لم يكن قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في 25 يوليو/ تموز الحالي، وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الكيان الصهيوني، الأول من نوعه، وربما لن يكون الأخير، إذ سبقته عدة قرارات، بعضها كان أقوى وأوضح وأشد لهجة، مثل الأول الذي اتخذه المجلس المركزي في مارس/ آذار 2015، وقرّر فيه سحب الاعتراف بـ”دولة إسرائيل”، ووقف التنسيق الأمني معها، وإلغاء وليس “وقف العمل” أو “تجميد” الاتفاقات الموقعة معها. منذ ذلك التاريخ، أي منذ أكثر من أربعة أعوام، توالت القرارات والبيانات بعد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، أو اجتماعات ما يعرف بالقيادة الفلسطينية، وبالمجلس المركزي الفلسطيني، والمجلس الثوري لحركة فتح، وشكلت اللجان لبحث آليات تنفيذ ذلك. وبحسب زملاء باحثين، بلغت تلك القرارات والتصريحات الرسمية، في أعقاب هذه الاجتماعات، أكثر من 58 قرارا تصب كلها في الاتجاه نفسه، ولسان حالها يقول: نسمع جعجعةً ولا نرى طحينا.
ما تم في الأعوام الماضية يجب أن لا يمنعنا من النظر بجدية كاملة للقرار الأخير للرئيس عباس، ومعرفة دوافعه وأسبابه، ونقاط قوته أو ضعفة، والتعامل معه بإيجابية، بالنظر إلى ما يمكن أن تنتج عنه من تفاعلات وردود فعل ونتائج على المديين، القصير والمتوسط، ستضع الوضع الفلسطيني على أبواب مرحلة جديدة ومختلفة.
بدايةً، افتقر قرار الرئيس إلى آليات لتنفيذه، مكتفياً بنيته تشكيل لجنة لوضعها، من دون أن يصدر قرار بها، أو تسمية أعضائها، وتوضيح مهامها، وتحديد فترة زمنية لإنهاء أعمالها، حتى لا يصبح حالها حال اللجان الأخرى التي شكلت للغاية نفسها، ولم يعلم أحد ماذا فعلت، وإلى ماذا توصلت. إن قرارا بهذه الأهمية كان ينبغي له أن يقترن بإجراءات تنفيذية مباشرة، كاملةً كانت أو متدرجة، حتى يكتسب مصداقية كاملة، خصوصا أنه يتميز بأنه صادر عن الرئيس نفسه، وليس عن هيئاتٍ قيادية، مع أن المفترض في النظام السياسي الفلسطيني أن قرارات
الهيئات القيادة أقوى وأكثر إلزاما، ولكن هذا ليس حالنا.
تميز الخطاب بلهجه جديدة، مختلفة عما عهدناه من الرئيس عباس، فهو وإن كان قد أبقي الباب مواربا للعودة عن القرار، والرجوع إلى مفاوضات السلام، إلا أن الصيغ القوية التي استخدمها للحديث عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعن ممارسات الاحتلال، وعن حق الشعب الفلسطيني في التصدّي لها، وعن نظام الأبارتايد والتمييز العنصري الصهيوني، كانت غائبة عن تصريحاته السابقة.
وفي ما يتعلق بالمصالحة الفلسطينية، فقد جدد الرئيس عباس الدعوة إليها على قاعدة اتفاق عام 2017، إلا أنه غمز من قناة حركة حماس، حين اتهمها بالتساوق مع إسرائيل والولايات المتحدة نتيجة موقفها (وحركة الجهاد الإسلامي) في لقاءات موسكو بخصوص منظمة التحرير الفلسطينية، مشترطا قبولها ببرنامج المنظمة لتحقيق المصالحة. وإذا كانت “حماس” قد تجاوزت هذا الاتهام، ولم تعلق عليه، وأبدت موقفا إيجابيا من قرار الرئيس، إلا أن هذا يطرح شكوكا بشأن وجود إمكانية لتحقيق المصالحة، كما يلقي ظلالا من الشك حول علاقة قرار وقف العمل بالاتفاقات بمراجعة حقيقية للسياسة الفلسطينية السائدة، أو بوجود نية لتغييرها.
ما تطلبه الإدارة الأميركية من الرئيس محمود عباس يفوق استطاعته، بل ويدمر مشروع حل الدولتين الذي يسعى إليه، ويتجاوز أي تنازلاتٍ قد يكون في وسعه تقديمها. مطلوب منه أن يوافق على مشروعٍ لم يقدم له، وعلى صفقة هو ليس طرفا فيها، لكنه يرى تطبيقها على الأرض في كل يوم، بالاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وتجفيف موارد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ووضع تعريفات جديدة للاجئ، والاعتراف بشرعية المستوطنات تمهيدا لضمها، ووقف أموال المقاصة الضريبية، والسعي إلى تطبيع علاقات بعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني واستخدامها لتغطية فرض كانتون فلسطيني هزيل ضمن نظام الأبارتايد والتمييز العنصري الصهيوني، وجديدها ورشة البحرين التي عقدت بدون مشاركة السلطة الفلسطينية، وفشل غطاء الأمان المالي العربي الذي راهن عليه في ظل وقف عائدات المقاصة الضريبية. وترافق ذلك كله مع تصاعد الإجراءات الصهيونية في قضم الأراضي ونسف المنازل وتوسيع الإدارة المدنية (الحكم العسكري) للضفة الغربية، والإعلان عن قرب ضم مناطق ج البالغة 62% من مساحة الضفة، وإذا أضيفت إليها مساحة القدس الخاضعة للسيادة الصهيونية، فلن يتبقى لكانتونات السلطة المزمع تأسيسها سوى أقل من 16%.
من هنا، وبعد تجاهل الرئيس عباس قرارات المؤسسات الفلسطينية المختلفة أكثر من أربعة أعوام، أعلن قراره، أخيرا، بعدما استنزف كل الفرص والمحاولات والوعود، ولم يعد أمامه سوى أن يفرغ ما في جعبته، في محاولةِ أخيرة منه لوضع الأطراف المختلفة فلسطينيا وعربيا ودوليا أمام الاعتراف بواقع عدم وجود أي طرف فلسطيني على استعداد للمشاركة بما يحاك لفلسطين وشعبها. وهي محاولةٌ قد لا يتعدى سقفها الحالي السعي إلى إعادة قواعد اللعبة إلى ما كانت عليه منذ اتفاق أوسلو، من دون قلب هذه القواعد، أو العمل على تغييرها. ولذا تم إبقاء الباب مفتوحا لعودة حليمة إلى عاداتها القديمة.
ما زال الوقت مبكرا لتقدير ما إذا كنا سنشهد تطبيقا عمليا للقرار، فنحن الآن أمام دق لأجراس الإنذار بصوت أعلى من السابق، ولكن هذه الأجراس تكشف بجلاء عن عمق المأزق الذي تواجهه سياسات السلطة الفلسطينية منذ “أوسلو”، كما يفتح الأبواب على مصراعيها أمام مرحلة جديدة للنضال الفلسطيني والعربي في مواجهة الاحتلال ونظام الأبارتايد الصهيوني. ويفسح المجال أمام نضالات ومواجهات ومقاومة على كل الصعد، حتى لو حاولت قوى الشد العكسي في السلطة الفلسطينية، والتي ارتبطت مصالحها عضويا مع الاحتلال وبقاء سيطرته، أن تعرقل هذا التحول.
لماذا نقول ذلك؟ لأن المشروع الصهيوني في فلسطين والعالم العربي دخل في مرحلة جديدة، مرحلة ضم المناطق المحتلة، وفرض نظام الأبارتايد والتمييز العنصري، وعزل الفلسطينيين في معازل تمهيدا لطردهم وتهجيرهم، وسط محاولاته أن يصبح طرفا في معادلات المنطقة، بعد إيجاد تناقضات جديدة فيها. وهنا تصبح الخيارات واضحةً، ولا مجال للخلط فيها، أن نكون، فلسطينيين وعربا، مع أنفسنا، أم مطية في يد أعدائنا.