ندوة وطنية حول الحصيلة الدستورية تجمع الأغلبية والمعارضة
أنباء24
جمعت مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم، وزراء، و رؤساء وممثلو المؤسسات التشريعية والدستورية؛ ورؤساء الأحزاب السياسية والهيئات النقابية، مفكرين وباحثين مهتمين بالشأن السياسي والدستوري؛ في ندوة تحت عنوان "سنوات من تطبيق الدستور 2011-2016 : الحصيلة والآفاق" يوم أمس بالمكتبة الوطنية بالرباط .
واستهل محمد الدرويش رئيس مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم بمداخلة بالمناسبة حيث قال "نلتقي اليوم في فضاء فكري ثقافي يشكل التنوع والتعدد في كل المجالات أبرز عناوينه ونجتمع ونحن مختلفون باختلاف وجهات نظرنا ومواقعنا وإدراكنا للأمور وتقديراتنا. واختلافنا لا يفسد للود قضية وقضيتنا جميعاً هي الحياة في مغرب حداثي دمقراطي متطور فيه عدالة اجتماعية وكرامة وتكافؤ للفرص، مغرب يرقى إلى مصاف الدول المتقدمة والمتطورة في كل المستويات".
وذكر رئيس المؤسسة "أن المغرب منذ استقلاله سار بإيقاعات مختلفة حسب طبيعة المراحل التاريخية نحو تبني خيار التعددية السياسية والانفتاح الثقافي مما تطلب نصا دستوريا يترجم هذا الخيار ويقيم العلاقات المؤسساتية على أساسه مع إقرار مقتضيات تؤسس للاختلاف في إطار الوحدة والتماسك. وعلى هذا الأساس، شهد التفكير في المجال الدستوري نوعا من التدرج في إقرار التصور السياسي التعددي في تفاعل مع مجريات الحياة السياسية الوطنية ومع الأحداث الإقليمية والدولية المختلفة. فعلى مدار المحطات الدستورية الستة التي مر بها المغرب منذ دستور 1962 وإلى دستور 2011، ساهمت الوثيقة الدستورية، بشكل تصاعدي، في إثراء المنظومة الدستورية عبر اعتماد مبادئ وقواعد متقدمة محطة بعد أخرى، وفي تطوير الممارسة السياسية من خلال وضع الآليات الكفيلة بتشييد الصرح الديمقراطي. وهذا ما جعل التجربة الدستورية المحلية متميزة وطموحة في نفس الآن: متميزة لأنها أسست لنموذج متقدم مقارنة مع مجموعة من دول العالم الثالث التي لم تخرج من نظام الحزب الواحد ومن نطاق الهيمنة السياسية ؛ وطموحة لأنها تسعى في الأفق المنظور إلى ولوج عالم الديمقراطيات المتطورة مع الاحتفاظ بما يميز الذات المغربية".
مشيرا في مداخلته الافتتاحية" حرص المغرب على التعديل التدريجي لمجموعة من المقتضيات الدستورية بناء على نقاشات سياسية منبثقة من إكراهات الزمن السياسي ومتطلبات الواقع المجتمعي ومحتكمة لسلسلة من الاستفتاءات الدستورية التي كانت إما محط جدل سياسي كبير أو محط توافق يترجم نوعا من التراضي بخصوص الوثيقة الدستورية. غير أن محطة 2011 شكلت منعطفا مهما في التاريخ الدستوري المغربي إذ مكنت من استيعاب التحولات المجتمعية الكبرى التي أبانت عن محدودية دستور 1996 والاستفادة مما عاشه المغرب خاصة حكومة التناوب التوافقي وانتقال العرش وإطلاق الأوراش الاقتصادية والاجتماعية الكبرى".
وأضاف المتحدث في كلمته "أمام التطورات العميقة التي طبعت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الوطنية وأمام الاهتزازات السياسية والمجتمعية التي عرفها المحيط الإقليمي وما أفرزت من سياسات دولية على الصعيد العالمي، برزت من جديد المطالب الكبرى التي عبرت عنها القوى السياسية والاجتماعية والمدنية الداعية إلى توسيع مجال الحريات وترسيخ العدالة الاجتماعية وبناء مجتمع ديمقراطي حداثي. هكذا، جاء الخطاب الملكي لـ 9مارس 2011 الذي أعطى نفسا جديدا للحياة السياسية المغربية بحيث شكل مقدمة لمراجعة دستورية شمولية وفق مقاربة تشاركية واسعة تضمن مساهمة الجميع : هيئات حزبية ومنظمات نقابية ومكونات المجتمع المدني، في إبداء وجهات النظر وتقديم الاقتراحات والتعديلات. ومن ثم، تمكنت اللجنة الاستشارية الملكية، التي تم تنصيبها وتدعيمها بآلية سياسية، من الوصول إلى توافق واضح على مشروع الدستور الجديد الذي تم إقراره في فاتح يوليوز 2011".
