حوارات

الملاخ لأنباء24 ..كل من التلميذ والأستاذ ضحية لمنظومة تعليمية فاشلة

يسر موقع أنباء 24 أ أن يستضيف في هذا الحوار الحصري الأستاذ نورالدين الملاخ الباحث في قضايا التربية والتعليم وعضو مركز الدراسات المغربية وتحليل  السياسات وصاحب كتاب أزمة التعليم وسؤال الإصلاح، لتسليط الضوء على مستجدات قطاع التعليم بالمغرب وأبرز قضاياه التي أثارت ضجةً إعلامية ونقاشاً قويا في وسائل التواصل الاجتماعي.

مرحبا بك أستاذ في هذا الحوار .
بدايةً، ما وجهة نظركم في مسلسل إصلاح مناهج التربية والتعليم ثم ما تعليكقم على إعفاء السيد وزير التربية الوطنية من مهامه ؟
إن أزمة التعليم بالمغرب معقدة، لكونها تمس المنطلقات والغايات مرورا بالبرامج التعليمية المسطرة والمناهج التربوية المعتمدة، وكذلك الوسائل المادية والبشرية الموظفة. يشهد على ذلك مسلسل الإصلاحات التي عرفها قطاع التعليم في المغرب منذ فجر الاستقلال إلى اليوم الذي نعيش فعلا إفلاسا حقيقيا لمنظومة التربية والتعليم. نصف قرن بخمسة إصلاحات، القاسم المشترك بينها فشل في تحقيق الأهداف المعلنة. يرجع ذلك، في نظري إلى خمسة أسباب:
1.    سيادة القرار السياسي وتغييب القرار التربوي.
2.    افتقار النظام التعليمي المغربي، منذ الاستقلال إلى "فلسفة تربوية" واضحة تتجسد في "نظرية تربوية" معاصرة تخط مسار التعليم، وتضع معالم طريقه في اتجاه "غايات كبرى" لا تعرف مدا ولا جزرا.
3.    استيراد بيداغوجيات ومحتويات جاهزة، مع عدم تكييفها مع الخصوصيات الوطنية بصفة عامة، والجهوية بصفة خاصة؛ وهذا معناه غياب وتغييب الذات الوطنية.
4.    تدخل مؤسسات أجنبية (كالبنك الدولي مثلا…) في وضع وتسيير دواليب التربية والتعليم ببلادنا.
5.    عدم اعتماد هذه الإصلاحات المتتالية على البحث العلمي، والدراسة الميدانية التي تفرزها الحاجيات الفعلية، الأساسية منها والثانوية، الشيء الذي نتج عنه تخطيط مرتجل وتدبير غير معقلن.
مسلسل الإصلاحات يتجاهل بعضها البعض، فكل إصلاح جديد يُبنى على أنقاض الذي سبقه، وينعت الأول- ومن وضعه- بالفاشل وغير القادر على التفاعل مع تحديات الحاضر، بينما الذي يليه يصف نفسه بالقادر على حمل المشعل، وذلك بجعل المدرسة المغربية مؤهلة للاستجابة لمتطلبات المجتمع في مجال العلم والمعرفة والمهارات… إلا أنه عندما يجد نفسه أمام أمر الواقع يذهل، ويجرم من قبله، الذي بدوره يهيئ نفسه للمرحلة المقبلة بصياغة معادلة جديدة أكثر حداثة وأبلغ خطاب.
بين المدح والقدح، ضاع ويضيع ملايين المتعلمين، يتيه الشباب ويتسكع في الطرقات، يعطل حاملي الشهادات. وحتى القطاع الخاص غير قادر على استيعاب هؤلاء. وذلك لكثرتهم من جهة وعدم قدرة أغلبهم للاندماج في سوق الشعل، نظرا لكون شهاداتهم لا تتلاءم مع ما يطلب منهم… إنه واقع الأزمة؛ تعترف المناهج التربوية بفشلها، والبرامج التعليمية رغم كثافة كمها بهشاشة نوعها.
لا أنكر أن عملية الإصلاح نضج في الفكر وتميز في الفعل، هذا إن أريد منه الرقي من درجة إلى درجة أفضل على مستوى المناهج والبرامج وجعلها أكثر تلاءما مع الواقع وأكثر تلبية لحاجيات المتعلم.
أما موضوع إعفاء وزير التربية والتعليم من مهامه، فيجب أن يطرح السؤال بشكل آخر: لماذا جيئ بهذا الرجل على رأس إدارة وزارة تعاني من أمراض مزمنة في التسيير والتدبير وإرساء المناهج… ما ميز الرجل المعين في مساره الاستوزاري، كونه رجل سلطة بامتياز. وعندما نتحدث عن السلطة في المغرب فهي الزجر والعقوبة والتخويف. بينما منظومة التربية والتعليم محتاجة إلى تطبيب وعلاج دقيق وفق مقاربة تربوية أساسا وليست بمنظار أمني يلبس البزة للأستاذ ويعاقب هذا لتقصيره في أداء واجبه المهني ويعفي ذاك لانتمائه السياسي.
والإعفاء الذي تم  لمجموعة من الوزراء، ومن بينهم وزير التربية والتعليم، ماهو إلا حلقة من مسلسل رديئ الإخراج، الهدف منه امتصاص غضب شعبي على فشل منظومة التربية والتعليم التي أصبحت بؤرة سوداء في تاريخ المغرب المعاصر. حيث أن المغرب بدأ يعرف من جديد طوفان خريف قادم، وبؤر موجات زلزالية تهتز فوق السطح… فلابد من إحداث "زلزال سياسي استباقي" متحكم فيه، بدل " زلزال سياسي حقيقي" تنفجر معه الأوضاع الاجتماعية وتنكشف به اللعبة السياسية.
كيف تنظرون إلى آخر الإجراءات التي واكبت الدخول المدرسي، على مستوى تأهيل البنية التحتية وتنزيل تدابير الرؤية الاستراتيجية ؟
إن الإجراءات التي أقدمت عليها وزارة التربية والتعليم، ما هي إلا "روتوشات" لامست مظهر وأشكال البنيات التربوية، لمنها لم تجرأ على كشف خبايا الفساد الحقيقي الذي عكَّر صفاء الفضاءات التربوية والتعليمية. الإصلاح الحقيقي هو الذي يحد فعلا من الهدر المدرسي، ويرجع للأستاذ مكانته، وللتلميذ حرمته، وللمدرسة عموما قدسيتها.
لا شك أنكم تابعتم الضجة الأخيرة التي أثارها فيديو اعتداء تلميذ على أستاذه بورزازات، وسبق ذلك قبلة التلميذة في مكناس.
 إن ما يقع في المدرسة المغربية من سلوكات منحرفة( قبلة مكناس مثلا)، تتطور في بعض الأحيان إلى الإجرام وتتحول العلاقة التربوية المقدسة إلى التشنج، كالذي وقع في ووزارات: "أستاذ يضرب ويسحل من طرف تلميذ في فضاء القسم وحصة الدرس"…!. وبالمناسبة هناك من يتحين مناسبات مثل الذي ذكرتم، ويستعدي هذا الطرف على ذاك، بينما من يتحمل المسؤولية الحقيقية فهو في منأى على كل اتهام. من أجل ذلك، وجب التنبيه نساء ورجال التعليم إلى ما يلي: " لا ينبغي استثمار حادثة ورزازات رغم قبح صورتها- ضرب تلميذ لأستاذ- باستعداء التلاميذ. كل من التلميذ والأستاذ ضحية لمنظومة تعليمية فاشلة".
وكيفما تكون نتائج التحقيقات، تبقى تلك الصور بشعة مهينة ومسيئة للأسرة التعليمية (الأستاذ والتلميذ) تستدعي وقفة تأمل عميق لتصحيح وضع كارثي ينذر بإفلاس التعليم.
ماذا تقولون حيال هذه السلوكات ومن المسؤول الأول في نظركم ؟
التسيب الأخلاقي عند بعض التلاميذ وتدمر الطاقم التربوي ولامبالات الطاقم الإداري والعنف المدرسي المتبادل من كل الأطراف…ما هي إلا أعراض بدأت تظهر( syndromes) لمرض طويل المدى لمنظومة التربية والتكوين. وهي نتيجة طبيعية متوقعة لفعل جرثومة خبيثة، اسمها "الفساد" تسللت إلى منظومة التربية والتعليم برمتها وانتشرت في جسم الأسرة التعليمية. قابَل ذلك صمت مخيف لمسؤولي الدولة، الذين اكتفوا بإنشاء لجان إصلاح، ثم لجان إصلاح الفساد…
المتعلم هو أكبر ضحية لإفلاس التعليم في المغرب. فبدل أن يكتسب هذا التلميذ في المدرسة قيما مجتمعية وأخلاقا نبيلة في وضعيات "تعليمية- تعلمية" سليمة، أصبحت المدرسة بؤرة توثر بين أطراف العملية التربوية، أفرزت نتيجة تلقائية، وهو ما يشهد عليه الواقع المعيش في المدرسة المغربية.
