا، ثم التعاقد معه لئلا يتمدد في كرسي الترسيم ويأمن التهديد ويعسر اقتلاعه…
إن هذه الرؤية الإصلاحية أيها السيد، هي قاصرة شكلا، لأنها صادرة من سلطة مركزية، وكان الأولى أن تصدر من قبل السلطات التربوية المختصة التي تعالج الموضوع عن كثب، وهي مقاربة تجزيئية معنى، حيث إنها افتقدت المنظور الشمولي والتتبع الكلي للنسق، ومن ثم فالاصلاح الكمي هو من أيسر الإصلاحات، لأنه لم يغص إلى دخائل القطاع ولم يعرف كنهه، ولم يُحكم دعائمه الكبرى وأساساته التي إن انهارت تقوض البناء وانهدم حتما.
ثم إن التعاقد لن يفضي إلى حكامة القطاع وتمهيره، دون التوجه إلى آلية " التوازن بين التمتع بالحقوق والالتزام بواجبات وأخلاقيات الممارسة المهنية، وربط المسؤولية بالمحاسبة. "
وهذه الآلية إن اعتمدت كانت زاجرة للاهثين وراء الانبساط المادي والفرح بأموال لم يبذلوا لجنيها جهدا أو كللا، وإن كنتُ حقيقة معولا على تربية الإنسان على القيم والمبادئ دون المرور إلى ضبط سلوكياته عبر قوانين رادعة.
لقد كان من المأمول فيكم أن تهتموا بكفايات المهنة طيلة المسار الوظيفي للأستاذ ولا تقبعوا عند إصلاح مدخل الولوج، وذلك "بإرساء الأطر المرجعية للكفايات التي يتطلبها إنجاز مختلف المهام من طرف الهيئات العاملة في القطاع مع انسجام تام مع المعايير الدولية من حيث الضبط والحكامة، ويكون الإنجاز مفتوحا دوما على الإغناء والتحيين باستمرار." … ثم تتوجهوا إلى إلزامية التكوين الأساس الدائم لكل من أراد ولوج مهنة التدريس، أو قضى فيها زمنا، بحيث إن كل من استنكف عن التكوين المستمر الذي يزاوج بين تحصيل معرفي متين واكتساب لمعارف بيداغوجية لازمة يعد مخلا بمسؤوليته الوظيفية، وقد يعرضه للمساءلة.
ولا إشكال آنذاك أن تحدد معايير مضبوطة لولوج المهنة، "كالجاذبية، والاستعدادات النفسية والمعرفية والقيمية، فضلا عن التوافر على المعارف والمؤهلات والكفايات الضرورية وفق ما يستلزمه الإطار المرجعي لكفايات المهنة."
المحور الثاني: محاربة الفساد، عمل دؤوب برؤية ثاقبة.
لا يشك عاقل أن التنزيل الحقيقي لأي برنامج خاص على المستوى الواقعي لا يكون ناجعا إلا حينما يكون منبثقا من تصور معين لتسييره، وحضور مقاصد غائية يرنو إليها من بيده السلطة تحقيقها. وحين يُترك القطاع لتصورات متناقضة وتجاذبات متنافرة فإن إدخال اليد لإصلاحه من زاوية جزئية إنما هو إمعان في تركه سائرا إلى سقوطه وتهاويه.
ذلك أن ما كنت أنتظره من نباهتكم، إنما هو تحريك مؤسسات البحث العلمي لإحداث إقلاع اقتصادي من جهة من خلال التحكم في مسارات العطاء المستديم لمنظومة الشغل وتطوير المقاولات، فضلا عن إنضاج رؤية هادفة لانتشال القطاع المدرسي من أزمته التصورية، ومن ثم فالاستثمار في الإنسان الباحث هو خير سبيل لمحاربة الفساد الجاثم، وقد نص الميثاق 128 سنوات:" على تقوية الصندوق الوطني لدعم البحث العلمي والابتكار"، فضلا عن توصيات المجلس الأعلى "بالرفع التدريجي من نسبة الناتج الداخلي الخام المخصصة لتمويل البحث العلمي لكي ترقى إلى نسبة 1 في المائة على المدى القريب و 1,5 بالمائة في 2025.
لكن ذلك لم يحدث، وكان المفترض حقيقة أن تقوموا " بالعمل في الأمد القصير على وضع برنامج عمل لتوظيف وتكوين 15000 أستاذا باحثا في أفق 2030 من أجل الاستجابة لحاجيات بنيات البحث من الأطر سواء لتعويض تلك التي ستغادر المنظومة، أو لتوفير الأطر للشعب ذات الأولوية."
ولو وضعتم تصورا واضحا للتعليم لانسلك مناهجا وبرامجا وكتبا ومقررات لتغيير الواقع التعليمي، لكن ذلك لم يحدث بفعل الانشغال بالآني ومعالجة الوضعيات الطارئة المندمجة مع صرح متهالك.
ثم إنه على الأقل وفي إطار جهد المقل، كان من المفروض فيكم باعتباركم سلطة تنفيذية أن تترك بصمتها في الملموس المادي المتعلق بالقطاع، كطرح برنامج وطني بآجال محددة تنجمع فيه أيادي التطوع والإحسان لبناء المؤسسات التعليمية الراقية التي تحترم كرامة الشعب المغربي وتناضل على تثبيت هويته وأصالته واستشرافه الحضاري، فضلا عما نص عليه المجلس الأعلى 105 من "تمكين مؤسسات التربية والتكوين من البنيات التحتية والتجهيزات والأدوات الديداكتيكية اللازمة، وفضاءات التعلم والتثقيف والتنشيط والدعم والتربية الفنية بكل أنواعها، ولاسيما الموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما: فصول دراسية ملائمة، مرافق تربوية وثقافية ورياضية وصحية، مختبرات علمية، ورشات فنية، مكتبات رقمية.
فضلا عن تمكين كل فصول المؤسسات التعليمية من استعمال الوسائل السمعية البصرية، وتقنيات الإعلام والتواصل، وتخصيص الولوجيات والشروط الملائمة للتمدرس لفائدة الأشخاص في وضعية إعاقة، و دعم برامج السكن اللائق للفاعلين التربويين، ولاسيما بالوسط القروي، لتيسير أدائهم المهني وضمان استقرارهم وأمنهم في إطار تعاون مستمر بين القطاعات الحكومية المكلفة بالتربية والتكوين والمؤسسات والجهات المعنية."
وحيث إن المقاربة المعتمدة عندنا إنما هي السوسيو بنائية التي تقتضي البحث المعرفي العميق المنهجي لحل المشكلات، وصولا لاكتساب معارف ومهارات وكفايات، فإن ذلك قد اقتضى منكم زمنا التحرك الفوري لاقتناص المعارف العلمية الوازنة التي ستقدم للتلاميذ، وما يفرضه ذلك من توسيع للمكتبات وتيسير الوصول إلى المصادر المعتمدة، لاسيما وإن الكتاب المدرسي هو قاصر عن الإحاطة الشاملة بالمشكلات المعرفية المواكبة للتطور العلمي المستحدث، فلا مناص إذن من حضور للموارد الرقمية وتوفير فضاءات متعددة الوسائط، وما تقتضيه من استجلاب لأناس متخصصين لغربلتها وإحداث ابتكار فيها لتغدو موارد معرفية علمية متساوقة مع المعرفة العالمية.
وكان الأولى من قبلكم أن تسرعوا ب"استكمال تجهيز المؤسسات التعليمية والتكوينية والجامعية بتكنولوجيا الإعلام والاتصال وبالقاعات متعددة الوسائط والوسائل السمعية البصرية مع ربطها بشبكة الإنترنت وتزويد المكتبات المدرسية والبنيات الجامعية للتأطير والبحث بكل الموارد الرقمية المفيدة في تعزيز التعلم الذاتي والبحث الشخصي لدى المتعلمين والفاعلين التربويين والباحثين على حد سواء."
لكن ذلك لم يحدث… وإن ما يحز في النفس أيها الرئيس لحكومة تنفيذية أنكم لم تدخلوا إلى عمق النسق ولم تستشرفوا مخرجاته، ولم تعرفوا معاناة الصادقين فيه، إنما مررتم لماما على جزئية ولوجه، وضخمتموها على حساب التصور الاستراتيجي ونقد المناهج وضبط البرامج ومعرفة كيفية تنزيلها من قبل المراقبين التربويين الذين يعرفون منابع المنهاج وسريانه برامج في شرايين المنظومة…
ومما يشي بضبابية التصور، ذاك الاهتزاز الذي حدث من قبلكم حينما شرعت الوزارة ب(فرنسة) المواد العلمية، مع العلم أن اطلاعا يسيرا للميثاق، والرؤية الاستراتيجية، فضلا عن كتابات الباحثين في المجال اللغوي لا يجدون أي غضاضة في أن يعلنوا أن مقام اللغة العربية وكذا الأمازيغية لا يمس أبدا على مستوى التسطير التجريدي لهما دستورا ورؤية رسمية، وكان المفروض منكم أن تقوموا بتفعيل أكاديمية محمد السادس للغة العربية، وإخراجها إلى الوجود، فضلا عن الإسراع بتفعيل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية المنصوص عليه في الفصل الخامس من الدستور.
وحيث إنهم قد اتفقوا على اختيار اللغات الأجنبية استئناسا واعتضادا، وأن يكون المعتمد منها إنما هو إتقان اللغة الأكثر استعمالا في العالم وتمكين بلادنا من توطيد انخراطها الفاعل في اقتصاد ومجتمع المعرفة."
وحين كانت اللغة الأكثر استعمالا إنما هي اللغة الإنجليزية، فإن المجال كان منفسحا رحبا أمامكم لتنزيل رؤيتكم المتناغمة مع الطرح الرسمي…
لكن ذلك لم يحدث … ولم يحدث ما هو أقل منه وهو "مراقبة سوء تدبير الموارد المالية وتعقد المساطر المالية المتعلقة بالتمويل وغياب أية مساءلة وتحديد المسؤوليات استنادا إلى النتائج."
فالأليق بمن يحوم حول القطاع ومن يرتكز على طرحه التغييري على الآني والظرفي … أن يبتعد عنه، لأن التغيير حركية علمية قوية مرتهنة بتصور تجريدي وفعل تجسيدي ونية صادقة لإنهاض القطاع قيميا، ودرء كل مهدد له لاسيما ذوي النزعة التبضيعية الاسترزاقية الربحية الذين ينظرون إليه نظرة المستنزف للموراد المالية والمهدر لها، ولم يدركوا حقيقة أن سر رقي المجتمعات ونهوضها من التخلف وإحداث التنمية فيها وإقلاعها عالميا إنما يكون بالاستثمار في الانسان تعليما وتربية وتنشئة لتكون الأجيال المستتبعة حاملة لأمانة الإنهاض والرقي الحضاري.