ثم زاد "مباشرة بعد اعتماد الدستور الجديد، عملت الحكومة القائمة آنذاك على إصدار النصوص اللازمة لإجراء الاستحقاقات الانتخابية، خاصة منها تلك المتعلقة بالأحزاب السياسية ومجلس النواب ومجلس المستشارين والجماعات الترابية، تاركة مواصلة العمل لتفعيل المقتضيات الدستورية الجديدة للحكومة المنبثقة عن انتخابات نوفمبر 2011 قصد استكمال تطبيق الدستور. وفي هذا الإطار، شكل تعيين رئيس الحكومة من بين أعضاء الحزب السياسي الذي تصدر نتائج انتخاب أعضاء مجلس النواب، أول اختبار هام في تطبيق للدستور الجديد، تلته اختبارات عديدة لمقتضيات أخرى كانت موضع نقاش حيوي بين الفاعلين السياسيين من جهة ؛ ومن جهة أخرى، بين الباحثين الأكاديميين والمتتبعين الإعلاميين والمهتمين بالقضايا الدستورية".
مؤكدا "على مدار الفترات الاختبارية التي توجت بتطبيق جملة من المقتضيات الدستورية، شكلت إدارة المرحلة الانتقالية محور اهتمام واسع لمختلف الفاعلين والمتدخلين قصد الإنهاء مع الوضعية المؤقتة عبر الاستكمال النهائي لترجمة كل ما تضمنته الوثيقة الدستورية من آليات وقوانين ومؤسسات على أرض الواقع. هكذا، طفا إلى السطح نقاش عمومي حيوي حول العديد من القضايا: وضعية مجلس المستشارين، تنصيب المحكمة الدستورية، استقلالية السلطة القضائية، التأطير القانوني للديمقراطية التشاركية، ترسيم اللغة الأمازيغية، ملاءمة النصوص التشريعية لبعض المؤسسات والهيئات الدستورية، إصدار النصوص اللازمة لإحداث المؤسسات والهيئات الجديدة، تقوية تمثيلية النساء في الهيئات المنتخبة، تطبيق مبادئ الحكامة الجيدة، وغيرها من المواضيع الأساسية التي أثارت اهتمام الرأي العام الوطني".
موضحا بأن "طرح دستور 2011، في العديد من اللحظات السياسية والمؤسساتية، قضية في غاية الأهمية تتمثل في قراءة الوثيقة الدستورية وفهم محتوياتها وتأويل مقتضياتها حيث تبلورت آراء مختلفة ووجهات نظر متباينة حول العديد من البنود وصلت إلى حد التناقض أحيانا. الأمر الذي يطرح ضرورة إبراز المبادئ الكلية والأسس القانونية التي ينبغي أن تستند إليها القراءة الدستورية ويقوم عليها أي تفسير أو تأويل للدستور أثناء الممارسة. وضمن هذا السياق الخاص، توسعت النقاشات الدستورية لتشمل التوجهات الحكومية ومواقف المعارضة مما دفع المجلس الدستوري في أحيان كثيرة إلى إصدار قرارات حاسمة في وضع أسس تطبيق معين للدستور، لم يلق دائماً صدى إيجابيا من قبل الفاعلين السياسيين والمتتبعين بمن فيهم الباحثين الأكاديميين."
وعلاوة على ذلك، أبرزت بعض التجارب الدستورية الرائدة، وخاصة المجاورة، الإشكالات التي يمكن أن تطرحها الممارسة السياسية الواقعية مما يحتم ترسيخ بعد توقعي في الوثيقة الدستورية يمكنها من استشراف كل الوضعيات الممكنة القابلة للتحقق. ومن شأن الإنصات للتجارب الأخرى أن يمنحنا أفقا مغايرا للقيام بمراجعات دقيقة تستحضر الاختيارات الكبرى للبناء الديمقراطي، وتستحضر أيضا التفاصيل الأساسية الضرورية لتطبيق المقتضيات الدستورية بالشكل الأسلم.
ليختم كلمته بالقول "على هذا الأساس، واستحضارا لسنوات من التطبيق، قد تطرح للنقاش قضايا مهمة من قبيل الصعوبات المطروحة في تفعيل بعض المقتضيات الجديدة وما تقتضيه من تعديل إيجابي بصيغة أوضح أو إعادة النظر في الصيغة الدستورية من أجل تحسين مضمون النص أو إدخال مقتضيات قادرة على التوقع الأوسع للتعامل مع مختلف الوقائع الممكنة. كما يمكن بحث السبل الحامية للنص الدستوري من التطبيقات التي قد تُفرغه من محتواه أو تجعل تطبيقه رهينا بشروط ظرفية متغيرة مثل ميزان القوى بين مختلف المؤسسات الدستورية بصفة عامة، وبين الأغلبية الحكومية والمعارضة بصفة خاصة. هذا مع العلم أن كل تطوير للوثيقة الدستورية لن يبلغ مداه إلا إذا واكبته إرادة قوية في تفعيل مقتضياتها وإصلاحات سياسية وثقافية عميقة تسمح بتسريع وتيرة المسار الديمقراطي وترفع من مستوى الأداء السياسي والمؤسساتي".