 أصبحت الأسرة التعليمية تعاني من مجموعة أمراض مجتمعية خطيرة أفقدت قدسية العلاقة التربوية بين المعلم والمتعلم ، كما خفت بريقها . تجلى ذلك في اللامبالاة والتسيب والبطء والروتين والتسلسل الإداري المميت، إلى جانب العزوف عن الدراسة والتثقيف من قبل المتعلمين، وانتشار الأمية والتفكير في الهجرة إلى الخارج و"الحريـــﮔ" مع تنامي ظاهرة البطالة والعطالة المستمرة، والتأثير السلبي لتأميم التعليم والعمل على نشره في القرى والمدن الذي اتخذ بعدا كميا وعدديا على حساب الجودة التربوية و التأهيل الكيفي.
المسؤولية إذن مشتركة بين جميع الأطراف المتدخلين في مجال التربية والتعليم، وعلى رأسها الأجهزة المختصة لبلورة استراتيجية التعليم، آخرها المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي سطر برنامجا استعجاليا لتفعيل مخرجات ميثاق التربية والتكوين، ثم  إصدار ركام متتالي من الوثائق التدبيرية التي تبين عن رؤية تائهة  واستراتيجية هائمة التي فصلناها في منشورات المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات:
" المغرب في سنة 2015".
 اذا ، ماذا تقترحون كإجراءات لمعالجة هذه الظواهر المستفحلة داخل المؤسسات التعليمية والعمومية بالتحديد ؟
أعتقد أن حل هذه المعضلات العميقة تتطلب تشخيصا موضوعيا يقف عند الأسباب الحقيقية للداء، ليقدم مقترحات  فعالة ويرسم استراتيجية  محكمة الأركان وينزل خطة عمل دقيق ومواكبة فعلية تراقب سير الانجازات وتحاسب أهل الخلل من مدخلات إلى مخرجات الإصلاح.
على كافة الشركاء من تربويين وآباء ونقابيين ومفكرين وسياسين التدخل لوقف هذه المهزلة فمستقبل البلد والنشء ليس لعبة في أيدي من يجربون في أبناء الشعب سياستهم التي أثبتت وتثبت فشلها كل يوم. والتصدي بروح وطنية لهذه المخططات التي تسعى إلى ضرب منظومة التربية والتعليم في أقوى أسسها وأصلب حلقاتها وهو رجل التعليم الذي هو ركيزة كل إصلاح وكل تجاهل أو تهميش لدوره بإضعاف كفاءته ومؤهلاته هو بناء على الرمل، فالمعلم المربي القدوة هو حجر الزاوية في عملية التربية والتعليم. وإن لم يكن على قدر كبير من التمكن العلمي والكفاءة المهنية ويتوفر على حافز سامي يدفعه لاختيار مهنة التعليم بكل حب واقتناع وعلى وعي كامل بحجم الرسالة الملقاة على عاتقه و وعي تام أنه يمارس أشرف المهن وأسماها وليس وظيفة كسائر الوظائف يسترزق منها ويستجير بها من رمضاء البطالة، فالعملية ستنهار كليا وهذا ما جنيناه من السياسات التعليمية المتوالية.
مِن الثانويات إلى الجامعات، ما تعليقكم أستاذ نور الدين بخصوص الاعتقالات التي تطال ثلة من الطلاب طالبوا بإصلاحات على مستوى مؤسساتهم ؟ ونتحدث هنا عن طنجة والجديدة.
إن أزمة التعليم لا تمس فقط مستوى تعليمي دون آخر، فمدخلات التعليم الابتدائي تفد إلى التعليم الثانوي الإعدادي ثم التأهلي، ليتخرج التلميذ حاملا شهادة بكالوريا تؤهله إلى ولوج التعليم العالي. ولعل أكبر حاضنة لأفواج المتخرجين من المدرسة العمومية تستقبل في الجامعات والمعاهد العليا. وهي مؤسسات تعرف بدورها مشاكل كثيرة، لا يسمح المجال في التفصيل فيها. واقع يمتعض له الطلبة ويعبرون عنه بأشكال نضالية مختلفة، ويتقدمون بملفات مطلبية مشروعة في إطارات نقابية طلابية. إلا أن من يؤطر العمل النقابي الطلابي يجابه بعقلية تسلطية تتحكم في الرقاب وتحدد السقف وتجرم من تجرم مستعملة في ذلك سلطة القضاء لتخويف عموم الطلبة وتمييع المشهد النضالي.


سبقَ أن أصدرتم كتاباً بعنوان "أزمة التعليم وسؤال الإصلاح"، ماذا يقترح هذا الكتاب كبديل أو منهج لإصلاح المنظومة التعليمية بالمغرب ؟
"أزمة التعليم وسؤال الإصلاح"، كتاب جديد من الحجم المتوسط ب140 صفحة، وهو من منشورات المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات. يعرض الكتاب أزمة التعليم في الوطن العربي ويطرح سؤال الإصلاح من خلال أربعة فصول: الفصل الأول يعرض الكاتب "سياق مسلسل إصلاح التعليم في العالم العربي "وذلك باستقراء لتقارير دولية تطرح السؤال وتملي التوجه، وبتحليل لتقارير عربية تخلص لتنفيذ الإملاء وشق المسار وفق الوجهة المحددة سلفا. الفصل الثاني فهو يعري واقعا مريرا لمنظومة التعليم في العالم العربي، ويكشف حقيقة إصلاح التعليم الذي يفتقد لرؤية استراتيجية واضحة. الفصل الثالث يضع مشروع إصلاح التعليم ببلده -المغرب- تحت الجهر، ليخلص أن مشاريع الإصلاح في المغرب تنخرط في المنظومة العامة التي يعيشها الوطن العربي عموما، القاسم المشترك بينها الفشل والبوار. الفصل الرابع يطرح فيه الكاتب سؤال: ما العمل من أجل إصلاح حقيقي لأزمة التعليم وما هي شروط الإصلاح، وما هو منطلق الإصلاح؟
   يهدف الكتاب إلى فتح نقاش هادئ وهادف بين المهتمين بقضايا التربية والتعليم، والفاعلين في الحقل التعليمي، من أجل: معرفة طبيعة الإشكال وعمقه وتحديد إطاره.بسط قضية التعليم على طاولة الأمة، وإخراجها من دائرة النقاش الضيق في صالونات النخب والمثقفين.البحث الفعلي عن ميثاق أمة حقيقي يضع الحلول الناجعة على قاعدة التوافق والتكامل من أجل مصلحة الأمة، وليس ميثاق إملاء ترعاه إدارة استبداد.الوصول إلى المخرج المنقذ من واقع الأزمة إلى أفق استشراف المستقبل.
كلمة أخيرة أستاذي الكريم..
 أزمتنا الحقيقية، نحن العربَ والمسلمين، أزمة حوار ومد جسور التواصل، سببها قطيعة رحم وحوار صم أدت إلى التنابز بالألقاب، والانحراف بقضايا الأمة إلى منحدر الهزيمة والاستسلام، وعلى رأسها أزمة التعليم.
من المطالب الملحة والمستعجلة لإنقاد منظومة التربية والتعليم من الإفلاس، المرتبطة بالقضايا المجتمعية الأخرى:" طرح قضايانا بكل جرأة وصدق وإخاء، لإحقاق الحق وإبطال الباطل على منوال سليم يطرح السؤال الصحيح ويبحث عن الاستراتيجيات الذكية الممانعة لثقافة الانفصام والهزيمة المادية والمعنوية والواقفة بحزم أمام جزر الإعصار الاستعماري ومنتشلة القلوب والعقول والإرادات من عتمة الدهاليز المظلمة إلى منابر صناعة القرار… وإلا ستتلقفنا مناطق الانحدار في بحر طوفان الأزمة، تقودنا موجات الإملاءات إلى ينابيع التغريب والتخريب والتمزيق تحت لواءات الرايات العمية، التي أصبحت ترفع اليوم بأسماء لها وزنها ومكانتها في تاريخ الإسلام والمسلمين…

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى