سياسة

الانتخابات والقصر والإسلاميين

هناك شيء أصبح جليا كشفت عن الحملة الانتخابية الممهدة للانتخابات التشريعية في المغرب، وهو يلخص إلى حد ما جوهر هذه الانتخابات ورهاناتها الحقيقية. وهو أن الصراع الحقيقي في هذه الاستحقاقات يدور بين إرادتين. إرادة  القصر الذي يريد الحد من مد إسلامي متنامي، وإرادة إسلاميين ممثلين في حزب "العدالة والتنمية"يسعون إلى التشبث بقربهم من القصر لضمان وجودهم واستمرارهم كشريك في العملية السياسية.  أما الباقي فهو مجرد تفاصيل لتأثيث المشهد.

لكن، ما لا يريد الكثيرون الإقرار به، بما فيهم حتى إسلاميو  عبد الإله بنكيران، رئيس حزب "العدالة والتنمية"، هو الاعتراف بأن القصر لا يريدهم كشركاء له في الحكومة، أما الحكم فلا مجال للحديث عنه، حتى لو قدموا له كل التنازلات التي يطلبها أو لا يطلبها منهم لإظهار حسن نيتهم ونيل ثقته. وهذا الرفض من طرف القصر هو الذي يعبر عنه بنكيران بطريقته الخاصة بوصفه بـ "التحكم"، ومؤخر ا بعد أن تم تنبيهه إلى عدم استعمال هذا التعبير  استبدله بتعابير  صحفية من قبيل "مربع الحكم" و"دائرة القرار"، والمعنى والمغزى  واحد هو أنك بنكيران يعرف قبل غيره أن من يحكم ويتحكم في كل شئ هو القصر.

هذا ليس استنتاجا صحفيا وإنما هي حقيقة بات يعرفها أغلب المغاربة وأقرها بنكيران نفسه مؤخرا في أكثر من حوار صحفي. عندما كرر أكثر من مرة وبأكثر من صيغة بأن من يحكم المغرب ويسير البلاد هو الملك،  وبأنه لا وجود لشيء اسمه الفصل بين السلط في المغرب، وبأن رئيس الحكومة "المنتخب" هو هنا فقط لمساعدة الملك عندما يٌطلب منه ذلك.  انتهى الكلام.

غياب الثقة

لكن إذا كان الأمر كذلك فما الذي يزعج القصر  من وجود إسلاميين "منتخبين" مستعدين لمساعدته بما يٌطلب منهم؟ الجواب عن هذا السؤال نجد له أكثر من صيغة في واقعنا اليوم. بالنسبة لبنكيران وإخوانه فإن من يحول دون ذلك هو "التحكم" الذي لا يريدهم أن يقتربوا من "مربع الحكم"، وبالنسبة لخصومهم السياسيين خاصة حزب "الأصالة والمعاصرة"، فإن ما وراء تقرب بنكيران وإخوانه من مربع السلطة هو أكبر من خدمتها وإنما الاستيلاء عليها  لأسلمة الدولة والمجتمع.  أما القصر المعني الأول بالأمر، فهو   ناذرا ما يعبر عن موقفه صراحة، خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع له انعكاساته المباشرة على واقع الصراع السياسي الحزبي اليوم في المغرب.

ومع ذلك فهناك الكثير من الإشارات التي  تصدر عن القصر يمكن من خلالها قراءة موقفه والذي يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي "انعدام الثقة". وهذه ليست وليدة اليوم، وإنما هي قديمة منذ أن فٌتح الباب لأول مرة لإسلاميين في المغرب للدخول إلى الحياة السياسية في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، ولولا أن الظروف الموضوعية والإقليمية هي التي فرضت على الملك الراحل الحسن الثاني فتح ذلك الباب لظل مغلقا إلى يومنا هذا،  فعندما أراد القصر دمج إسلاميين داخل اللعبة السياسية، في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، كان أول ما طٌرح هو مسألة الثقة لذلك لجأ القصر آنذاك إلى أحد أبناء "دار المخزن" هو  عبدالكريم الخطيب وعهد له بـ "كفالة" إسلاميين معتدلين اختارتهم له وزارة الداخلية بعناية لتجريب كيفية احتواء مد إسلامي متنامي في المنطقة أدرك الملك الراحل بحسه البراغماتي أن  سياسة الاحتواء هي التي ستجنب بلاده مصير الجارة الجزائر  التي عاشت تجربة حرب أهلية دامية عندما حاول عسكرها إقصاء إسلامييها من اللعبة السياسية.

