سياسة

العلاقات التركية الروسية على المحك

محمد زاهد جول

كثيرة هي القضايا التي اختلفت فيها السياسة التركية مع السياسة الروسية في العقود والسنوات الأخيرة، ومنها في سنوات الحرب الباردة، ومشكلة البوسنة في بداية التسعينات، والحرب الشيشانية، ومشكلة جزيرة القرم عام 2014، وبينهما قضايا خلافية كثيرة في العديد من المسائل الدولية ومن أهمها الاختلاف على الصراع في سوريا، فروسيا قادت تحالفها في المسألة السورية مع إيران على حساب تحالفها مع تركيا، بالرغم من ان تركيا أقدر على حفظ المصالح الروسية في سوريا أكثر مما يمكن ان تفعله ايران، ولكن بشرط تغيير نظام الحكم في سوريا وإبعاد بشار الأسد، وهو أمر لا محالة متحقق ولو بعد سنوات، فلن يستطيع بشار الأسد مهما قدمت له ايران من مرتزقة مقاتلين، ومهما قدمت له روسيا من دعم جوي فلن يستطيع البقاء في الحكم، وهو بالفعل خارج الحكم حيث لا يسيطر على اكثر من 17% من الأراضي السورية بعد بعد مجيىء روسيا إلى حمايته وتثبيت حكمه في سوريا.

وبالرغم من وجود مسئولين روس يدعون للتقارب مع تركيا  عقب التوترات التي شهدتها العلاقات الروسية التركية خلال الشهرين الماضيين نتيجة انتهاك الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي في المناطق المتاخمة للحدود السورية أكثر من مرة، إلا أن السلوك العسكري الروسي المريب تواصل في انتهاك الحدود التركية، فالطائرات الروسية تواصل انتهاك الأراضي التركية وكأنها تتقصد فعل شيئا ما أو لديها خطة مخفية، وكأن لديها أهدف من تهديد الحدود التركية السورية، وقد يكون منها منع إقامة منطفة آمنة شمال سوريا، ومنع أي تحرك للمعارضة السورية عبر الحدود التركية السورية، وكان روسيا تحاول السيطرة على الحدود السورية التركية وتريد إحكام سيطرتها على هذه الحدود، باعتبار ان الجيش الروسي هو المهيمن على الأراضي السورية، ويعمل على منع أي تحرك على الحدود السورية الخارجية.

لقد دعا عدد من المسؤولين الروس إلى تهدئة الوضع والعمل على المصالحة مع القيادة التركية في الانتهاكات السابقة، ومنها تصريح ممثل روسيا الدائم لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) "ألكسندر غروشكو" حيث قال بتاريخ 7/10/2015 :" إنّ روسيا لا تكمّ العداء للدّولة التركية وإنّ القيادة الروسية تنظر لتركيا على أنها دولة صديقة، وقال:"إنّ روسيا لا تنظر إلى تركيا على أنها دولة عدوّة وإنني أؤكّد للجميع أنّ القيادة الروسية لا تمتلك خطط عسكرية تجاه الدّولة التركية".

وكذلك قال الممثل الروسي الدائم لدى الاتحاد الأوروبي "فلاديمير شيجوف":" إنّ تركيا وروسيا لا يوجد بينهما عداء وإنّ روسيا تعتبر تركيا من الدّول الصديقة وتربطهما شراكات واسعة في مجالات عدّة، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنّ العلاقات التركية الروسية لا تنحصر في مجال الطاقة فحسب، بل هناك العديد من المجالات الأخرى التي تتعامل فيها الدّولتان مع بعضهما البعض"، وأكد أن المسؤولين العسكريين الروس يراقبون الوضع العسكري في سوريا عن كثب، وأنّهم جاهزون للجلوس مع نظرائهم الأتراك لمناقشة كافة التطورات هناك.
وهنا يتم طرح سؤال مهم على القيادة العسكرية الروسية وهو لماذا أصرت الطائرات الروسية على انتهاك الحدود التركية؟ بالرغم من تحذير الأتراك لهم مراراً؟ وهل سعت القيادة العسكرية الروسية إلى إرسال الطائرة الروسية سوخوي 24 إلى انتهاك الحدود التركية لافتعال هذا الاسقاط؟ ام أن القيادة الروسية العسكرية في سوريا قد حصلت على إحداثيات خاطئة من جيش بشار الأسد، بهدف ان يقع صراع تركي روسي؟ فالجميع يتذكر أنّ العلاقات التركية الروسية شهدت نوعاً من التوتر عقب اختراق طائرة روسية للمجال الجوي التركي في الأسبوع الأول للتدخل العسكري الروسي في سوريا، وكان ذلك في ولاية هاطاي الجنوبية وما أعقب ذلك من تحرش الطائرات الروسية التي تنفذ طلعات جوية في سوريا، بالطائرات التركية التي تقوم بدوريات على طول الخط الحدودي، فالتحرك الروسي على الحدود التركية مثير للريبة والشك!!.

لقد كان الرئيس التركي أردوغان واضحا مع روسيا منذ الانتهاكات الأولى للطائرات الروسية للحدود التركية، فقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، معلقا على الانتهاك الروسي للمجال الجوي التركي، "إن حلف شمال الأطلسي (ناتو) اتخذ موقفا حيال ذلك، ونثق أنه سيستمر في اتخاذه بعد الآن، لأن أي هجوم على بلادنا يعد هجوم على الناتو"، وأضاف أردوغان "ينبغي على روسيا أن تعرف أنها إن فقدت دولة صديقة كتركيا، التي تربطها بها علاقات تعاون في الكثير من المجالات، فإنها ستفقد أشياء كثيرة"، مذكرا أن بلاده تستضيف أكثر من مليوني لاجئ سوري، ونحو 300 ألف عراقي في أراضيها، دون التمييز بين مسلم، وإيزيدي، ومسيحي، مضيفا "بشار الأسد تسبب بمقتل نحو 350 ألف شخص، ويمارس إرهاب دولة، غير أن هناك من يحميه، مثل إيران وروسيا.
لقد صرح رئيس الوزراء التركي "أحمد داود أوغلو" قبل إسقاط الطائرة الروسية بمدة غير قصيرة :"بأنّ القيادة التركية أصدرت تعليمات بوجوب اسقاط الطائرات التي تقوم باختراق المجال الجوي التركي، وذلك دون النظر إلى هوية الطائرة والجهة التي قامت بعملية الاختراق"، فالروس لا ينبغي ان يعتبر إسقاط الطائرة الروسية المنتهكة للحدود التركية طعنة بالظهر، لمجرد كونها لم تقم بعمل عدواني، لأن دخولها الأراضي التركية بعد كل هذه التحذيرات عمل عدواني سافر، لن تعمد تجاهل التحذيرات التركية.
والتصريحات السياسية التركية لم تنفك التحذير من السياسة الروسية الجديدة في سوريا، فقد قال المتحدث باسم الرئاسة التركية، "إبراهيم قالين":"إن التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية بذريعة محاربة "داعش"، خلق ديناميات جديدة في أحد أكثر الحروب دموية في الذاكرة الحديثة، وستكون له تداعياته على النظام العالمي الحالي الهش"، وقد بين قالين:"إن روسيا وإيران تستخدمان تنظيم "داعش" مبررا لإنشاء تحالف جديد في الشرق، محذرا من أن التوترات الطائفية في المنطقة تتصاعد"، ومشيرا إلى تحذير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أن المشاركة الروسية في الحرب في سوريا، ستخدم فقط نظام الأسد، وستزيد من عزلة روسيا في العالم العربي والإسلامي. 

وأكد قالين:" على ضرورة إعطاء الأولوية لتمكين المعارضة السورية المعتدلة، لإنهاء الحرب في سوريا، والقضاء على "داعش"، وبدء عملية جديدة من التحول الديمقراطي والتعددية السياسية في سوريا". كما أشار لأهمية إنشاء منطقة آمنة في سوريا، خالية من "داعش"، ومن هجمات نظام". 
وكذلك قال نائب رئيس الوزراء التركي "يالجين أكدوغان"، تعليقًا على حادثة انتهاك الطيران الروسي للمجال الجوي التركي، إن "الحدود هي شرف الدول، وانتهاكها بهذا الشكل يأتي بمثابة انتهاك لسيادتها"، وقال: "إن القضية السورية، هي ضحية ميزان القوى العالمية. وتشهد اليوم، حرب داخلية كبيرة. وتحولت إلى معادلة معقدة جدًا. ومن الواضح أن العمليات الروسية الأخيرة ليست ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" كما تدعي"، وهذه المواقف الرسمية التركية شاركت فيها المعارضة التركية أيضاً، فقد أفاد نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري المعارض، بأن:" انتهاك الطيران الروسي للمجال الجوي التركي، "أمر غير مقبول".

وقبل إسقاط الطائر الروسية قامت الطائرات الروسية بقصف مواقع التركمان السوريين في ريف اللاذقية، وقد احتجت تركيا على ذلك واعتبرته عملا غير مبرر حيث لا يوجد في تلك المناطق تنظيم داعش ولا فصائل سورية مسلحة، فهي منطقة مدنية، فلماذا تقوم الطائرات الروسية بقصفها إلا بهدف توتير العلاقات مع تركيا، وفي صباح اليوم الذي أسقطت فيه الطائرات التركية الطائرة الروسية وجهت الحكومة التركية طلبا إلى مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، لتأمين الحماية اللازمة للمدنيين السوريين ولتركمان منطقة جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي، وذلك عبر رسالة بعثتها بهذا الخصوص، فقد طالبت القيادة التركية، الأمم المتحدة بالتدخل الفوري لوقف الاعتداءات التي تنفذها قوات النظام السوري المدعومة بميليشيا حزب الله اللبناني وبغطاء جوي روسي، ضدّ المدنيين العزل في منطقة جبل التركمان، وأعربت تركيا في رسالتها عن قلقها إزاء التطورات العسكرية الحاصلة في تلك المنطقة، مشيرة إلى وجود قتلى وجرحى في صفوف المدنيين نتيجة إلقاء المقاتلات الروسية للقنابل العنقودية على المنطقة، وقد أوضحت تركيا في رسالتها أنّ منطقة جبل التركمان خالية من عناصر تنظيم داعش وجبهة النصرة، وأنّ الغارات الروسية على تلك المنطقة لا يمكن إدراجها تحت مسمّى مكافحة الإرهاب.

وقد جاء إسقاط الطائرة الروسية صباح يوم 24/11/2015 وفق قواعد الاشتبكاك التي أقرها حلف الناتو قبل شهر، وليس وفق قواعد الاشتباك التركية فقط، وقواعد الاشتباك التي حددها الناتو هي إنذار الطائرات الروسية مرتين خلال دقيقتين فقط، فإذا لم تستجب الطائرة المعادية فإن الدولة المعنية يحق لها إسقاط الطائرة المعادية، ورغم ذلك فإن الطائرات التركية قد حذرت الطائرتين الروسيتين من نوع سوخي24 أكثر من مرتين واكثر من دقيقتين، فاستجابت واحدة، وبقيت الطائرة الثانية تتجاهل الإنذارات التركية لعشر مرات وخلال خمس دقائق كاملة، بحسب الرواية التركية اولا، والتي اكدتها التقديرات العسكرية لحلف الناتو بطلب من تركيا، وقد أصدر حلف الناتو بيانه بعد ثمانية ساعات من وقوع الحادثة لتؤكد بان الطائرة الروسية قد خرقت المجال الجوي التركي.  

وللأسف فإن ردود الأفعال الروسية على إسقاط الطائرة يمثل ردود أفعال تزيد الوضع سوءا، فالتهديد الروسي بأن البارجة الروسية ستقوم بضرب أي مصدر يهدد الطائرات الروسية يعني أن روسيا سوف تكرر ضرب مواقع المعارضة السورية المعتدلة، بسبب أن هذه القوى قامت باسقاط طائرة مروحية روسيا بعد ساعات من إسقاط الطائرة الروسية سوخوي24، وغعلان هيئة الاركان الروسية مقتل جندي روسي من الطائرة المروحية، وبالتالي فإن رئاسة الأركان الروسية إن لم تكن في حالة رد فعل غير عقلاني، فإنها تدفع بالنطقة إلى مزيد من التدهور والخسارة، بينما الأفضل لها تهدئة الأوضاع، والعمل مع الأتراك لحل الأزمة السورية وفق الرؤية الدولية الكبرى، التي تضمن المصالح الروسية، بينما الرؤية الإيرانية تضمن لروسيا مزيدا من الخسائر العسكرية والمعنوية.

إن العلاقات التركية والروسية على المحك، فإما ان تندفع روسيا وراء التهور الإيراني في الحرب في سوريا ودفع فاتورة قتلى وخسائر عسكرية للجيش الروسي لا حدود لها، وإما ان تعمل وفق الرؤية الدولية والتركية بان بشار الأسد قد فقد صلاحيته كرئيس جمهورية، وهذه الرؤية التركية يؤيدها المجتمع الدولي الذي يطالب روسيا ان تعمل معه في محاربة الارهاب، بينما بوتين يراهن على تحالف مع دولة واحدة في العالم هي إيران، التي يقودها رجال دين فاقدين للوعي السياسي المعاصر، ويعيشون في كهوف التاريخ، وروسيا غير معنية بالهرطقة المذهبية الطائفية الإيرانية، ولا بمغامرات الحرس الثوري الإيراني في البلاد العربية، وإلا فإن خسارة روسيا ستكون اكبر ، وهو ما لا ترجوه تركيا لروسيا ولا لنفسها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى