بورتريه تعريفي بالراحل الشيخ محمد زحل
ولادته و دراسته الأولية:
طلع صباح ميلاده على أرض تيلوا بـ"نكنافة" سنة 1363 للهجرة 1943 للميلاد ولما بلغ طور التعلم اندفع إلى الكتاب فتولى أبوه تعليمه وتهذيبه بنفسه حتى قطع أشواطا في مجال الدراسة فإذا به مني بشلل مستحكم من أطراف رجليه فلم يعد يطيق النهوض عليهما ثلاث سنوات ظل خلالها يستشفي بالرقى القرآنية والتعاويذ المأثورة حتى شفا ه الله تعالى، ثم عاود دراسة القرآن الكريم فحذقه حذاقة تامة في ظرف أربع سنوات، ومن البداهة بما كان أن هذه المدة القصيرة لا يستوعب فيها القرآن الكريم حفظا و رسما إلا من حظي بعناية فائقة و بصيرة نافذة و سريرة نيرة.
دراسته العلمية:
لما استوفى كتاب الله عزم أبوه على بعثه إلى مدارس القراءات، لكن فل من عزيمته أحد أصدقائه المخلصين بقوله: إن الأولى و الأحرى بمن استظهر كتاب الله تعالى أن يُزج به في المدارس العلمية ليدرك للقرآن الكريم معنى ومغزى، فلذلك اتجه به إلى رحاب مدرسة الجزولي فناجى ذات الأخذ للعربية والفقه الإسلامي عن الأستاذ مولاي أحمد السليماني نحو سنتين، ثم تاقت نفسه إلى التعريج بمجال دراسي أفسح و أوسع فاتصل بالمدرسة الهاشمية بتمنار فتلقى من أستاذها اللامع سيدي البشير التوفيق المنبهي دروسا شائقة رائقة في النحو و اللغة والفقه والسيرة والأدب والمنطق والجغرافيا والإحياء، علاوة على اقتباسه من مكارم أخلاق شيخيه هذا وذاك، وحسن شارتهما الإسلامية فلا يزال يلهج بمتعة دراسته العلمية العتيقة هذه وتأثيرها البالغ في تثقيفه و تكوينه، ثم انتقل إلى تارودانت بانتقال أستاذه المنبهي الذي ندبته جمعية علماء سوس للإنخراط في سمط أساتذة المعهد،فغدا المترجم بعد اجتيازه امتحانا في حفظ القرآن الكريم ومبادئ النحو والفقه أحد تلامذة المعهد فتلقى زهاء سنتين من أساتذتها الأكفاء أمثال الشيخ الكبير عبد الرحمن الرسموكي، والأستاذ الطيب اباعمراني، والأستاذ محمد السرغيني، والأستاذ عبد الملك أزنير الحاحي، والفقيه سعيد أحلمي الحاحي، والفقيه النحرير محمد -فتحا- العثماني، والأستاذ الأريحي محمد الضوء، والأستاذأحمد لجاني البودراري، والأستاذ أحمد العدوي. ثم ضاق ذرعا باضطراب الأجواء و غصف الأنواء تجاه المعهد إذ حاول خصوم الإسلام و أعداء الدين و الوطن وقف الحركة الإسلامية و إسقاط النهضة الدينية فأغلقوا المعهد بتواطؤ من الطلبة السذج الذين لا علم لهم بالأهداف السيئة و الطوايا الخبيثة التي حنت عليها ضلوع مختلقي الإضراب، فالتحق بمراكش و انضم لتلاميذ كلية ابن يوسف فانقاد لأنظمة أساتذتها المرموقين و حضر مجالس الشيخ الرحالي فاروق في صحيح البخاري بعد صلاة الصبح في شهور رمضان من سنة 1380-81-82 للهجرة بالمواسين و الجامع اليوسفي، و ألقى السمع في محضر الأستاذ البارع الأديب البليغ عبد السلام جبران، لدروس التفسير بين العشاءين بالجامع اليوسفي، و تلقى دروس الحديث و التفسير من الأستاذ أحمد أملاح الذي وصفه بمحبوبه الأثير، و أخذ ألفية ابن مالك عن الأستاذ الماهر في النحو و اللغة الحسين راغب المسفيوي، الذي بز وفاق قريبه عبد السلام جبران في التطبيق و التمسك، و ناجى ذات الأخذ للأدب العربي عن الأديب الأريب عبد السلام البشيري بلغواطي، و عن الأستاذ عمر فوزي التكزيريني الحاحي.
و من أساتذته غير النظاميين القاضي الفاضل مولاي أحمد السرغيني درس عليه بعد إحالته على المعاش " الموطأ" بشرح الزرقاني سنة 1383 هـ و لهذا الأستاذ الفذ أياد بيضاء على المترجم في تغذية الفكر و الجسد معا.
ثقافتـه و أخلاقـه :
هو من عماليق الأمة، و كبار الأئمة في الفقه الإسلامي و اللسان العربي و آدابه و الحديث و علومه، غزت سمعته الطيبة نوادي الدعاة النصحاء، و علا صوته منابر البلغاء و الفصحاء، تصدى للوعظ فاستفرغ جهده في تنوير العقول المظلمة بالأعراف السيئة، و في تنظيف الأفكار الملوثة بأوساخ المدنية الجوفاء و الحضارة الزائفة، و بعبارة جامعة مانعة هو في منحى الدعوة و التوجيه جبل لا تحركه العواصف و لا تزيله القواصف، كم من عيون عمياء جلاها بعذوبة منطقه و حلاوة لفظه، و كم من أحلام صداء صقلها بغرر دروسه و درر مواعظه، و ذلك ما جعل له دويا عاليا و صدى رنانا في أوساط الفقهاء و الدعاة و المفكرين، انتبر المنبر و تصدر للخطابة، فكشف عن خطيب لسن مصقع، ساير الأحداث الاجتماعية بالمنهج الوسط و الأسلوب المتيسر للأمة الوسط، تأسيا بالسلف الصالح في المبدإ و النمط، و ذلك ما أسهم في ارتفاع رنات خطابه، و تزاحم الناس على جنابه.
و كان في شرخ شبابه و مقتبل عمره متولعا بحرفة الأدب، فكان ممن نفخ بنفس عال في ناره و سبح سبحا طويلا في تياره، ظهر له في معرض الأدب العربي إنتاج صدر عن العواطف الجياشة الصادقة، و إبداع أملته المشاعر المرهفة الرائقة، كثير الاسترسال في اللطائف الأدبية و النوادر المستملحة في أوساط معارفه و جلسائه لدى أوقات فراغه، حازم صارم ضنين بوقته ليس في قاموسه وجود لمادة المحاباة و المجاملة و التغاضي لدى انكبابه على البحث و المطالعة و التوجيه و الدعوة، ندي الكفين، شكر الله صنيعه.
وظائفـــه :
نيطت بكاهله مهمات دينية دعوية و تعليمية في بحبوحة الدراسة و هو ابن عشرين سنة، و لما قاطع الدراسة سنة 1383 التحق بالتعليم بعدة مدارس بالبيضاء.
أما وظائفه الدينية فقد تصدى لوظيفة الإرشاد بالكتاتيب القرآنية نحو سنة، و اضطلع بأعباء إلقاء المحاضرات على زملائه في مدرسة المعلمين، و انتبر المنبر بجامع الحجر بدرب غلف نحو ستة أشهر، و قام ببث دروس وعظية بمسجد شارع ضانظون منذ 1966 م إلى 1968 م، وأسندت إليه مهمة الدروس الراتبة في الجامع العتيق بـ "عين الشق" نحو ثلاث سنوات، و قام مع الشيخ محمد مفضال السرغيني بأنشطة في " جمعية أنصار الإسلام"، كما أسس بمشاركة بعض زملائه جمعية " شباب الدعوة الإسلامية" بعين الشق، و منذ سنة 1976م إلى 1982م تصدر لملابسة شؤون المنبر بجامع درب الطلبة، ثم انتبر المنبر بمسجد الشهداء ، و قام بتفسير كتاب الله تعالى في حال اتصاله بمسجد " درب الطلبة" و ثابر عليه إلى أن وصل قوله تعالى: ﴿وَ إِن يَّمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ،وَ إن يَّمسَسْكَ بِخَير فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾¹ فإذا به صدر الأمر بوقفه عن الوعظ و إجلائه عن المنبر في رمضان 14044هـ.
و في نفس التاريخ تقاعد تقاعدا نسبيا، ثم تقلب بحرية في مساجد الدار البيضاء لبث دروس علمية دعوية تمثلت في دروس التفسير، و صحيح مسلم في مسجد درب الطلبة و مسجد الشهداء، و شرح كتاب التوحيد في مسجد"الفوارات" بالحي المحمدي و تفسير سور المفصل في المسجد اليوسفي، ثم عادت المياه إلى مجاريها فاعتلى منبره الدعوي فعادت الفرحة الكبرى و الرضى و البشرى إلى آلاف من شباب المسلمين و كهولهم و شيوخهم²، فاستأنف دروسه في الفقه و الحديث و التفسير كل يوم الاثنين و الثلاثاء و الخميس بالجامع العتيق بعين الشق لعهدنا هذا، و اتخذ يوم الأربعاء للإجابة على الأسئلة الدينية و الاجتماعية.