لم يعش الملك الراحل طويلا حتى يرى تقدم الإسلاميين المغاربة في الانتخابات لذلك يصعب الحكم على موقفه من هذا التقدم الذي بدا بطيئا لكنه كان تدريجيا وتصاعديا.  ففي أول عام سٌمح فيه لإسلاميين مغاربة بالمشاركة السياسية كان ذلك عام 1997 حصلوا على 9 مقاعد، انتقلت إلى 42 مقعدا عام 2002 رغم أنه لم يسمح لهم بتغطية سوى نصف الدوائر الانتخابية، ثم إلى 46 مقعدا عام 2007 مع طعنهم في نتائج تلك الانتخابات واتهامهم الداخلية بالتزوير وسرقة نصف المقاعد التي حصلوا عليها، وفي تلك السنة، وبدون مقدمات أو سابق إنذار أو حاجة إلى فعل ذلك أٌجبر صديق الملك فؤاد عالي الهمة ومستشاره الحالي على مغادرة وزارة الداخلية  وكان ذلك بهدف واحد هو وقف زحف إسلاميي "العدالة والتنمية".

وحتى قبل هذا الخروج المفاجئ لصديق الملك من الداخلية والنزول بثقله إلى الساحة السياسية لتأسيس ما يعرف اليوم بـحزب "الأصالة والمعاصرة"، حاول نفس الشخص  أن يتخذ من اليسار   درعا لوقف زحف الإسلاميين، وعرض على محمد الساسي ومحمد حفيظ تأسيس حزب يساري يحظى بدعم "الدولة" وتوكل له نفس المهمة، وعندما رفض الاثنان الانخراط في مشروعه لجأ إلى أحد أعضاء الشبيبة الاشتراكية التي كان ينتمي لها الساسي وحفيظ، هو  عبد الكريم بنعتيق لتأسيس حزب يساري  يظم قوى اليسار وبعض رموزه لكن عندما تبين أنه أعجز من أن يقوم بالمهمة تم التخلي عن ذلك المشروع ليموت في مهده. وفي الأخير  لم يكن أمام الهمة سوى أن يرتدي حذائه الرياضي، كما كان يقول لأقرب أصدقائه، والنزول إلى الساحة لمواجهة إسلاميي "العدالة والتنمية" بنفسه بعد أن عجزت  الأجهزة الإلكترونية لوزارة الداخلية أن توقف زحفهم، وبقية القصة يعرفها الجميع عندما جاء "الربيع العربي"  واضطر الهمة إلى العودة إلى مقعده الخلفي في دائرة القرار الضيقة لكن الحزب الذي أسسه استمر وبنفس الأهداف التي أعلن عنها مؤسسه منذ أول خروج إعلامي له عام 2007 عندما قال في لقاء مع القناة الثانية إنه جاء لمواجهة الإسلاميين، وهو الشعار الذي ما زال نفس الحزب يرفعه حتى اليوم ويخوض بح حملته الانتخابية الحالية.

مسألة غياب الثقة بين القصر وإسلاميي العدالة والتنمية، عبر عنها صراحة مرة الملك محمد السادس نفسه أثناء استقباله عام 2004 سناتورا أمريكيا بمدينة تطوان، وعندما بدأ ذلك السيناتور يٌثني على آداء أحد أعضاء وبرلمانيي حزب بنكيران، هو لحسن الداودي، رد عليه الملك بقوله:  "لا يجب أن تثق في الإسلاميين.. " هذه الرواية أوردتها قصاصات "ويكيليكس" عام 2011 ولم يصدر حتى اليوم ما يكذبها أو يشكك في صحتها من الديوان الملكي.  نفس قصاصات "ويكيليكس"، والتي سبق أن نشرتها صحيفتا "لوموند" الفرنسية و"الباييس" الإسبانية، عام 2010، كتبت أن "الملك محمد السادس يتدخل في العملية الانتخابية، في بعض الأحيان، بل حتى في مرشح لمنصب رئيس البلدية، مع هدف واحد: وقف زحف الإسلاميين حتى لو كان تواجدهم في الساحة السياسية شرعيا". وتضيف نفس الوثائق: "إذا كان حزب العدالة والتنمية (إسلامي معتدل) لا يوجد لديه العديد من رؤساء البلديات اليوم على رأس المدن المغربية الكبرى، فالفضل يعود إلى مناورات المقرب من القصر، وصديق الملك الكبير، فؤاد عالي الهمة" .

