بعد عطش وأحزان حمان.. الدحمني يحلل معزوفة لرقصة حمراء
عبد القادر الدحمني، روائي مغربي، وباحث في السرديات. له عدة إصدارات منها: “عطش الليل” 2009، “أحزان حمان” 2012، و”معزوفة لرقصة حمراء” 2016، وحول هذا الإصدار الأخير، وبعض القضايا الأدبية الأخرى، حاوره الدكتور عبد الله شكربة.
- بعد “عطش الليل”، و”أحزان حمان”، أصدرت سنة 2016 روايتك الثالثة الموسومة ب”معزوفة لرقصة حمراء”، هل تقصّدتَ أن تجبر القارئ على السباحة في بحر التأويل لاستكناه دلالة العنوان، ولماذا هذا الاختيار؟
أود بداية أن أشير إلى أن أصعب ما يواجهني في العملية الإبداعية هي مسألة اختيار العنوان، فلست ممن يختارون العنوان قبل البداية، أو يسهل عليّ إطلاق العناوين، ذلك أنني أكتب انطلاقا من أطروحة إبداعية، وحزمة إشكالات، تسندها لوعة ما في التخلّص من شحنات وأفكار وهواجس وأطياف، دون أن أسعى إلى تقييدها بعنوانٍ إحالي مباشر، كي أترك لها الحرية في الانكتاب من جهة، ومن جهة ثانية، كي تبقى لي حرية الارتداد والنقض والانحراف عن المسارات المرسومة مسبقا، بمعنى أن الكتابة وهي قيد الإنجاز ليست مجرد عملية بناء، بل تشمل هدما لا يتوقّف، وخرقا متواصلا لما قد سبق كتابته في نفس النص، ولذلك لا يمكنني أن أبدأ عملية التسمية إلا بعد أن أحس بأنني أنهيت النص أو انتهى مني، وبالتالي، لست أسعى إلى تعقيد الإشارة إلى أطروحة الرواية من خلال العنونة الموارية، بل أعتبر جمالية العنوان من جمالية النص، ففي الاستعارة شحنة مضافة للمعنى المباشر لما نودّ أن نصفه عبر العنوان، سواء كان عنوانا مباشرا، أو متلاعِبًا بأفق الانتظار، ومرايا التأويل.
- تنبني “المعزوفة” سرديا على أحداث رواية “أحزان حمان”، هل هي الجزء الثاني لها؟ وإذا كانت كذلك، هل يمكن أن نتحدث عن جزء ثالث منتَظَر؟
تجب الإشارة إلى أنه يمكن قراءة رواية “معزوفة لرقصة حمراء” باستقلالية تامّة عما سبقها، وإن كانت تنبني في جزء كبير منها على أحداث وقعت في رواية “أحزان حمان”، هذا التعالق، لم أشأ تسميته بنظام الأجزاء المتعاقبة، فذلك احتمال واحد فقط من احتمالات الكتابة المتعالقة مع نصوص سابقة، فيمكنني أن أعيّن شخصية واحدة من شخوص رواية سابقة، وأتتبّع مسار تطوراتها، باستقلال عن كل الشخوص الماضية، وهذا يمكن فعله مع مجمل الشخصيات، وبالتالي يمكننا الحديث عن صيغة نظام الشجرة، أي أنني يمكنني أن أكتب رواية فيها أربع شخصيات مثلا، وأخصص بعدها لكل شخصية رواية مستقلة، تتعالق جزئيا مع الرواية الأم، وتنفصل كليا من حيث تيماتها وأطاريحها عنها، ولك أن تتخيل باقي الاحتمالات الممكنة في أشكال الارتباط، فهناك روائي مغربي، يكرر إحدى شخصياته في كل رواياته عن قصد، كأنه يريدها عنصر استمرار وشهادة، ونقطة ثبات في ظل التحولات المختلفة، ولكل خيار مبرراته في رأي الكاتب. وبالنسبة إلي، كانت شخوص “أحزان حمان”، بحاجة إلى تطورات جديدة، وكانت أطروحة الرواية بحاجة أيضا إلى تطوير وتعميق، وإن كانت المعزوفة، تحاول أن تنفصل رؤيويا ولغويا عن أحزان حمان، فإنها لم تستطع الانفكاك عن ظلالها، بل تقصّدت ذلك، لغاية في نفس السارد. أما بخصوص الجزء الثالث، فلا علم لي بمآلات التحولات الممكنة، فمن يدري؟ ربما أستفيق ذات يوم، وبي شغف ما لتتبع تغريبة “حُمّان” (البطل الرئيسي في روايتَيَّ “أحزان حمان” و”معزوفة لرقصة حمراء”).
- من الناحية الموضوعية، قاربت الرواية مواضيع كثيرة سنتطرق لبعضها في حوارنا هذا، لكن أود أن أشير إلى فضاء السجن باعتباره عاملا مهما في تنامي أحداث الرواية. ما الأبعاد الدلالية وراء التركيز على هذا الفضاء؟ ولماذا اخترت البداية والنهاية بهذا الفضاء؟
لم أقصد أبدا أن أركّز على السجن بالمعنى التسجيلي الذي ركّزت عليه رواية “الشهادة” التي مثّلتها روايات الاعتراف، وأدب السجون المغربي المرتبط بالشهادة على تاريخ سنوات الرصاص، لكن حديثي عن السجن في المعزوفة، وقبلها في أحزان حمان كان من ورائه، الإشارة الدلالية لمعنى السجن، باعتباره حَصْرًا وتكبيلا للحركة، وحدّا من الحرية، وباعتباره تحجيرا وضيقا وخنقا وإمعانا في الإذلال، لقد كنت أحاول أن أرسم – فيما أزعم- تعثر مسارات التغيير في البلد، ودخول إرادة التغيير سجن العجز والانكفاء والفشل، ولذلك، تنتهي المعزوفة بالسجن، لأننا لم نخرج بعد منه، باعتباره انطلاقا حقيقيا نحو الحرية والعدالة والديمقراطية، وتحررا من صناديق التفكير المغلق، وسلطة الأعراف والتمثّلات المقيّدة لحرية الفكر والحركة والإبداع.
- عرفت الرواية توظيفا للتراث الشعبي المحلي، ك”موليكة” و”ولد البولانجي” وغيره. ما الأبعاد التعبيرية والدلالية التي عبر عنها التراث الشعبي؟ هل كانت الرغبة في الدعاية ورد الاعتبار لفن شعبي محلي وراء هذا التوظيف؟
لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية التراث الشعبي في صوغ الرؤى الفنية لمختلف السرود، وخاصة في الرواية باعتبارها جنسا حواريا هجينا، فإيراد مقتطفات غنائية أو أمثال وأهازيج شعبية، ليس مسألة تأثيثية فقط للفضاء الروائي وعوالمه، بل هو بناء للدلالة، وتعميق لها، وتجذير لمرتكزاتها، وتحميلها روائح ونكهات وشحنات وجدانية تستنطق الرموز وتنقّب في خرائط الذاكرة، لتقدّم إمتاعا ومعرفة وتجربة ومادة سردية متبّلة، مسنودة طبعا بالأفكار والرؤى.
إن توظيف الثقافة الشعبية ليس ترفا ولا استعراضا ذا طابع فلكلوري استهوائي لعوالم “الشرق” الساحرة كما في السرود الغربية التي تُكتب عن العرب متأثرة بأجواء الفنتازيا الشعبية و”صدى” ألف ليلة وليلة، بل أعتبره اشتغالا هادفا من أجل اكتشاف النسغ المحلي، والإفادة منه في بناء المتخيّل، ولعلّ هذا هو المطلوب، في عمل يريد أن ينتمي حقا لثقافته وسياقه، وينطلق مرتكِزا على ثرائها للإسهام في المنجز التخييلي الكوني.
- روايتك تحتفي بالمرأة كثيرا وتقدم صورا مختلفة فكريا وثقافيا واجتماعيا، حيث يمكن أن نتحدث عن المرأة المحافظة، والمرأة الثورية، والمرأة الحداثية، والمرأة الشعبية، المرأة الوطنية، والمرأة الضائعة… هل هو اختيار يعبر عن قصدية موضوعية، أم فرضته قصدية سردية؟
الأكيد أن تناولي لقضية المرأة، أراد أن يبتعد عن المقاربة “النسوية” بمعناها السلبي، ويتعاطى مع المرأة باعتبارها عنصرا اجتماعيا وكيانا ثقافيا أساسيا، وباعتبارها فاعلا وطرفا مهما في معادلة الحياة والتغيير، وبالتالي، فلا أستطيع أن أميّزها إلا بمدى فعاليتها الفكرية والاجتماعية والنضالية أيضا، وهنا حاولت أن أقف على مسافة واحدة من “الرجل” و”المرأة”، فبقدر هجومي على العقلية الذكورية وانتقادي لبعض الحمولات والتمثلات السلبية المعيقة لفعالية المرأة ومشاركتها، بقدر ما سلطت الضوء على انحرافات جزء من النضال النسوي، واعتباره إديولوجيا قائمة بذاتها، تستعدي الرجل، ولا ترى نفسها إلا في علاقة صراع مستمر معه، لم ينفك بدوره عن الارتهان للعقلية الذكورية الممجوجة.
- قدمت شخصية الرواية الأساسية بصورتين؛ الاولى هي الصورة الواقعية المصلحية التي تبحث عن لقمة الخبز واستغلال الفرص، والثانية شخصية مثالية تنتصر للمبادئ وتضحي من أجل ما تؤمن به. بناء على هذا الأمر هل يمكن أن نعتبر المعزوفة رواية “ملتزمة”؟
أولا أنا لا أؤمن بما أسميته “الرواية الملتزمة” بهذا البعد الواحد، ذلك أن لكل رواية التزامها الخاص، وحتى من يتنصل من أي التزام، فذلك نوع من الالتزام، فالإيديولوجيا لا تنفك عن أي كتابة، وإنما الاختلاف كائن في درجة بروزها إلى السطح، أي حجم حضور الإيديولوجية العارية، بمعنى الخطاب المنبري المباشر، ومنسوب الخطاب الاجتماعي والحقوقي المُسرّب في الرواية، والحقيقة أن فنّية الرواية لا تتحمّل أن تكون مطيّة صرفة للإيديولوجيا بمعناها الدعائي، فكل خطاب مباشر هو خطاب غير فني، وكل خطاب دعائي مباشر يبتعد تماما عن أن يكون خطابا فنيا، ولذلك، فقد تجاوزت الرواية المغربية مرحلة “الالتزام” بمفهومه الماركسي، حيث كانت تخضع الأعمال لمحاكمات نقدية تزنها بميزان إسهامها في تعبئة الجماهير وفضح التظالم الطبقي، وبث الوعي في صفوف المتلقين، وكأن الرواية منشور حزبي وبيان سياسي مباشر، المطلوب منه أن يسهم في دعم الخيارات النضالية الآنية والتوجهات الحزبية المظروفة، هكذا انتقل البعض إلى مفهوم الالتزام بمعناه الوجودي السارتري، نسبة إلى جون بول سارتر، أي حينما تصبح الكتابة خيارا في التعاطي مع الحياة، والتزاما وجوديا للإنسان إزاء العالم، وهنا لا بد من الإشارة أنه يمكن الإفادة من التوجهين معا، دون الارتهان لمقولاتهما المتجاوزة، فالكتابة مهما كانت، غير منفصلة عن العالم، وتحكمها دوما رؤاها الخاصة، بمعنى أنها لا يمكن إطلاقا أن تكون خارج الإيديولوجيا، لكن ينبغي ألا يتم ابتذال النصوص الإبداعية، بتحميلها ما لا تحتمل، فالكتابة الأدبية والسردية تحديدا، يجب أن تحمل اشتراطاتها الذاتية، وتخضع لمنطق الفن، ومحددات الجمال، ولا أن ينبغي أن يكون المضمون الفكري أو المحتوى السياسي أو البعد الإيديولوجي بشكل عام، هو الهاجس المسيطر وربان سفينة الإبداع، فهناك معادلة ينبغي الحفاظ على توازنها، بين المضمون والشكل، بين الفن والحمولة الإيدولوجية، بين الالتزام المتكلّف المفروض، وبين الانسياب التلقائي، والانعكاس الطبيعي لصدى التوجهات والأفكار وتفاعل كل ذلك في العملية الإبداعية التي تحكمها استراتيجية فنية لا ينبغي التنازل عنها.
أما بخصوص الشطر الأول من سؤالك، فأعتقد أنني حاولت أن أجعل من شخصية حمان، شخصية دينامية متطورة، وليس شخصية ثابتة سكونية، وهو نمط أراه ينسجم مع رؤيتي السردية واستراتيجيتي الفنية التي حكمت كتابتي لأحزان حمان وللمعزوفة على السواء.
- هل من خصوصية للتعاطي مع الجسد الأنثوي في سردك الروائي؟
تغييب الحديث عن الجسد بالمطلق أرى فيه اعتلال بصر واختلال نظر، فمن وجهة نظري أرى أن القرآن الكريم نفسه لم يخل من إيحاءات في هذا الصدد، ولكنها إيحاءات تليق بربانية كتاب الله تعالى، وقدسيته، رغم أنّها لا تنفي عملية اشتغال متخيّل المتلقّي وهو بصدد قراءة مراودات امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، أو حتى كشف بلقيس عن ساقيها بعدما حسبته لجة: “قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، أو التقاط ذلك الإعجاب الخفي لابنة شعيب بموسى عليهما السلام، وفطنة سيدنا شعيب في تزويج ابنته دون الإفصاح عنها، وبهذا نجد أن كتاب رب العالمين، لم يُقْصِ بتاتا الحديث عن المرأة باعتبارها موضوعا للرغبة، فتنة أو حاجة شرعية، فما بالك بالنصوص الإبداعية البشرية، لكن المقياس يكمن في حجم التعفف، ودرجة التصوير، وفنية الإشارة بدل العبارة، والإيحاء بدل الإدلاء، والتلميح بدل التصريح، وأنزّه كلام رب العالمين عن أي تبذّل بشري ناقص، أو اثّقال إلى الأرض هو ألصق بالطّين ودوافع الطّين، وهنا يحضر سؤال كبير عن “الجرأة” في تناول الجسد، ومدى ضرورة ذلك، وأعتقد أن هذا مبحث يجب النظر فيه بأدوات تحليلية علمية، استقصاء وتحليلا، في غير هذا الموضع، خاصة بالنسبة لمن يحرصون على تأصيل خطواتهم الإبداعية، لتتحرر أفهامهم في سبيل امتلاك وعي نظري لازم لمن يريد أن يجدد في النظرية الأدبية من زاوية إسلامية منهاجية، ولذلك أكتفي بالإشارة إلى أن الحديث عن الجسد الأنثوي والجنس، والجرأة في التعبير عنهما، يخضع لمنطق سياقي في الإسلام، من خلال “جوازه” – بلغة الفقهاء- في مسألة التربية الجنسية، أي في التعليم، ومنه مثلا الحديث في أحكام الفقه عن أحكام الحيض والنفاس، وكيفية غسل الجنابة وموجباته، وما يحل وما يحرم في الجماع، وحتى أحكام الاستبراء والاستنجاء وآداب ذلك، فهو بهذا المنحى مرتبط بسياق بيداغوجي تعليمي، وهو أحيانا سياق فنّي تمهيدي ليس إلا، فما وصف “سعاد” ب”الهيفاء” و”العجزاء” في قصيدة كعب رضي الله عنه وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من قبيل تقبّل هذه الذائقة المنتشرة في المطالع الغزلية لبعض القصائد، والسماحة النبوية الواسعة التقريرية التي تركت الباب الواسع لمسلم حديث عهد بالإسلام، أن يصف جسد امرأة، في غير قليل من التطريب والتحبيب، ما دام غرضه الأساس طلب العفو وامتداح خير البرية صلى الله عليه وسلم فرحا بالإسلام ونوره ونبيه عليه السلام، والله أعلم.
وهو من زاوية أخرى مرتبط بسياق تحكيمي قضائي إن شئت، ولذلك لا حرج في أن تصرّح مغتصبة لهيئة المحكمة وتصف كيفية اغتصابها مثلا، استدراجا وهتكا وعنفا حسب أسئلة القاضي وضرورات التحقيق، لفظا وأشكال فعل، وهناك سياق نضالي حقوقي، كأنه ردّ بالكتابة كما يذهب إلى ذلك بيل أشكروفت، وهنا تحضرني الآية الكريمة “لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم”، فأي جهر بالسوء يجوز في حالة إرادة رفع الظلم؟ وما حدود السوء؟ ومن يقدّر مستوى السوء المسموح به؟ أسئلة تخضع لمنطق النباهة والذوق، وإلا فإن السقوط في مخاطبة الغرائز ودغدغة الأحلام الشبقية، فيه انحطاط عن درجة الفن بذاته، باعتباره ارتقاء بروح الإنسان وعقله وحواسه عن البعد الدّوابّي الغريزي المباشر في خِلقته، هذه قناعتي الدينية إن شئت، مع أنني أتحفّظ على محاولة فرض معايير من خارج النسق الإبداعي بشكل عمودي، وإلا فكل نَحْلَةٍ تنتجُ عسلا يعكس طبيعة غذائها، فبقدر استنارتك وبقدر سموك وارتقائك، أخلاقا وفكرا وروحا، يكون أدبك تعبيرا عن هذا، وقد يكون تطبيبا لأمراض وعلاجا لظواهر يتعفّف غير المحترف المتخصص أن يخوض فيها، ويشمئز من الإمساك بالجرح ونزفه وتقيّحاته، فلا أقل حينئذ أن يحترم الحرفة، ولا يعتبر “الطبيب” منحطّ الذوق قاسي القلب مثلا، وإلا فهو المشفق الطيب القلب حقيقة، قلت هذا على سبيل المثل ليس إلا.
ولعلّي بهذا أرسم الإطار الذي أزعم أنني صَدَرْتُ عنه، والفهمَ الذي توسّلت به في الكتابة، وللمتلقي والنقاد أن يحكموا إن كانت بعض المشاهد مبررة حقا، أم أنها استعراض وتقحُّمٌ وإغواء مجّاني يخلّ ب”الحياء العام” المرعي بذوق وفهم سائِدَيْنِ مُرَسَّخَيْنِ.
- هذا السؤال يدفعنا الى سؤال آخر أعمق وأعم. هل وظيفة الأدب هو عكس الواقع؟ أم نقده وإصلاحه؟
دوما يطرح عليّ هذا السؤال، وأقول بأن الكتابة السردية تخييل، وواقع مضاعف، أي موازٍ للواقع الأصلي، لكنه أبدا ليس مجرد انعكاس حسب نظرية أفلاطون، وليس نقلا مباشرا وتسجيلا وصفيا صرفا لهذا الواقع، فحتى أشد “الواقعيين” على مستوى الكتابة لو شئتَ، فإنه يقوم بإعادة إنتاج ما يرى هو أنه الواقع، عبر مصفاة انتقائية ذاتية وذوق شخصي معين، وزاوية نظر فردية، وتتدخل في عملية إعادة الإنتاج تلك، درجة الوعي الفكري والفني، والحساسية إزاء اللغة والوعي بوظيفة الكتابة، بمعنى أن الواقع يتم إعادة تدويره ليصبح واقعا جديدا تماما، مُعادٌ إنتاجُه في سياق تخييلي تحكمه العديد من العوامل، وبالتالي، هو واقع تخييليٌّ خاص، وما قد يختلف فيه الكتاب هنا، هو مستوى التخييل، وحجم التدوير وطبيعته، مضافا إليهما حجم الانزياح عن المرتكزات التسجيلية، وحجم الخرق في أنساق الذاكرة، ودرجة الادعاء والمكر كذلك، ففي كل تخييل سردي، خطاب نقدي مضمر إزاء الواقع، تختلف حدته وحجمه وشكل بروزه، وحتى امتداح الواقع “كما هو” فإنه انشداد إلى ماضٍ منصرم متسرّب زمنيا، لأنه صار واقعا ماضيا، ولم يعد واقعا حاضرا، بمعنى أنه محض انشداد ماضوي يحمل نزعة الحنين إلى ما كان، وليس إلى ما صار الأن واقعا.
- ماذا بعد المعزوفة؟ هل من جديد؟
هناك مشاريع إبداعية ونقدية تنتظر دورها إلى جانب شواغل حياتية ومهنية عديدة، نرجو أن تتيسر في العمر بقية لتخرج إلى الوجود، وشكرا لك على هذا الحوار.