مشكل "غياب الثقة" بين القصر والإسلاميين بصفة عامة، وإسلاميي "العدالة والتنمية" في هذه الحالة يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية: يتمثل السبب الأول في اعتماد الحزب على الإسلام كمرجعية لخطابه وإيديولوجيته وهو بذلك يزاحم الملكية التي تبنى جزءا كبيرا من شرعيتها على الجانب الديني على اعتبار أن الملك هو "أمير المؤمنين"، والسبب الثاني يتمثل في شعبية الحزب التي يستمدها من تنامي ظاهرة الإسلام السياسي في المغرب وفي المنطقة في السنوات الأخيرة مع التراجع الكبير الذي حصل لأحزاب اليسار، والسبب الثالث يكمن في  تحسس القصر من الأحزاب السياسية المستقلة في قراراتها، يضاف إلى ذلك حاجة الرباط الماسة إلى مساعدة دول الخليج التي لا تريد لأي تجربة سياسية يقودها "إسلاميون"، لا يدينون لها بالولاء، أن تنجح.. وربما هناك أسباب أخرى لا يتسع المقام هنا للتفصيل فيها.

عقيدة النظام

خلاصة القول أن السلطة التي كانت تتخذ من مواجهة اليسار  عقيدة لها للحد من امتداده في سنوات الستينات والسبعينات وحتى ثمانيبنات القرن الماضي، وعملت كل ما في وسعها لتفتيت أحزابه وإنهاكها وقتلها رمزيا، تتخذ اليوم من مواجهة الإسلام السياسي عقيدة لها وتعتمد نفس "التكتيك" لوقف زحفه، لكنها إذا كانت قادرة في الماضي على ضرب اليسار في عمق عقيدته من خلال تغيير المناهج الدراسية آنذاك التي كانت تشجع على تدريس الفلسفة، فإنها اليوم تجد نفسها أمام استحالة القيام بنفس المهمة لأن نفس "الأيديولوجية الدينية" التي يعتمدها الإسلام السياسي للترويج لخطابه هي نفسها التي يقيم عليها النظام الملكي في المغرب شرعيته، ومهاجمتها من طرف القصر سيكون كمن يطلق النار على قدميه.

لذلك، وأمام استحالة أن تقع المواجهة بين الخصمين، سيجدان نفسيهما مجبرين على التعايش من جديد، أما عمليات الشد والجدب التي تشهدها الحملة الانتخابية اليوم فما هي سوى محاولة لإعادة ترسيم الحدود بينهما وتحديد خطوط التماس الجديدة. وفي هذه المواجهة يملك كل طرف نقاط ضعف ونقاط قوة.

نقطة قوة "العدالة والتنمية" هي أيضا  مصدر  قوته، وتكمن في براغماتية واستعداده تقديم كل التنازلات من أجل كسب ثقة القصر، وهذه هي بالضبط نقطة ضعفه لأنه يضع نفسه في موقف حرج، موقف عدم القدرة على المبادرة خوفا من الاصطدام بالقصر، وموقف المهزوم المستعد في كل لحظة للتراجع إلى الوراء.

أما القصر فنقاط قوته كثيرة لكن نقطة ضعفه الأساسية هي ازدواجية خطابه الذي يريد أن يقدم نفسه، من خلاله، للخارج كنظام ديمقراطي وفي نفس الوقت الحفاظ على سلطاته الواسعة في الداخل.

وفي كل الحالات سيجد كلا الطرفين، القصر وإسلاميو "العدالة والتنمية" ، نفسيهما  مجبران في الأخير على التعايش، ليستمر الوضع كما هو عليه الآن.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى